ا-الصراع العربي الإسرائيلي: حيث يشكل هذا الصراع لب الصراعات في المنطقة ولا تشكل أطرافه إسرائيل والعرب بل كل المنطقة الاورومتوسطية ,باعتبار أن قيام هذا الكيان انطلق منذ مؤتمر سايكس بيكو البريطاني الفرنسي 1916, ووعد بلفور 1917 ,كما أن الانتداب البريطاني والفرنسي ثم التبني الأمريكي لهذا الكيان كان له الأثر البالغ في تأجيج هذا الصراع ليتحول بعد قيام هذا الكيان إلى مسلسل للسلام والتسوية ,بين الجانب العربي و الإسرائيلي منذ مؤتمر مدريد ومؤتمر أوسلو.
الطابع التوسعي للاستيطان الإسرائيلي يبقى من ابرز المعالم المؤثرة على جغرافية المتوسط
ب-النزاع في قبرص:بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك, والمقسمة إلى اليوم حيث يعترف الاتحاد الأوروبي بقبرص اليونانية ,بينما يبقى الاعتراف بقبرص التركية من قبل تركيا فقط,ونجد حضور تركيا واليونان أيضا في النزاع حول جزر بحر ايجة وهي من النزاعات المعقدة عبر التاريخ ولم تجد أية حلول لها وهي من ضحايا الجغرافية المتوسطية(24).
ج-قضية الصحراء الغربية"وهي من ضحايا الجغرافية الاورومتوسطية باعتبار أنها من تركات الاستعمار الاسباني, واستغل المغرب خروج اسبانيا من المنطقة ليقوم باجتياح المنطقة ما أدى إلى اندلاع النزاع الصحراوي ,والمقاومة المحلية من قبل جبهة البوليساريو من اجل استقلال الصحراء الغربية ,وهذه القضية بالضبط هي التي تؤثر على استقرار جغرافيا المنطقة.
د-سبة و المليلية ومضيق جبل طارق:تعتبر اسبانيا مدينتي سبة و مليلية مدنا اسبانية بينما تطالب المغرب بهما باعتبارهما منطقتين مغربيتين لا يبعدان كثيرا عن جغرافية المغرب ,واندلع نزاع بين البلدين بعد محاولة المغرب دخول هذه الجزر,كما تسعى اسبانيا إلى استرجاع إقليم جبل طارق من المملكة المتحدة, وقد عرضت اسبانيا على الأخيرة عدة اقتراحات وامتيازات لتتنازل لها عن الإقليم, بينما تصر بريطانيا على التمسك بالإقليم وتحاول بشتى الطرق إيجاد موضع قانوني وإداري للاعتراف به من قبل الاتحاد الأوروبي, وإدراجه ضمن نشاطات وسياسات التكتل الأوروبي.
6-مقومات المنطقة الاورومتوسطية:
لاشك أن المنطقة الاورومتوسطية تعد مرتكزا لتقاطع جيوستراتيجي لاستراتيجيات عالمية ومحورا بارزا في رسم السياسات الإقليمية, وبعدا حيويا للاستراتيجيات الوطنية كرقم ثابت ومهم مع كل التطورات الجيواستراتيجية التي عرفتها المنطقة, وعرفها العالم ولم تتغير تلك الثوابت الجيواستراتيجية للمنطقة في معادلة السياسة الدولية واستراتيجيات الدول, بل أنها تطورت معها وتكيفت مع كل الظروف والمتغيرات, نظرا للمقومات التي تتمتع بها المنطقة ,وتبقى المكونات الجغرافية من ابرز العوامل المؤشرة على قوة تلك المقومات ودورها في تحديد السياسات والاستراتيجيات الوطنية الإقليمية والدولية.
ومن هذه المقومات التي ترتكز عليها أهمية المنطقة الاورومتوسطية نجد:
ا-المقومات الجغرافية:ويقصد بها الأهمية الجغرافية لأي دولة من حيث الموقع والامتداد والشكل والحجم وواجهاته البحرية والمحيطية, أو موقعه الداخلي وكذا موقع العاصمة وتكامل الأقاليم الجغرافية الداخلية, ومدى تناسقها الجغرافي من تباعدها وتباينها حيث يشير الفكر الجيوبوليتيكي ومفكروه إلى أهمية الدولة وحيويتها ذات الحدود الطبيعية, وأفضليتها في وضع التكتيكات العسكرية والأمنية, إذ نجدها تتمتع بحماية وامن أكثر من تلك الدول التي لاتملك حدود طبيعية,وكذلك بالنسبة للموقع المرتبط بالمسطحات المائية وتأثير المناخ واستغلال البحار والمحيطات في النشاط التجاري والتوسع الاقتصادي حال بريطانيا,تركيا ,قبرص,بينما تعاني الدول المغلقة كالنمسا من غياب مثل هذه المسطحات المائية(25) .
وهذا ما ذهب إليه ماهان وتركيزه على القوة البحرية وأعطى مثالا لذلك على بريطانيا ,و ما كندر في نظريته مركز الأرض وقلب العالم, حيث يشير إلى الجزيرة الاوراسية كمركز للأرض ويعطي المنطقة الاورومتوسطية بعدا حاسما في نظريته, ولا يختلف التفسير الجيوبوليتيكي كثيرا عند كارل هاوسهوفر وسيبكمان, فالكل يعطي المكون الجغرافي بعدا حاسما في أهمية أي منطقة وهو ما ينطبق على جغرافية المنطقة الاورومتوسطية التي تشكل قارات العالم القديم .
ومن هذا المنطلق نجد أن دولة مثل روسيا الاتحادية تعاني على الدوام من مشكلة الحدود رغم أنها اكبر بلد مساحة في العالم, إلا أنها لاتملك حدود طبيعية تحميها مما يجعلها دوما تبحث عن التوسع من اجل خلق مناطق عازلة لحماية حدودها المشكلة من 70 بالمائة من حدود برية(26).
وهكذا تبرز دولتا مصر وتركيا كدولتين عابرتين للقارات, الأولى بين إفريقيا وآسيا ,والثانية بين أوروبا وآسيا ,وكلا الدولتين تمتلكان أكثر من واجهة بحرية فمصر دولة كما وصفها جمال حمدان بمكوناتها الأربع :الإفريقية, الأسيوية ,المتوسطية ,النيلية وواجهتها البحرية على البحر الأحمر وما تمثله قناة السويس كممر عبور دولي .
وبدورها تركيا دولة أوروبية آسيوية متوسطية, تمتلك واجهات بحرية على البحر الأسود وبحر ايجة وبحر مرمره ومضايق عبور دولية ,وهذا الوضع الجغرافي للدولتين سنجده ينعكس مباشرة على وضعهما الجيوبوليتيكي وموقعهما من السياسة الدولية واستراتيجيات الدول العظمى, رغم افتقار البلدين للمقومات الطبيعية الأخرى كالثروات المعدنية و الطاقوية.
ويعتبر موقع المغرب هو الآخر غاية في الجاذبية بواجهاته البحرية والمحيطية وقربه من أوروبا والممر المائي بين المتوسط والمحيط الأطلسي من جهة, وبين أوروبا وإفريقيا من جهة أخرى.
لقد شكلت الجغرافيا دوما الشغل الشاغل للمفكرين الاستراتيجيين وواضعي الخطط العسكرية والتكتيكات الحربية, كما أنها ضلت تشكل عقدة بالنسبة لأوروبا كون دولها دوما كانت تصطدم بالمساحة المفتوحة لروسيا ,والتي ظلت تشكل بالنسبة إليها مصدر قلق وتهديد دائم وغير متوقع وغير معين الأبعاد ,كما أن معظم الدول الأوروبية لا تتجاوز مساحتها أكثر من مائة ألف كلم2 وثلاث دول أوروبية فقط تتجاوز مساحتها النصف مليون كلم2, وهذا ما شكل عقدة أوروبية اتجاه الجغرافية جعلها تبحث عن حلول أخرى للتغلب على هذه العقدة, سواء من خلال الحروب والتوسعات والاستيطان الاستعماري في القديم وتعويض ذلك بالشراكات في العصر الحديث,نجد أن اصغر الدول مساحة في العالم تقع في أوروبا مثل :الفاتيكان ,سان مارينو,مالطا,مالدوفا,كما لا توجد أي دولة أوروبية ضمن الدول الكبرى مساحة في العالم واكبر ثلاث دول(فرنسا ,اسبانيا,كازاخستان)
ب-التضاريس:تلعب التضاريس دورا مهما في تحديد سياسات الدول وتؤثر على وضع الاستراتيجيات وتحديد الأهداف, وسياسة الدول الأخرى اتجاهها ,حيث تؤثر عوامل التضاريس والمناخ على برامج التنمية في الدولة والسياسات التحديثية, وعلى مجمل نشاطات الأفراد في البلد, كما تؤثر تلك العوامل على تباين توزيع الأقاليم النباتية, وبالتالي التأثير على تنمية المناطق ما يخلق مشاكل جهوية تتعلق بتنمية وتحديث مناطق على حساب مناطق أخرى , فعادة ما تكون الحساسيات الجهوية ضحية للتضاريس والمناخ بين المناطق الساحلية والداخلية وبين مناطق الصحاري ومناطق الهضاب والمناطق الجبلية.
ج-السكان: يتعلق تأثير عامل السكان بمدى تماسك المجتمعات داخل الدول, فالبلدان التي تتميز بالانقسامات و الاثنيات تعجز عن ترجمة مقوماتها الأخرى إلى قوة فعلية, وقدرة على التأثير وعلى العكس من ذلك تصبح عرضة للاستقطاب الخارجي والتدخل الدولي, وهو ما يتضح من خلال قراءتنا للتكوين البشري للدول الاورومتوسطية, حيث أن دول الضفة الجنوبية للمتوسط عرضة للدوام للتدخلات الخارجية نتيجة الانقسامات الحادة التي تطبع مجتمعاتها وهو ما اضعف الدول وافشل مشاريعها ,وجعلها عاجزة عن ترجمة ماتمتلكه من موارد وطاقات إلى سياسات فعلية ,على العكس من ذلك نجد أن تماسك المجتمعات الأوروبية كان عاملا حاسما في تجاوز الدول الأوروبية لمشاكلها العالقة, وتعويض النقص في الموارد والطاقات بالطاقة البشرية العضوية الفاعلة والمنتجة ,على عكس دول الجنوب المتوسطي المثقلة بمشاكل الأقليات(27).
د- المقومات الاقتصادية:فالموارد الاقتصادية من حيث حجمها ونوعيتها وجغرافية انتشارها من ابرز عوامل قوة الدولة المادية, وهي التي تجعل الدول تنتهج سياسات فاعلة وهادفة ومؤثرة في النطاق الإقليمي ,والسياسة الدولية ,وهي ورقة ضغط مهمة في ترتيب المسائل العالقة بين الدول, ويمكن أن تتحول تلك الموارد إلى أدوات استعمار وابتزاز من اجل الهيمنة والنفوذ على سياسة الدول, والبلدان التي تفتقر للموارد الاقتصادية عادة ما تعاني من تبعية قاتلة تؤثر على صياغة مواقفها السياسية ,وهو ما تشهده العلاقات الطاقوية بين أوروبا وروسيا إذ أن الأخيرة تمارس على الدوام ضغوط وابتزاز على الدول الأوروبية, بينما دول مثل الجزائر وليبيا تستغل ثرواتها الطبيعية في مواقفها التفاوضية وفي القضايا السياسية, أي أن الثروات الطبيعية تمكن الدول من انتهاج سياسة خارجية اقتصادية من اجل حماية المصالح العليا للدول بالإضافة إلى تعبئة السياسات وتلبية الاهتمامات المحلية(28).
لقد كانت الموارد الطبيعية إحدى ابرز عوامل التكامل في الكثير من التجارب الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي الذي قام على استغلال الفحم والحديد, والاتحاد المغاربي الذي أسس من اجل التكامل بين أقطاره وتحسين الاعتماد المتبادل, من خلال (الحديد الموريتاني والفوسفات المغربي والغاز الجزائري والنفط الليبي)فالطاقات الطبيعية عادة ما تساعد على التعاون والتكامل الإقليمي ,ومن ثمة تنمية العلاقات عبر الإقليمية والدولة الأكثر امتلاكا للطاقات يمكنها أن تلعب الدور المحوري في الإطار التعاوني أو التكاملي ,على غرار ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي, أو السعودية داخل مجلس التعاون الخليجي ,أو مكانة الجزائر في إطار اتحاد المغرب العربي.
ه-بالإضافة إلى النظام السياسي في البلد والذي يمكنه أن يكون العامل الحاسم في مدى استغلال أو إساءة استغلال القدرات والإمكانيات المتاحة ,وكيفية ترجمة قوة الدولة إلى قدرات فاعلة ومؤثرة, وتجنيبها تبعات النقص الذي تعاني فيه بخلق فضاءات وآليات أخرى لتمكين البلد من تجاوز عقبات التبعية .
فالبلدان الأوروبية رغم نقص الإمكانيات والموارد الاقتصادية وضعف التكوين الجغرافي إلا أن الأنظمة السياسية في هذه البلدان والمتسمة بالطابع الشعبي العقلاني والديمقراطي, المبني على أسس الشرعية والرشاد و الحوكمة العالمية, في استغلال وإدارة الموارد مكن البلدان الأوروبية من حشد جميع الطاقات واستغلال القدرات البشرية وبلورة سياسات تتمتع بالولاء الجماهيري ,وحسن تدبير ومساهمة الفاعليات الشعبية والمعرضة للمراقبة والمتابعة لسياسة الأنظمة الحاكمة, ما خلق في أوروبا جو من الثقافة الحضارية التقنية والصناعية, عظمت من الإنتاج والطاقات وخلقت فائضا في الإنتاج لتصبح قوة فاعلة في العالم حيث منبر التنافس الانتخابي, والتنافس الاقتصادي في الأسواق, هما العاملان المحددان لصلاحية الأنظمة وبقائها.
حيث أن الدول الأوروبية تمتلك أنظمة حكم عريقة التجارب الديمقراطية, تثمن ارثها التاريخي والحضاري بداية من التجارب الديمقراطية في بلاد اليونان والرومان, ومن ثمة أسست هذه الدول لتجارب ديمقراطية حديثة, نتيجة الثورات العالمية في فرنسا وبريطانيا, وانتشار ظاهرة الدساتير, وفتح الحريات والتعددية ,ثم تجاوز مرحلة الأحقاد التاريخية والتوجه نحو التكامل والتعاون من اجل بناء أوروبا ,وتغليب المصالح العامة على التوجهات الضيقة ,من خلال أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة الشعوب الأوروبية, وتترجم رغباتها في الوحدة الحرية والسلام.
على العكس من ذلك نجد أن الأنظمة السياسية في الضفة الجنوبية للمتوسط, ساهمت بإدارتها السيئة لشؤون المجتمعات, وتغليب المصالح الخاصة على مصالح الشعوب , وتمسكها بالسلطة والمؤسسات التقليدية الغير قادرة على معالجة مشاكل المواطنين ,وانتهاج سياسات ارتجالية مزاجية خاضعة للرغبات والأهواء السلطوية ,كل هذا أدى إلى سوء استغلال وإهدار قدرات وموارد الدول, وتفويت الفرص على أجيال بالكامل, فنماذج هذه الأنظمة لا تساعد وضعية الشعوب على ترجمة تلك القدرات والمميزات الهامة التي تتميز بها المنطقة الجنوبية ,والتي لاتزال محل أطماع القوى الكبرى إلى اليوم.
أدى فشل الأنظمة في الضفة الجنوبية إلى خلق أزمات متتالية, أثرت بشكل كارثي على الأوضاع العامة في هذه البلدان ,والنتيجة النهائية كانت مزيد من تعميق التبعية للشمال المتوسطي.
أدى غياب الديمقراطية والحكم الراشد عن تلك الأنظمة إلى الفشل في بناء نظام إقليمي يتيح للدول المغاربية على وجه الخصوص مواكبة التطورات والتحولات المتسارعة, التي تعرفها المنطقة الاورومتوسطية وفق مقاربة تشاركيه شاملة ,وكفيلة برفع مختلف التحديات الأمنية والتنموية .