أهمية الجيوسياسية للبحر الأبيض المتوسط:

يقدم المفكر الجيوبوليتيكي ماكيندر معادلة لنظريته للسيطرة على العالم وقوام هذه المعادلة انه من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض, ومن يحكم قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية, ومن يحكم الجزيرة العالمية يهيمن على العالم, ومستقبل العالم حسب ماكيندر يتوقف على حفظ التوازن العالمي بين الأقاليم الساحلية ,وهي المعادلة التي يؤكد عليها المفكر المصري جمال حمدان, حيث يرى أن منطقة الهلال الداخلي أو منطقة الارتطام وهي الحدود الساحلية للجزيرة العالمية استطاعت أن تؤكد وجودها وتفرض نفسها على التوازنات العالمية بين قوى البر وقوى البحر(18).

ويؤكد التاريخ مسار الإمبراطوريات الكبرى والقوى الراغبة في السيطرة على العالم تأكيد هذه المعادلة, إذ كانت على الدوام سيادة الإمبراطوريات الكبرى ناقصة ما لم تتوجها بإحكام القبضة على الشريط الساحلي للجزيرة العالمية ,وإخضاعها لنفوذ الإمبراطورية أو القوة العظمى.

والأمر لايختلف اليوم إذ تضع الولايات المتحدة والقوى الكبرى نصب عينيها هذه الأهمية الجيوسياسية للمنطقة الاورومتوسطية من اجل تحقيق التوازنات الكبرى لإمبراطوريتها العالمية وفي نفس السياق دخلت دول الاتحاد الأوروبي مسار الشراكة مع دول الضفة الجنوبية للمتوسط إدراكا لهذه الأهمية ولوقف الزحف الأمريكي اتجاهها.

ب-الأهمية الحضارية للمتوسط:

يعتبر المتوسط مهد الحضارات الإنسانية منذ القدم, حيث نشأت على ضفافه حضارات بلاد النهرين ,والحضارة الفرعونية والإغريقية, والفينيقية ,وحضارة قرطاج, والحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية ومن بعدها الحضارة العثمانية ,وكما انه مهبط الديانات السماوية الثلاث التوراة المسيحية والإسلام, وعلى ضفافه أيضا نشر معظم الأنبياء رسالاتهم ونشروا الدعوة التوحيدية .

هذا التنوع الثقافي الديني والحضاري, أعطى لشعوب المنطقة على مر التاريخ حوافز للتعاون والتكامل في فترات, ونوازع للقوة والغلبة والهيمنة لإعلاء حضارة معينة فكان الطابع الصراعي في فترات تاريخية بين الأمم في المنطقة.

وقد انعكس هذا التاريخ الحضاري الإنساني على شعوب المنطقة حاليا ,بنفس المكونات ونفس المفعول, إذ لا يزال الإرث التاريخي والحضاري مكونا فاعلا في وعي الشعوب وحركيتها وتفاعلاتها, ونتلمس ذلك من خلال العلاقة التي تربط المنطقتين ,وطبيعة التفاعل الذي يجمع بينهما ونوايا الحوار الحضاري الذي يقدم في كل مرة ,وهواجس الخوف التي يعاني منها كل طرف اتجاه الآخر ,كعقدة حضارية دينية أحيانا منمية للصراع ونوازع التفرقة, وكعوامل ايجابية للتنوع وإثراء الحضارة الإنسانية من منطلق القوة في التنوع (19).

ج-الأهمية الاقتصادية:

يعتبر البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة له فضاء اقتصاديا بامتياز,فعبر التاريخ شكلت الحركة التجارية في هذا الفضاء الدافع الرئيسي والمحرك لتفاعل العلاقات في المنطقة ومع باقي المناطق الأخرى, كما أن العامل الاقتصادي كان المنطلق للكثير من الصدامات التي شهدتها المنطقة,بداية من الفينيقيين الذين أسسوا موانئ ومدن تجارية بالبحر الأبيض المتوسط على غرار صور,قرطاج,صيدا,ثم جاء الرومان الذين أرسو علاقات تجارية في المنطقة ,وكانت منطقة شمال إفريقيا بمثابة مخزن روما من الحبوب والذي أنقذ الإمبراطورية الرومانية من الكثير من الأزمات الاقتصادية.

لقد شكل المتوسط منذ القديم حلقة الوصل بين منتجات الشرق الأقصى (التوابل والحرير من الهند والصين)ومنتجات الجنوب من بلاد فارس,الحبشة واليمن.

ورغم اكتشاف العالم الجديد إلا أن الكثير من العوامل ساهمت مجددا في تعظيم الأهمية الاقتصادية للبحر الأبيض المتوسط ومن هذه العوامل:

-الثورة الصناعية والحاجة إلى المواد الأولية ,إذ كان المتوسط والمنطقة الأوروبية الحاضنة الرئيسية لهذه الحركة الصناعية.

-الحركة الاستعمارية والتي جعلت من المتوسط جسر وممر عبور نحو المستعمرات لنقل المواد الأولية إلى مصانعها في الشمال.

_شق قناة السويس والتي زادت من أهمية البحر الأبيض المتوسط اقتصاديا وعسكريا ,لتسهيل تنقل بواخر النقل والشحن.

أصبح المتوسط المعبر الأسرع والأسهل لحاملات النفط اتجاه أوروبا حيث تعبر سنويا أكثر من 4مليون طن سلع و2500 باخرة وأكثر من 500باخرة صيد(20).

فبفضل المضايق البحرية والقنوات الملاحية والمعابر والأنهار, أصبح المتوسط أهم ممر تجاري في العالم,ينطلق من شرق آسيا في المحيط الهادي عابرا المحيط الهندي عند ميناء سنغافورة ليجتاز البحر الأحمر,باب المندب,قناة السويس وعبر مضيق جبل طارق نحو أوروبا والأمريكتين ليقلص المسافة التي تقطعها الأساطيل التجارية إلى النصف بالمقارنة بتلك التي تعبر إفريقيا الجنوبية (21).

فبالإضافة إلى المدخلان الرئيسيان للبحر الأبيض المتوسط من خلال قناة السويس بطول 164 كلم ومضيق جبل طارق, الذي يفصل أوروبا عن إفريقيا من جهة المغرب بمسافة 14كلم,تعتبر المضايق التركية نقطة عبور ثالثة بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط ,عبر ممر الدردنيل بعرض 5الى 13كلم والبوسفوربطول26كلم ,إضافة إلى القنوات الداخلية كقناة كورثيا بين بحر ايجة والبحر الادرياتيكي,وقناة ميدي التي تربط غرب المتوسط ومرسيليا بخليج بيسكاي المطل على الأطلسي عبر نهر الجارون(22).

هذه الأهمية التي تكتسيها جغرافية المتوسط جعلته محل أطماع القوى الكبرى, فترجمت ذلك من خلال التنافس الدولي في المتوسط, وانتشار الأساطيل العسكرية في مياهه وانتشار القواعد العسكرية, كما تترجم المشاريع والمبادرات التعاونية في المتوسط الرغبة المحلية والدولية في الاستفادة من المزايا التي يقدمها الفضاء المتوسطي, وتعكس النزاعات المستمرة في المنطقة أوجه التضارب في المصالح وتنازع القوى في الفضاء الاورو متوسطي.

-الأساطيل العسكرية في البحر الأبيض المتوسط:

بحيث نجد تمركز اكبر الأساطيل العسكرية في عرض البحر المتوسط ,على غرار الأسطول الحربي الأمريكي السادس, وأسطول السلام الروسي في قاعدة طرطوس السورية ,وانتشار القواعد العسكرية البريطانية في إقليم جبل طارق وقبرص و مالطا,إضافة إلى مستودعات الأسلحة المكدسة في إسرائيل والأسلحة النووية الأمريكية في تركيا والبوارج الحربية الإسرائيلية المحملة بالصواريخ النووية ,ويعمل انتشار كل هذه الأساطيل العسكرية والمظاهر العسكرية الأخرى في الحوض على تغذية النزاعات المستمرة في المنطقة وخلق توتر دائم(23).

 

آخر تعديل: Monday، 13 February 2017، 12:14 PM