تطور مفهوم الأمن الأوربي في علاقته بدول جنوب المتوسط
على مر التاريخ الإنساني لم يكن البحر الابيض المتوسط مجرد مانع مائي بين منطقتين جغرافيتين متجاورتين، بل كان دوما منطقة فاصلة بين حضارتين متمازتين ومختلفتين تجمع بينهما جدلية الصراع والحوار.
ومع بداية القرن العشرين أنهت أوربا مسرحا لحربين كونيتين خلفتا العديد من الآلام والضحايا أعقبتها حرب باردة أثرت في العلاقات الدولية، وأججت صراعا محموما في مجال أسلحة الدمار الشامل مما أثر في علاقات أعضائها فيما بينهم ومع الدول الأخرى.
وترجع المحاولة الأولى لإقرار سياسة دفاعية وأمنية أوربية مشتركة إلى شهر أكتوبر من سنة 1970 عندما اتفق وزراء خارجية الدول الأوربية الأعضاء في الجماعة الأوربية الى تبني استراتيجية التعاون السياسي الأوربي، الشيء الذي مكنهم من تبادل المعومات فيما بينهم في المجال الأمني.
ومع ابرام اتفاقية ماستريخت عام 1991 والتي تم بموجبها الانتقال من المجموعة الأوربية الى الإتحاد الأوربي، ظهرت السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للدول الأعضاء أو سياسة الإتحاد الأوربي العامة للخارجية والامن، وقد نصت الإتفاقية على اقرار سياسة دفاعية وأمنية مشتركة تشمل كافة القضايا المتعلقة بأمن الإتحاد الاوربي.
وفي بداية التسعينات من القرن المنصرم، دشنت الدول الأوربية من خلال الحلف الأطلسي حوارا متوسطيا، حيث بادرت إلى اقتراح إجراء حوار ثنائي مع 5 دول من الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط من بينها المغرب، وهو حوار تأسس على قناعة راسخة أن الأمن في أوربا مرتبط عضويا بالأمن في حوض المتوسط بل هو جزء محوري في الفضاء الأممي لما بعد الحرب الباردة، لهذا استعمل هذه الدول على دمج الجانب الأمني الى جانب مختلف أوجه التعاون ضمن اعلان برشلونة.
بعد هذا الجرد التاريخي للسياسة الأمنية الأوربية، فإن ظهور الأمن هو الآخر عرف تطورا في خضم تلك السياسة، فبعد ما كان مرتبطا بالعمل العسكري والمخابراتيوالتجسسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، انتقل حسب المفهوم الأوربي الى تحقيق الاستقرار السياسي والرفاه الاجتماعي والأقتصادي وتقليص الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية.
غير انه مع نهاية الحرب الباردة بدأ الأمن الأوربي يواجه تهديدات جديدة مثل الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية وتجارة المخدرات والإرهاب الدولي، وسعت من المفهوم التقليدي للأمن القائم على الأمن العسكري، ومن هذه المفاهيم الجديدة، الأمن البيئي والأمن الإقتصادي والامن التعاوني والأمن المجتمعي والأمن الإنساني.
ومثل هذه الظواهر تهدد الأمن القومي لكل دول المنطقة وليس فقط لدولة واحدة دون غيرها، مما دفع بهاته الدول الى محاولة المزج بين المقاربة الأمنية المستندة الى القوة الناعمة وهو ما سيتجلى من خلال إعطاء الضوء الأخضر لمسلسلات الشراكةمع دول جنوب المتوسط.
المطلب الثاني: تعميق الشراكة الأمنية بين المغرب والإتحاد الأوربي:
يشكل المغرب بموقعه الجغرافي مانعا من التهديدات التي تطال القارة الأوربية، وعن هذا الموقع قال الراحل الحسن الثاني أن المغرب:" يشكل جسرا بين الشرق والغرب وبين افريقيا والقارات الأخرى[1]، ومن تم فإن الرؤية الأوربية للمتوسط لا تغفل هذا المعطى، ويبقى المغرب حاضرا عمليا في السياسة الأورومتوسطية وفي تقاطع الحسابات الأمنية باعتباره قاعدة متقدمة للناتو، وجبهة دفاعية في ترتيبات الامن المتوسطي.
وتعتبر اواخر ستينات القرن الماضي نقطة انطلاق علاقات التعاون المغربي الأوربي، وقد تحكمت في تلك العلاقة مجموعة من العوامل والظروف سواء الساسيةوالإجتماعية أو الأقليمية والعالمية. وهكذا فتوقيع اتفاقيتي 1969 و 1976 طغت عليهما الهواجس الإقتصادية، وقد حضر موضوع الأمن بشكل جلي.
غير أن المغرب الذي يعتبر جزءا من المغرب الكبير وكذلك احدى الدول المهمة الواقعة جنوب المتوسط دخل في شراكات مع الاتحاد الاوربي عبر مشاريع التعاون الأورومتوسطية، وهكذا نجد أن السياسة المتوسطة الشاملة ( 1992-1972) والسياسة المتوسطية الجديدة (1992-1995)[2] كان الهدف منها هو ترويج السلع والمنتجات الأوربية، اضافة الى سهولة الوصول الى الموارد الطبيعية وغيرها من الموارد، وتجنب المشكلات الإجتماعية والسياسية المتأتية من هجرة العمال من دول الجنوب الى الإتحاد، فالشراكة كانت استجابة لحاجيات الإتحاد الأوربي الامنية في مجال محاربة الإرهاب والحد من الهجرة اليه[3]خاصة انه لم يضمن المنتجات الزراعية في الإتفاقية بداعي حماية محاصيله.
وفي سنة 1990 انطلق حوار 5+5 والذي يضم خمس دول من الإتحاد الأوربي إضافة إلى المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، وكان الهدف منه هو إعطاء دفعة جديدة للعلاقات الأورومغاربية، وفي هذا الصدد صرح وزير الخارجية الإيطالي جيوليوتيريتسى في الإجتماع الذي ضم وزراء خارجية الدول المعنية شهر فبراير 2012 أن الوقت قد حان لحوار بين الدول العشر، ما يعني مستوى جديد من التعاون بين الشركاء في مواجهة التحديات التي تواجه هذا المكان من العالم[4].
وتعتبر اتفاقية الشراكة لسنة 1996 المشار اليها انفا أهم الإتفاقيات الثنائية بين الإتحاد الاوربي والمغرب في المجال الأمني إذ نصت في بنودها على أن الإتفاق يشمل مواضيع ذات أهمية في المجال الامني بين الطرفين ومنها التاكيد على ضمان السلم والامن والمساهمة في استقرار وازدهار المنطقة المتوسطية وتشجيع التفاهم والتسامح ومحاربة المخدرات، وقد نصت الإتفاقية كذلك على أن يشمل الحوار السياسي كافة المواضيع ذات الإهتمام المشترك بين الطرفين وخاصة الشروط الملائمة لضمان السلم والأمن والتنمية الإقليمية، وتعزيز الإستقرار السياسي والتنمية الإقتصادية للمنطقة من خلال تشجيع التعاون الإقليمي، وفتح حوار سياسي منتظم في السياقين الثنائي والدولي بشأن الإهتمام المشترك، وفي المقابل التزم المغرب باحترام حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية ومكافحة الجريمة وزراعة وتجارة المخدرات والحد من الهجرة السرية ومحاربة الإرهاب.
ان الموقع الجغرافي المتحدث عنه سلفا هو الذي يجعل من المغرب كحارس لأمن أوروبا لا كشريك حقيقي، وهو ما عبر عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس في حديث خص به مجلة تايمز الأمريكية بتاريخ 19 يونيو 2000، قال:" يتعين على الإتحاد الأوربي أن يعاملنا كشريك حقيقي"، وأضاف في ذات السياق:" نحن لا نريد من أوربا ان تقدم لنا المساعدة ولا أن تتفضل علينا بالصدقة، وكل ما نطلبه منها هو أن تعاملنا كشريك حقيقي، وما دام المغرب لم يلمس هذه الإرادة فسينتج عن ذلك نوع من القلق ومن ثم سيكون من الضروري بذل جهد إضافي من أجل اعتماد نظرة لعلاقاتنا تكون مغايرة، ففي كثير من الاحيان لازالت دول شمال حوض المتوسط عندما تنظرالى دول الجنوب ترى فيها تهديدا محتملا، لقد وقعت بالتأكيد احداث يمكن أن تفسر قلق بلدان الشمال وساد بسبب ذلك سوء تفاهم طال أمده، ويتعين علينا أن نطمئن أوربا، فلا ينبغي أن نسبب أعمال العنف والإرهاب إلى مئات الآلاف من المغاربة الذين يعملون بسلام في أوربا، والواقع أن الغربيين يقعون بسهولة تحت تأثير هذا الحقد، وينبغي أن تزول هذه العقلية، واعتقد اننا جميعا في مرحلة إعادة التقويم".
تبقى الإشارة إلى أن الدور الفعال الذي يقوم به المغرب سواء على المستوى الداخلي من خلال القيام بمجموعة من الإصلاحات الإجتماعيةوالإقتصادية وتعزيز دولة الحق والقانون وسن مجموعة من التشريعات الخاصة بحقوق الإنسان. أو على الصعيد الدولي من خلال الدفاع عن قضايا السلم والتقارب بين الشعوب وكذلك من خلال مواصلة المفاوضات مع الإتحاد الأوربي من أجل التوقيع على اتفاقيات جديدة وتعزيز الشراكة الإستراتيجية في جميع المجالات، أهلته للحصول على صفة الوضع المتقدم والتي تم الإعلان عنها في بيان 13 اكتوبر 2008[5] ما يعني أن المطلوب بشكل أساسي والذي دأبت الديبلوماسية المغربية على اجرائه مع الجانب الأوربي، هو حوار يشمل المسائل الدقيقة والحساسة ذات الصلة بالأمن والإستقرار في المنطقة المتوسطية كما تبين خاصة من خلال القمة الاولى المغربية الاوربية المنعقدة في غرناطة، وهي قمة جاءت لتكلل فترة تقارب وتعاون سياسي بين الجانبين.
إن منح المغرب صفة "الوضع المتقدم"من قبل الإتحاد الأوربي تأتي ايضا متزامنة مع منح الحلف الأطلسي بمبادرة من الرئيس الأمريكي جورج بوش صفة الحليف الإستراتيجي خارج حلف الناتو.