3. نماذج للمواقع الفينيقية البونية في المغرب الأدنى
تكاد تجمع أغلب المصادر التاريخية على أن بداية التوسع الفينيقي في الحوض الغربي للبحر المتوسط يتزامن مع غزو شعوب البحر، حيث كانوا يهيمنون على الطرق في حوض البحر المتوسط إلى غاية حدود القرن الثاني عشر قبل الميلاد، مما ساعد الفينيقيين على تنمية وزيادة نشاطهم البحري بعد تقهقره بسبب المنافسة الإغريقية نتيجة غزوة شعوب البحر.
إضافة إلى بحثهم الحثيث لإسكان الفائض السكاني، واستفحال الخطر الأشوري العراقي في عهد آشور ناصر بعل856-883 ق م والضريبة التي فرضها على مدن الساحل الفنيقي، فأصبح الفينيقيون محاصرون من كل الاتجاهات فصار المخرج الوحيد هو البحر
لذلك نراهم يؤسسون المحطات التجارية في حوالي الألف الأولى قبل الميلاد في كل من قبرص ورودس، ثم ثيرا وكوثيرا، ثاسوس، وكريت، كما تدل الشواهد الأثرية على أن هؤلاء القوم كانوا قد قدموا إلى صقلية في نهاية الألف الثانية قبل الميلاد.
يرى الباحث محمد الصغير غانم أن التجار الفينيقيين كانوا قد حلوا ببلاد المغرب منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأن مستوطنة أوتيكا (Utica) قد أسست في تلك المرحلة وفي نفس الموضوع، يشير يوستن (Justin) هناك سببين لإقامة أوتيكا في شمال إفريقيا أولهما احتشاد السكان في صور، وثانيهما محاولة إخراج الشباب من المدينة والتخلص من مشاكلهم التي قد تؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح الطبقة الارستقراطية الحاكمة، خاصة وأن صور كانت تعاني من المشاكل الداخلية والمتمثلة أساسا في زيادة عدد السكان والصراع ثم التنافس مع القوى المجاورة على صعيد الملاحة والتجارة في البحر الأبيض المتوسط، كم أن وجود مستهلك يقبل بالسلع الفنيقية ويقدم لهم سلع مهمة كالمعادن والإنتاج الحيواني فهو أمر مهم.
وتعزيزا لما ذكرنا، نورد ما أورده الباحث محمد حسين فنطر:
" لقد أجمع المؤّرخون القدامى على أن مدينة أوتيكا من أقدم المصارف التي أقامها الفينيقيون في بلاد المغرب، فكانت محطة يرتكز عليها الأسطول الفينيقي للتزود بالماء والميرة ولتمكين الّنواتي من الراحة وترميم السفن إن عطبت أثناء رحلة طويلة في بحر متقّلب، ذي نزوات، لا يخلوا من الصخور ويعج بالقراصنة،... ومن المدن التي أسسها الفينيقيون بالقطر، هيبون وهي التي تحمل اسم بنزرت ، حيث أسس الفينيقيون مدينة هدرتيم وهو اسم فينيقي الأصل حوله الرومان إلى هدروميتوم بإضافة اللاحق اللاتيني توم على الجذر السامي، وأصبحت المدينة بعد الفتح الإسلامي تسمى سوسة، ومن المستوطنات الفينيقية لابد من ذكر لمطة التي تقع على الشاطئ جنوب سوسة تفصلها مسافة عنها تقدر بثلاثين كلم، أما عن اسمها القديم فلا نعرف إلا الصيغة اللاتينية، فبعد الغزو الروماني أصبحت تدعى لبتيس وتسميها بعض
النصوص لبتيس الصغرى ولعلها لقبت بالصغرى مقارنة بمدينة أخرى تقع بالجماهيرية الليبية وتسمى لبتيس الكبرى،...على أن قرطاج تبقى أعظم المستوطنات الفينيقية.
يمثل تأسيس قرطاج حدثا مركزيا في مجرى التوسع الفينيقي في غرب المتوسط، إذ تطورت هذه المدينة لتضطلع بدور هام في مستقبل الفينيقيين وكذا مستقبل البربر معا.
وقد تطورت قرطاج إلى مدينة –دولة ثم إلى عاصمة استقطبت مصالح الفينيقيين غرب المتوسط حيث تمكنوا من تأصيل الظاهرة الحضارية البونية " التي تمثل نتاجا مشتركا بين الفينيقيين والبربر، إضافة إلى مختلف شعوب محيطهم الجديد وتفاعلهم معها".
ولئن لم يكن تأسيس قرطاج في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد (814ق م) حدثا مستجدا، حيث أن أولى المراكز الفينيقية المشار إليها سابقا ترجع إلى أواخر القرن الثاني عشر ق م، فإن قرطاج – خلافا لسابقاتها – انفردت بأهم الأدوار التاريخية لذلك تبدو في مظهر المركز الذي يختزل التاريخ البوني.
يتضح ذلك من خلال المكانة التي أولتها المصادر التاريخية الإغريقية واللاتينية لتأسيس قرطاج، وهي روايات تتجاوز في صيغتها التاريخية