Aperçu des sections
-
-
مصادر الالتزام
-
-
تمهيد
تنقسم الحقوق عموما الى حقوق سياسية وأخرى مدنية، فأما الحقوق السياسية فهي تلك التي تثبت للمواطن باعتباره عضو في جماعة سياسية معينة تخوله حق المشاركة في حكم وادارة هذه الجماعة وهي حقوق مقررة للمواطنين فقط دون الأجانب.
أما الحقوق المدنية فهي تلك التي تثبت للأفراد مواطنين كانوا أو أجانب واللازمة لأجل ممارستهم لنشاطهم العادي في المجتمع.
وتنقسم الحقوق المدنية بدورها إلى حقوق غير مالية وهي تلك التي لا تٌقوم بمال وبالتالي تخرج عن دائرة التعامل بحيث لا يجوز التعامل فيها، وتتمثل في حقوق الشخصية وحقوق الأسرة أو الحقوق العائلية، وإلى حقوق مالية وهي تلك التي يمكن تقويمها بمال، وتتميز بأنها قابلة للتعامل فيها، وهي نوعين: حقوق شخصية وحقوق عينية.
وإلى جانب الحقوق المالية والحقوق غير المالية توجد حقوق ذات طبيعة مزدوجة أي فيها جانب مالي وآخر غير مالي أي فيها جانب مالي وآخر غير مالي او معنوي، وهي الحقوق الذهنية أو الحقوق المعنوية، كحق الملكية الصناعية وحق المؤلف.
ولكل من الحقوق السابقة تشريع خاص يتكفل بتنظيمها ولقد تكفل القانون المدني الجزائري بتنظيم الحقوق المالية فقط حيث بعد ان تطرق في الكتاب الاول الى الاحكام العامة المتعلقة بتطبيق القانون والأشخاص الطبيعية والاعتبارية، خص الكتاب الثاني منه لتنظيم الحقوق الشخصية تحت عنوان: الالتزامات والعقود وهذا بموجب المواد من 53 إلى 673 منه. وخص الكتابين الثالث والرابع لتنظيم الحقوق العينية بموجب المواد من 674 الي 100 منه (الكتاب الثالث للحقوق العينية الأصلية والكتاب الرابع للحقوق العينية التبعية).
تعريف الحق العيني: هو سلطة مباشرة يخولها القانون لشخص معين على شيء معين بذاته يكون له بمقتضاها أن يستعمله وأن ينتفع به وأن يتصرف فيه دون حاجة الحاجة إلى وساطة شخص آخر وفي حدود القانون.
وتنقسم الحقوق العينية إلى حقوق عينية أصلية وهي التي تقوم بذاتها مستقلة من دون أن تستند في وجودها الى حق آخر تتبعه كحق الملكية والحقوق المتفرعة عنها، والى حقوق عينية تبعية وهي التي لا تقوم الا تابعة لحق شخصي تضمن الوفاء به مثل حق الرهن الرسمي والحيازي.
تعريف الحق الشخصي: الحق الشخصي او حق الدائنية هو رابطة او حال قانونية بين شخصين يسمى أحدهما بالدائن والاخر بالمدين بموجب هذه الرابطة يكون للدائن مطالبة المدين التزامه بأداء مالي معين يتمثل في اعطاء شيء، القيام بعمل او الامتناع عن عمل. وعلى هذا يتكون الحق الشخصي من ثلاثة عناصر هي الدائن المدين وموضوع الحق خلافا للحق العيني الذي يتكون من عنصرين فقط هما صاحب الحق والشيء موضوع الحق.
ولهذه الرابط القانونية القائمة بين الدائن والمدين وجهان:
وجه ايجابي بالنظر اليها من زاوية الدائن وتسمى حقاً على اعتبار أن للدائن حق مطالبة المدين بأداء معين، ووجه سلبي بالنظر إليها من زاوية المدين وتسمى التزاماً على اعتبار أن المدين ملزم قانونا تجاه الدائن بأداء المعين.
وتقتصر دراستنا على الحقوق الشخصية او الالتزامات دون الحقوق العينية، وقبل هذا يجدر بناء التمهيد لهذه الدراسة بالتعريف بنظرية الالتزام والالتزام خصوصا.
فصل تمهيدي: مدخل الى نظرية الالتزام
اولا: التعريف بنظريه الالتزام
ثانيا: التعريف بالالتزام
ثالثا: ترتيب مصادر الالتزام
فصل تمهيدي: مدخل الى نظرية الالتزام
اولا: التعريف بنظرية الالتزام
1/ موضوع نظرية الالتزام: هو الحق الشخصي الذي يطلق عليه اسم الالتزام إذا نظر اليه من ناحية المدين الذي في ذمته المالية التزام بأداء معين لصالح الدائن.
وقد درجه شراح القانون المدني على استعمال اصطلاح نظرية الالتزام بدل اصطلاح نظرية الحق الشخصي على اساس ان الناحية الغالبة في العلاقة بين الدائن والمدين هي الناحية السلبية اي الالتزام ولا أدل على ذلك من امكانية ان ينشأ الالتزام دون وجود دائن معين وقته نشوئه كما في حالة الوعد بجائزه ويمكن كذلك أن يوجد الالتزام مع عدم امكان إلزام المدين على الوفاء به كما في حالة الالتزام الطبيعي
2/ مفهوم وأهمية نظرية الالتزام: تتضمن نظرية الالتزام بمجموعة القواعد العامة والمبادئ الكلية التي تنظم علاقات ونشاطات الأفراد ذات الطابع المالي داخل المجتمع، فهي بهذا تٌشكل العمود الفقري للقانون المدني، وهو ما أهلها لأن تكون القاعدة العامة التي يجب الوضوء اليها سواء في القانون المدني أو في القانون التجاري او في القوانين الاخرى طالما أنه لم يوجد نص خاص في هذه القوانين.
فمثلا نظرية التصرف القانوني ونظرية التعسف في استعمال الحق ونظرية المسؤولية المدنية ليست مقصورة في تطبيقها على علاقات الأفراد فيما بينهم بل يشمل أيضا علاقاتهم بالسلطة العامة، كما تطبق على العلاقات الدولية وإن كان تطبيقها في هذا المجال وغيره يشملها من التحوير بالقدر الذي يتناسب مع خصوصية وطبيعة هذه العلاقات (فالمسؤولية الدولية والمسؤولية الإدارية جاءت نتيجة تطور المسؤولية المدنية).
3/مميزات نظرية الالتزام: تمتاز نظرية الالتزام بالمميزات التالية
تتضمن نظرية الالتزام مبادئ كلية: فهي لا تتضمن ولا تتناول الأحكام والقواعد التي تحكم التزام بعينه، كالتزام البائع بنقل ملكية الشيء المبيع الى المشتري، بل تتناول الأحكام الأساسية العامة التي تخضع لها الالتزامات في مجموعها بصرف النظر عن ذاتيه كل الالتزام.
تمتاز بشيء من الثبات والاستقرار: على أساس أنها تتضمن المبادئ العامة التي تخضع لها الالتزامات في مجموعها من دون ان تتطرق الى الجزئيات والتفاصيل.
تتميز قواعد نظرية الالتزام بالطابع النظري والمنطقي في ذات الوقت: فقد استند واضيعها أي فقهاء القانون الروماني الى المنطق وهذا بعد تجريد الالتزام من ذاتية موضوعه وشخصية طرفيه.
4/تطور نظرية الالتزام: يرجع أصل صياغة نظرية الالتزام الى القانون الروماني ثم انتقلت بعدها الى القانون الفرنسي، وتعرضت الى اعادة صياغتها وبلورتها على يد الفقيهين دوما Domat وبوتيه Pothier، وقد استمد المشرع الجزائري أحكام نظرية الالتزام كغيره من القوانين العربية من القانون الفرنسي مع تكملتها ببعض أحكام الشريعة الإسلامية.
وتعد نظرية الالتزام أكثر أجزاء القانون ثباتا واستقراراً، لما تتصف به من تجريد ومنطقية، إلا أنها تخضع لسنة التطور كباقي الشرائع والنظم الدنيوية الأخرى حيث نالها بعض التغيير والتطوير من حيث الصياغة القانونية ومن حيث فكرة الالتزام بذاته.
فمن حيث الصياغة القانونية لم يكن القانون الروماني يعرف القاعدة المعروفة اليوم وهي قاعدة كل من سبب بخطائه ضرر للغير يلزم بالتعويض كما لم يعرف مبدأ الرضائية في العقود، حيث كان الأصل في ظله هو شكلية العقود.
أما فكرة الالتزام ذاتها فقد تطورت تحت تأثير تطور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأدبية، حيث يظهر تأثير الظروف السياسية والاجتماعية على فكرة الالتزام خصوصا بعد انتصار المذاهب الاشتراكية على حساب المذهب الفردي، وهو الذي ترتب عليه تراجع مبدأ سلطان الإرادة وظهور العقود الموجهة التي يتكفل القانون بوضع أهم شروطها بدل إرادة المتعاقدين كعقد العمل وعقد التأمين وعقد الشركة.
أما التطور الاقتصادي فقد أدى إلى ظهور نظريات وقواعد جديدة تثمن باقي القواعد التي تضمنتها نظرية الالتزام مثلا نظرية تحمل التبعة وعقد التزام المرافق العامة وإقامة المسؤولية المدنية على أساس الضرر أما العوامل الأدبية فقد ساهمت في ظهور مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود كما في المادة 108 ق م ونظرية الإثراء بلا سبب ونظريتا الغبن والاستغلال.
ثانيا: مفهوم الالتزام
1/تعريف الالتزام: يتنازع تعريف الالتزام مذهبان مذهب شخصي ينظر الى الالتزام على أنه رابطة بين شخصين ويمثل هذا الاتجاه المدرسة اللاتينية ومذهب مادي ينظر الى الالتزام على أنه رابطه بين ذمتين ماليتين ويمثل هذا الاتجاه المدرسة الجرمانية.
أ- المذهب الشخصي في الالتزام: يعني هذا المذهب بالناحية الشخصية في الالتزام على حساب محل الالتزام، حيث يعتبر الالتزام رابطة بين شخصين شخص المدين وشخص الدائن، ويأخذ فيها خصوصا شخص المدين بعين الاعتبار، وعليه يعطي هذا المذهب للدائن سلطه على شخص المدين تشبه السلطة المقررة لصاحب الحق العيني على الشيء محل الالتزام فقد كان القانون الروماني يعطي في ظله للدائن حق حبس المدين ان هو لم يسدد الدين الذي عليه.
ويترتب على الأخذ بهذا المذهب عدم جواز انتقال الالتزام من ناحية الدائن باعتباره حقا عن طريق حوالة الحق ومن ناحية المدين باعتباره التزام ودينا عن طريق حوالة الدين، سواء كما لا يمكن تصور وجود الالتزام بدون أحد طرفي الدائن خلافا للمذهب المادي.
ب-المذهب المادي في الالتزام: يغلب هذا المذهب الناحية المادية في الالتزام على حساب الناحية الشخصية فيه، حيث ينظر الى الالتزام باعتباره رابطة قانونية مادية بين ذمتين ماليتين، فهو حقا في ذمة الدائن والتزاما ودينا في ذمة المدين وعليه لا يعطي هذا المذهب أي اعتبار لشخص الدائن وشخص المدين.
ويترتب على الأخذ بهذا إمكان نشوء الالتزام بدون وجود كلا طرفين، طالما وجد محل الالتزام في ذمة شخص المدين كما هو الحال في الوعد بجائزة الموجه للجمهور والاشتراط لمصلحة من سيوجد مستقبلا، إذ يكفي فقط وجود شخص المدين وقت نشوء الالتزام.
كما يترتب على الأخذ بهذا المذهب قابلية الالتزام للانتقال باعتبار حقاً عن طريق حوالة الحق أو باعتباره ديناً عن طريق حوالة الدين، كما يقبل الانتقال بعد الوفاة باعتباره حقا الى الورثة.
ج-موقف المشرع الجزائري: أخذ المشرع الجزائري كقاعدة عامه بالمذهب الشخصي في الالتزام ويتجلى ذلك أساسا من خلال التعريف الوارد في نص المادة 54 من القانون المدني " …بموجبه يلتزم شخص او عدة اشخاص اخرين نحو شخص او عدة اشخاص اخرين…" فهو ينظر الى الالتزام على أنه رابطة بين أشخاص وليس رابطة بين ذمتين ماليتين.
واستثناء من ذلك اخذ المشرع بأهم تطبيقات المذهب المادي وذلك من خلال إمكان حوالة الحق طبقا للمادة 239 ق م وإمكان حوالة الدين طبقا للمادة 251 ق م، وإمكان قيام الالتزام دون وجود دائن معين وقت نشوئه كما في الوعد بجائزة طبقا للمادة 223 مكرر ق م، وفي الاشتراط لمصلحة شخص مستقبلي أو هيئة مستقبلية طبقا للمادة 118ق م.
2/ خصائص الالتزام: يتميز الالتزام بالخصائص التالية:
الالتزام رابطة بين أشخاص: الالتزام رابطة بين طرفين، طرف إيجابي وهو الدائن وطرف سلبي وهو المدين، حيث يلتزم مدينا معينا بالقيام بعمل معين أو إعطاء شيء محدد لمصلحة دائن معين، وهو بهذا يتميز ويختلف عن الالتزام العام المجرد الذي تفرضه القاعدة القانونية، حيث لا يلتزم شخص بعينه فهو موجه لجميع الناس، كما يختلف عن الحق العيني الذي هو سلطة مباشرة لشخص معين على شيء معين بذاته.
ولا يشترط في الالتزام وجود كلا طرفيه الدائن والمدين إلا عند تنفيذه إذ يمكن أن ينشأ الالتزام بوجود المدين فقط والعكس غير صحيح.
محل الالتزام هو القيام بأداء مالي معين: هذا الأداء قد يتمثل في قيام المدين بإعطاء شيء او القيام بعمل معين لحساب الدائن كدفع مبلغ من النقود أو صنع شيء، وقد يكون الامتناع عن عمل معين كان يجوز ويمكن للمدين القيام به قبل نشوء الالتزام، كامتناع تاجر معين(مدين) عن منافسة تاجر آخر (دائن) في نشاط معين.
وما يميز هذا الاداء أنه يمكن تقويمه بالنقود وهو بهذا يختلف عن الواجب القانوني كواجب أداء الخدمة الوطنية، ليله اعتبر بعض الفقهاء الالتزام واجب قانوني خاص.
ويترتب على اعتبار الالتزام أداء مالي يقوم بالنقود قابليته للانتقال من شخص لآخر أثناء الحياة وبعد الموت، حيث ينتقل أثناء الحياة بحوالة الحق من دائن لآخر، وبطريق حوالة الدين من مدين لآخر، كما ينتقل إلى الورثة بوفاة الدائن باعتباره حقاً، حيث لا تنتقل الى الورثة إلا الحقوق أما ديون المدين فتسدد من تركته ولا تٌلزم الورثة بعد وفاته.
الالتزام رابطة قانونية: أي يعتد به قانونا بحيث يمثل واجب قانوني في ذمة المدين وعليه إذا لم يقم المدين بتنفيذه باختياره وطواعية كان بوسع الدائن اجباره على تنفيذه بالطرق القانونية، وهذا ما يميزه عن الالتزام الخلقي او الديني وعن الالتزام الطبيعي.
3/ عناصر الالتزام: يتكون الالتزام من عنصرين عنصر المديونية وعنصر المسؤولية.
- عنصر المديونية: ويتمثل في ذلك الواجب الذي يفرض على المدين القيام بأداء معين لمصلحة شخص آخر وهو الدائن، حيث من خلال هذه المديونية تعتبر ذمة المدين مشغولة بدين معين وتبرأ ذمته بالوفاء الاختياري ولا يستطيع الدائن الإستناد الى عنصر المديونية هذا لإجبار المدين على الوفاء بالالتزام.
-عنصر المسؤولية: ويتمثل في الحماية القانونية التي يقرها القانون لشخص الدائن حيث إذا لم يف المدين بالتزامه باختياره جاز للدائن إجباره على التنفيذ، وعليه فعنصر المسؤولية هو الذي يسند ويدعم عنصر المديونية حيث لا توجد مسؤولية دون مديونية، ومنه فالمديونية تأخذ حكم الغاية والمسؤولية تأخذ حكم الوسيلة الموصلة إليها.
والأصل في كل التزام توفر عنصري المسؤولية والمديونية معاً، ومع هذا يمكن أن توجد مديونية دون مسؤولية تدعمها كما هو الحال في الالتزام الطبيعي حيث لا يمكن للدائن إجبار المدين على الوفاء بالالتزام الطبيعي على الرغم من قيام عنصر المديونية وهذا لتخلف عنصر المسؤولية، ومع هذا إذا وفى المدين بالالتزام الطبيعي باختياره مع علمه بذلك كان وفاؤه صحيحا ولا يعتبر متبرعاً فهو يفي بدين مشغولة به ذمته، وبالتالي لا يمكنه إسترداد ما أداه للدائن.
ويمكن أن تقوم المسؤولية عن مديونية غير ذاتية، أين يكون الشخص مسؤولا عن دين ليس في ذمته هو وإنما في ذمة شخص آخر ويجبر على الوفاء به، كما هو الحال بالنسبة للكفيل الشخصي أو العيني حيث يضمن الكفيل الوفاء بدين في ذمة شخص اخر هو المدين المكفول. فاذا لم يف هذا الاخير بالدين او الالتزام الذي في ذمته جاز للدائن مطالبة الكفيل به على الرغم من أنه ليس مدينا شخصيا بهذا الدين.
4/أنواع الالتزام: ينقسم الالتزام من حيث الحماية القانونية الى التزام مدني والتزام طبيعي، ومن حيث المحل الى التزام بإعطاء والتزام بعمل والتزام بالامتناع عن عمل، ومن حيث مدى اتصال الأداء الذي التزم به المدين بالغاية التي يسعى الدائن الى تحقيقها الى التزام بذل عناية والتزام بتحقيق نتيجة، ومن حيث المصدر المنشئ له الى التزام إرادي والتزام غير إرادي. (هذه أهم أنواع الالتزام وليست كلها، حيث سنعود للأنواع الاخرى عند البحث في احكام الالتزام).
أ- الالتزام المدني والالتزام الطبيعي: الالتزام المدني هو ذلك الالتزام الذي يتكون من عنصري المديونية والمسؤولية معا، لذا يمكن للدائن انطلاقا من عنصر المسؤولية إجبار المدين على تنفيذ ما التزم به بالطرق القانونية، وبهذا نقول ان الدائن بالالتزام المدني يتمتع بالحماية القانونية الكافية التي تضمن له استيفاء حقه من المدين.
أما الالتزام الطبيعي فهو ذلك الالتزام الذي يتكون فقط من عنصر المديونية ويفتقد لعنصر المسؤولية، حيث إذا لم يف المدين بالتزامه طواعية لم يكن في وسع الدائن إجباره على الوفاء به نظرا لافتقاد هذا الالتزام لعنصر المسؤولية، وبذلك نقول بأن الدائن بالالتزام الطبيعي لا يتمتع بالحماية القانونية اللازمة لاستيفاء حقه طبقا للمادة 160 الفقرة 02 ق م.
وينشأ الالتزام الطبيعي عند افتقاد الالتزام المدني لعنصر المسؤولية، كما في حالة كما انقضاء الالتزام المدني بالتقادم، حيث طبقا للمادة 320 من القانون المدني يترتب على التقادم انقضاء الالتزام اي المدني ولكن يتخلف في ذمة المدين التزام طبيعي (كما يرتب القضاء المصري على عقد الهبة الباطلة لعيب في الشكل التزام طبيعي في ذمة الواهب، نقض مدني مصري 10 فيفري 1986).
وطبقا للمادة 161 من القانون المدني ترك المشرع الجزائري للقاضي سلطة تقديرية في حالة عدم وجود نص تقدير ما إذا كان هناك التزام طبيعي بشرط ألا يخالف هذا الالتزام النظام العام (استنادا لهذا المبدأ قرر القضاء المصري ترتيب التزام طبيعي في ذمة الواهب في الهبة الباطلة لعيب في الشكل).
ويقترب الالتزام الطبيعي من الالتزام المدني من حيث أن المشرع اعتد به ورتب عليه اثرين قانونيين هامين هما:
- إذا نفذ المدين التزامه مختارا وهو يعلم أنه يوفي بالتزام طبيعي كان تنفيذه صحيحا حيث لا يستطيع ان يسترد ما اداه للدائن فهو لا يعتبر متبرعا كما في الالتزام الاخلاقي والديني ولا هو موفيا بما هو غير مستحق عليه طبقا للمادة 162 من القانون المدني.
- ينقلب الالتزام الطبيعي الى التزام مدني بطريق التجديد إذا تعهد المدين الوفاء به، حيث يمكن للدائن الاستناد إلى هذا التعهد لإجبار المدين على تنفيذ التزامه طبقا للمادة 163 من القانون المدني" يمكن الالتزام الطبيعي أن يكون سبب لالتزام مدني".
ب- الالتزام بإعطاء، الالتزام بعمل والالتزام بالامتناع عن عمل.
- الالتزام بإعطاء: هو ذلك الالتزام بإنشاء حق عيني أو بنقله كالتزام المالك بإنشاء حق ارتفاق والتزام البائع بنقل ملكية الشيء المبيع والتزام المشتري بدفع الثمن...الخ.
- الالتزام بعمل: يمكن أن يكون محل الالتزام قيام المدين بعمل معين لحساب الدائن او غيره، ويكون هذا في الحالات التي يتعهد فيها المدين بممارسة نشاط معين لحساب الدائن مثل التعهد بصنع شيء ما او اصلاحه أو نقل سلعة ما او اجراء عملية جراحية...الخ.
ومثلما يكون هذا العمل ماديا يمكن كذلك أن يلتزم المدين القيام بعمل قانوني كما هو الحال بالنسبة للالتزام الوكيل بإبرام تصرف قانوني معين نيابة عن الأصيل ولحسابه وقيام المحامي برفع دعوى لصالح موكله.
وإذا لم يقم المدين بتنفيذ الالتزام بعمل جاز للدائن أن يطلب ترخيصا من القضاء لتنفيذه على نفقة المدين متى كان ذلك ممكنا طبقا للمادة 170 من القانون المدني، اما اذا كانت شخصية المدين محل اعتبار في الالتزام بعمل حسب الاتفاق او بحسب طبيعة الدين بحيث لا يمكن ان ينوب عنه غيره في الوفاء به كالتزام الطبيب والرسام والممثل...الخ فإن للدائن الحق في أن يرفض الوفاء بالالتزام من غير المدين طبقا للمادة 169 من القانون المدني كما له الحق في حالة رفض المدين تنفيذ التزامه بنفسه اللجوء الى القضاء للمطالبة بالتعويض المالي او طلب فرض الغرامة التهديدية (التهديد المالي) عن كل يوم يتأخر فيه المدين عن الوفاء بالتزامه طبقا للمادة 174 ق م (لا يمكن في هذه الحالة المطالبة بالتنفيذ العيني للالتزام بعمل اي جبر المدين على الوفاء بما التزم به، لان هذا فيه مساس بحريته الشخصية فلا يمكن مثلا إجبار فنان على إحياء سهرة فنية تعهد بها سلفا).
-الالتزام بالامتناع عن عمل: قد يلتزم المدين بالامتناع عن عمل معين كان يمكنه القيام به قبل نشوء الالتزام، كأن يلتزم بائع المحل التجاري بعدم منافسة المشتري في نشاط معين أو في مكان معين (الامتناع عن عمل مادي)، والتزام المشتري بعدم التصرف في الشيء المبيع طبقا للشرط المانع من التصرف (الامتناع عن عمل القانوني).
وطبقا للمادة 173 من القانون المدني إذا أخل المدين بهذا الالتزام جاز للدائن أن يطالب بإزالة ما وقع مخالفا للالتزام بالامتناع عن عمل، ويمكنه أن يحصل في سبيل ذلك على ترخيص من القضاء للقيام بهذه الإزالة على حساب ونفقة المدين.
ج- الالتزام ببذل عناية والالتزام بتحقيق نتيجة
- الالتزام بتحقيق نتيجة: هو ذلك الالتزام الذي يكون فيه مضمون التزام المدين يمثل الغاية التي يسعى الدائن الى تحقيقها من جراء إلزام المدين، مثل التزام البائع بنقل الملكية والتزام المشتري بدفع الثمن، فمضمون التزام البائع (المد ين) المتمثل في نقل الملكية هو نفسه هدف المشتري(الدائن) من الالتزام، ومضمون التزام المشتري (المدين) بدفع الثمن هو نفسه هدف البائع (الدائن) من الالتزام…الخ
- الالتزام ببذل عناية: هو ذلك الالتزام الذي لا يكون فيه مضمون أداء المدين هو الغاية والهدف النهائي الذي يسعى الدائن الى تحقيقه من وراء الزام المدين به بل يمثل فقط الوسيلة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق غاية الدائن وهدفه النهائي ولهذا يسمى هذا الالتزام أيضا بالالتزام بوسيله، مثل التزام الطبيب فهو لا يتعهد بشفاء المريض (الدائن) وإنما يتعهد بعلاجه حسب الأصول الطبية المتعارف عليها لأجل الوصول الى الهدف النهائي للمريض وهو الشفاء، حيث أن مضمون التزام الطبيب(المدين) هو العلاج(وسيلة) وهدف المريض(الدائن) هو الشفاء فالطبيب هنا لا يلتزم بتحقيق الشفاء(نتيجة) وانما يلتزم ببذل العناية اللازمة لأجل الشفاء.
وتقسيم الالتزام إلى التزام ببذل عناية والتزام بتحقيق نتيجة لا يكون إلا إذا كان محل الالتزام هو القيام بعمل، اما إذا كان محل الالتزام إعطاء شيء أو الامتناع عن عمل فهو دوما التزام بتحقيق نتيجة.
وتكمن أهمية هذا التقسيم خاصة في مجال إثبات تنفيذ الالتزام من عدمه، ففي الالتزام بتحقيق نتيجة لا تبرأ ذمة المدين من الالتزام إلا إذا تحققت النتيجة المقصودة من الالتزام طبقا للمادة 172 من القانون المدني، وعليه يكفي الدائن ان يثبت ان النتيجة لم تتحقق حتى يكون المدين مسؤولا عن عدم التنفيذ أو مسؤولا عن التنفيذ الناقص للالتزام دون الحاجة لإثبات اهمال المدين او عدم بدله العناية اللازمة في ذلك، ما لم يثبت هذا الاخير ان عدم تحقق النتيجة يرجع لسبب أجنبي لا يد له فيه (قوة قاهرة، فعل الغير، فعل الدائن).
اما في الالتزام ببذل عناية تبرأ ذمة المدين من الالتزام ولو لم تتحقق النتيجة المقصودة إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي ما لم ينص القانون ويقضي الاتفاق بخلاف ذلك، حيث لا يكون المدين مسؤولا عن عدم تحقق النتيجة الا إذا اثبت الدائن إهمال المدين وعدم بدله من الجهد والعناية ما يبذله الشخص في تنفيذ التزامه.
وعليه وطبقا للمادة 172 من القانون المدني يقاس مدى تنفيذ المدين لالتزامه بمعيار الرجل العادي، وهو رجل من وسط الناس لا هو شديد الحيطة والحذر، ولا هو مهمل قليل العناية، فإذا بذل المدين من العناية ما يبذله الرجل العادي هذا او أكثر يكون قد وفى بالتزامه حتى ولو لم تتحقق النتيجة المرجوة، وإلا كان مسؤولا عن ذلك أي إذا لم تصل عنايته حد عناية الرجل العادي.
واستثناءً مما تقدم يجيز المشرع للدائن والمدين في الالتزام ببذل عناية الاتفاق على معيار آخر غير معيار الرجل العادي أي يجوز لهما الاتفاق على الاعفاء او الزيادة من قدر العناية المطلوبة من المدين في تنفيذه لالتزامه مع بقاء المدين في جميع الأحوال مسؤولا عن غشه وخطئه الجسيم في تنفيذ الالتزام طبقا للمادة 172 الفقرة 02 ق م.
كما أن القانون في بعض الحالات يشترط على المدين أن يبذل من العناية في تنفيذ التزامه ما يبذله في شؤونه الخاصة كما في عقد عارية الاستعمال حيث طبقا للمادة 544 من القانون المدني يجب على المستعير (المدين) أن يبذل في المحافظة على الشيء المستعار العناية التي يبذلها في المحافظة على ماله الخاص بشرط أن لا تنزل عن عناية الرجل العادي، وفي عقد الوديعة بغير أجر على المودع لديه (المدين) أن يبذل من العناية في حفظ الشيء المودع لديه ما يبذله في حفظ ماله الخاص طبقا للمادة 592 ق م ( إذا كانت العارية باجر والوديعة باجر يؤخذ بمعيار الرجل العادي طبقا للقاعدة العامة).
د- الالتزامات الإرادية والالتزامات غير الإرادية
تنقسم الالتزامات من حيث مصدرها إلى التزامات إرادية والتزامات غير إرادية، أما الالتزامات الإرادية فهي تلك التي تتجه الارادة الى انشائها خاصة إرادة المدين (وجود الإرادة ضروري لوجود وقيام الالتزام على الأقل ارادة المدين) وتنشأ عن العقد بتوافق إرادة الدائن والمدين معاً، كالالتزامات التي تنشأ عن البيع والايجار...الخ، وعن الارادة المنفردة للمدين كما في الوعد بجائزة وفي الإيجاب الملزم.
أما الالتزامات غير الارادية فهي تلك التي تنشأ من دون ان تتجه ارادة المدين إلى إنشائها فهي تنشأ بسبب مستقل عن الإرادة (وجود الإرادة او انعدامها لا يتحكم في وجود الالتزام من عدمه) وهي بذلك تلك الالتزامات التي تنشأ اما عن القانون أو العمل غير المشروع أو عن الإثراء بلا سبب.
ومن هنا جاء تقسيم مصادر الالتزام الى قسمين مصادر إرادية وتتمثل في العقد والإرادة المنفردة ومصادر غير إرادية وتتمثل في القانون العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب.
ثالثا: ترتيب مصادر الالتزام
يقصد بمصدر الالتزام السبب القانوني المنشئ له، ويرجع الى القانون نشأة جميع الالتزامات فلا يقوم اي الزام الا إذا أقره القانون واعترف به ، حيث يعتبر مصدرا غير مباشر لها لأنه يعلق نشوؤها على حدوث وقائع محددة تعد بمثابة المصدر المباشر لها، فالالتزامات الناشئة عن العقد وعن العمل غير المشروع مصدرها القانون لان القانون هو الذي جعلها تنشأ من مصادرها فحدد اركانها وبين أحكامها ، فهذه الالتزامات لها مصدر مباشر تنشأ عنه مباشرة وهو إما العقد ، الادارة المنفردة ، العمل غير المشروع أو الاثراء بلا سبب ،أما مصدرها غير المباشر فهو القانون.
غير أن هناك من الالتزامات ما يعتبر القانون بالنسبة لها مصدرا مباشرا، حيث تنشأ عنه مباشرةً من دون تدخل من جانب المدين، أي دون عمل ايجابي أو سلبي منه، كما في التزامات الجوار، الالتزام بالنفقة، الالتزام بدفع الضريبة، والالتزام باحترام قانون المرور …الخ.
1- التقسيم التقليدي لمصادر الالتزام: تقسم القوانين اللاتينية مصادر الالتزام الى خمس مصادر وهي العقد Contrat وشبه العقد Quasi-Contrat، الجريمة Delit وشبه الجريمة Quasi-Delit والقانون Loi.
العقد: هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام او أكثر في ذمة أحد المتعاقدين او كلاهما كعقد البيع والايجار، الهبة والشركة.
شبه العقد: هو عمل إرادي ومشروع يترتب عليه التزام في ذمة المنتفع منه، كما يمكن أن ينشأ عنه أيضا التزام مقابل له في ذمة الفاعل نفسه مثل الفضولي، فعمله أو فعله اختياري ومشروع يريد به مصلحة الغير دون أن يتعاقد معه على ذلك، حيث يلتزم رب العمل (المنتفع) بأن يرد ويعوض ما أنفقه الفضولي من مصروفات ضرورية ونافعة، كما يلتزم الفضولي نفسه بالاستمرار في العمل الذي بدأه وان يقدم حسابا به.
الجريمة: هي كل فعل عمدي وغير مشروع يتعمد مرتكبه الإضرار بالغير، وينشأ عن الجريمة التزام في جانب الفاعل بتعويض الضرر المترتب عنها، كجريمة السرقة وإتلاف مال الغير ...الخ.
شبه الجريمة: هي كل فعل غير عمدي وغير مشروع يترتب عنه ضرر للغير، حيث لا يتعمد الفاعل الاضرار بالغير وإنما وقع هذا الضرر نتيجة الإهمال وعدم الاحتياط، وينشأ عن هذا الفعل (شبه الجريمة) التزام بالتعويض في ذمة الفاعل مثل السائق الذي يصدم خطاً أحد المارة.
القانون: قد يكون القانون المصدر المباشر لبعض الالتزامات كما في التزامات أفراد الاسرة تجاه بعضهم البعض من نفقة وطاعة و…الخ.
مصادر الالتزام في القانون الروماني: لم يعرف القانون الروماني في البداية إلا مصدرين لالتزام هما: العقد والجريمة، ثم أضيف لهما مصدرا آخر أطلق عليه اسم الأسباب المختلفة كعمل الفضولي وإخلال القاضي بواجبات وظيفته، فلم يكن القانون الروماني يعترف بشبه العقد وشبه الجريمة والقانون كمصدر للالتزام.
وقد حاول فيما بعد الفقيه جايس Gaius تصنيف الاسباب المختلفة بردها اما الى العقد او الى الجريمة فقام بتقسيم مصادر الالتزام الى قسمين هما:
القسم الأول: ويشمل الجريمة وملحق الجريمة أي يشمل جميع الالتزامات التي تنشأ عن أعمال غير مشروعة كإخلال القاضي بواجبات وظيفته (يرجع تقريب الأعمال غير المشروعة من الجريمة إلى وحدة الأثر المترتب عنها والمتمثل في التعويض)
القسم الثاني: ويشمل العقد وملحق العقد اي يشمل جميع الالتزامات التي تنشأ عن أعمال مشروعة مثل البيع حالة الجوار وعمل الفضول...الخ
مصادر الالتزام في القانون الفرنسي القديم: مصادر الالتزام في القانون الفرنسي القديم، تمثلت في عهد الحواشي في العقد وملحق العقد، الجريمة وملحق الجريمة ومصادر أخرى متفرقة، فهؤلاء الحواشي اخذوا المصادر الأربعة المعروفة في القانون الروماني وزادوا عليها المصادر المتفرقة، حيث ينسب إليها الالتزامات التي لا يمكن إرجاعها الى مصدر من المصادر الأربعة كما في دعوى الاسترداد بسبب السرقة.
وانتقد الفقيه بارتول Bartole تسمية ملحق العقد فهو ليس مبنيا على إرادة حقيقية أو مفترضة، بل هو مبني على إرادة وهمية خلقها القانون، وفي خطوة لاحقة تم الاقرار أن ملحق العقد عمل مشروع يقترب من العقد في أن كلاهما ليس عملا مشروعا فقط بل هو أيضا مبني على إرادة حقيقية في العقد وإرادة مفترضة في ملحق العقد، ومن منا تم تسمية ملحق العقد "بشبه العقد"
ثم جاء في مرحلة لاحقة الفقيه بوتيه Pothier فجعل مصادر الالتزام خمسة وهي العقد وشبه العقد، الجريمة وشبه الجريمة والقانون، وبهذا الترتيب الاخير اخذ قانون نابليون لسنة 1804 (القانون المدني الفرنسي).
نقد التقسيم التقليدي لمصادر الالتزام: اجمع الفقه اليوم على أن هذا التقسيم ناقص وغير مفيد وغير منطقي في نفس الوقت كما يلي:
- فهو تقسيم ناقص لأنه يهمل الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام.
- وهو تقسيم غير مفيد لأنه يميز بين الجريمة وشبه الجريمة من حيث مدى توافر قصد الإضرار بالغير، مع ان مع ان هذا التميز لا اهمية له في مجال الالتزام لا من حيث نشوئه ولا من حيث ما يترتب عليه من آثار، ففي كلا الحالين يلتزم الفاعل بتعويض الضرر اللاحق بالغير والتعويض يقدر حجم الضرر لا بحسب القصد او المشروعية من عدمها لذا وجب الجمع بين الجريمة وشبه الجريمة تحت اصطلاح واحد وهو العمل غير المشروع.
- وهو ايضا تقسيم غير منطقي فيما يتعلق بشبه العقد، فتعبير شبه العقد كما يقول الفقيه بلانيول هو تعبير مضلل، حيث أن أصحاب هذه التسمية يدعون أن شبه العقد قريب من العقد في أنه عمل إرادي وبعيد عن الجريمة وشبه الجريمة في أنه عمل مشروع، والواقع عكس ذلك تماما فقد ينشأ الالتزام بسبب شبه العقد رغم إرادة الملتزم، فمن أقام بحسن نيه بناء على ملك الغير له أن يلزم هذا الغير برد ما أثر به على حسابه على الرغم من أن هذا الغير لم تصدر عنه أية إرادة، كما انه في الفضالة لم يقصد الفضولي الزام نفسه بشيء والالتزامات التي تنشأ بعدها في ذمة رب العمل لم تنشأ بإرادته وإنما جاءت نتيجة لما عاد عليه من نفع من عمل الفضولي على الرغم من عدم وجود أي اتفاق بينهما أو شبه ذلك.
وعليه يجمع الفقه الحديث على استبدال فكرة أو مصطلح الإثراء بلاسبب بدل فكرة ومصطلح شبه العقد لأن أساس الالتزام هنا ليس هو الارادة وانما الاثراء غير المبرر او غير المستحق.
2- التقسيم الحديث لمصادر الالتزام: يجمع الفقه والتشريع الحديثين على أن مصادر الالتزام خمسة وهي: العقد والارادة المنفردة، العمل غير المشروع، الإثراء بلاسبب والقانون.
-العمل غير المشروع ويشمل الجريمة وشبه الجريمة.
- الاثراء بلاسبب ويشمل شبه العقد.
- الارادة المنفردة وتعتبر مصدراً حديثاً للالتزام لم يكن معروفا في التقسيم التقليدي
3/موقف المشرع الجزائري: لم يضع المشرع الجزائري نصا خاصا يحدد من خلاله مصادر الالتزام ومع ذلك يمكن استخلاصها انطلاقا من تبويب القانون المدني وهي:
- العقد بموجب المواد 54 الى 123 ق م.
- القانون بموجب بالمادة 53 ق م.
-العمل المستحق للتعويض بموجب المواد من 124 الى 140 ق م.
- شبه العقد بموجب المواد من 141 إلى 159 ق م.
ويلاحظ على موقف المشرع الجزائري في هذا الشأن ما يلي:
- لم ينظم المشرع الجزائري الارادة المنفردة كمصدر مستقل للالتزام في فصل خاص، كما فعلت جل التشريعات الحديثة، حيث اكتفى فقط بتنظيم أحد التطبيقات وهو الوعد بجائز. غير أن المشرع تدارك الموقف بتعديل القانون المدني سنة 2005 بموجب القانون 05-10 المؤرخ في 20 جوان 2005 المتضمن تعديل القانون المدني، أين خصص بموجب المادة 123 مكرر فصل خاص تحت عنوان الارادة المنفردة وهو بهذا يعترف بالإرادة المنفردة كمصدر عام للالتزام مثلها مثل العقد ثم ذكر أحد تطبيقاتها وهو الوعد بجائزة.
- استعمل المشرع عبارة شبه العقد في حين استقر الفقه والتشريع الحديثين على استعمال اصطلاح الاثراء بلاسبب بعد الانتقادات التي تعرض لها مصطلح شبه العقد والتي سبق ذكرها.
- المشرع قسم الفصل الرابع المتعلق بشبه العقد الى ثلاث اقسام الأول خاص بالإثراء بلا سبب والثاني خاص بالدفع غير المستحق والثالث خاص بالفضالة، وبهذا التقسيم يفهم من جهة بأن الإثراء بلا سبب صورة من صور شبه العقد في حين وكما سبق ذكره أن مضمونهما واحد والأصح استعمال مصطلح الإثراء بلا سبب، ومن جهة ثانية نجد أن المشرع يساوي بين الإثراء بلاسبب و الدفع غير المستحق والفضالة وهو بهذا الموقف يخلط بين المبدأ وتطبيقاته فالمبدأ أن الإثراء بلا سبب هو المصدر الأصلي للالتزام ، اما الدفع غير المستحق والفضالة فهما مجرد تطبيقين له.
- المشرع استعمل عبارة "العمل المستحق للتعويض "للدلالة على العمل غير المشروع كمصدر للالتزام فهذه التسمية خاطئة على أساس أن العمل المستحق للتعويض لا يقتصر فقط على العمل غير المشروع بل يشمل أيضا الاثراء بلا سبب، فهذا الأخير فعل يستحق التعويض على الرغم من أنه عمل مشروع ونافع، لأجل ذلك وجب على المشرع استعمال مصطلح العمل غير المشروع بدل اصطلاح العمل المستحق للتعويض.
خلاصة: تبعا لما تقدم يمكن رد مصادر الالتزام الى طائفتين هما:
مصادر إرادية: وتشمل العقد والارادة المنفردة ويطلق عليها ايضا اسم التصرف القانوني الذي يعرف بأنه اتجاه الإرادة إلى إحداث أثر قانوني معين، فالشخص يريد وقوع الفعل ويريد ايضا ان تترتب عليه آثاره، وهذا التصرف ان صدر عن جانب واحد سميا تصرفاً بإرادة منفردة وإن صدر عن جانبين سمي عقداً.
مصادر غير إرادية: وتشمل القانون والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب، ويطلق عليها ايضا اسم الواقعة القانونية التي هي كل واقعة مادية كانت أم طبيعية يرتب عليها القانون أثرا معينا بغض النظر عما إذا كانت الإرادة قد اتجهت الى إحداث هذا الأثر أم لا، ومن الوقائع الطبيعية التي يرتب عليها القانون التزامات معينة واقعة القرابة المرتبة للالتزام بالنفقة، ومن الوقائع المادية واقعه العمل غير المشروع والذي يرتب عليه المشرع الالتزام بالتعويض.
ويختلف التصرف القانوني عن الواقعة القانونية في أن الاول تتجه فيه الارادة الى إحداث أثر قانوني معين أما في الثانية فهي اساساً عملا ماديا يرتب القانون على وقوعه أثر معين سواء اتجهت الارادة الى إحداث هذا الأثر أم لا، وهو ما يترتب عليه ان وجود الارادة وصحتها شرط لوجود وصحة التصرف القانوني (العقد والارادة المنفردة) بينما وجودها وصحتها من عدمه لا يؤثر في وجود الواقعة القانونية (القانون، العمل غير المشروع والإثراء بلاسبب) ولا في صحتها وصلاحيتها لترتيب الالتزام.
التصرف القانوني: العقد المواد من 54 الى 123 ق م
الارادة المنفردة المادتين 123 مكرر و123 مكرر1 ق م
الواقعة القانونية: القانون المادة 53 ق م
العمل غير المشروع المواد من 124 الى 140 مكرر1 ق م
الاثراء بلاسبب المواد من 141 الى 159 ق م
القســم الأول
مصادر الالتزام
يجمع الفقه الحديث على أن مصادر الالتزام خمسة وهي العقد، الارادة المنفردة، العمل غير المشروع، الإثراء بلاسبب والقانون
نتناول في هذا القسم بشيء من التفصيل كل واحد من هذه المصادر حسب ترتيب ورودها بالقانون المدني الجزائري، نبذأ بالقانون كمصدر للالتزام ثم العقد، الارادة المنفردة، العمل غير المشروع ثم الإثراء بلا سبب.
-
الباب الأول
القــــــــــــانون
المادة 53 من القانون المدني
تنص المادة 53 من القانون المدني " تسري على الالتزامات الناجمة مباشرة عن القانون دون غيره (غيرها) النصوص القانونية التي قررتها".
يعتبر القانون مصدرا لجميع الالتزامات، فالالتزامات الناشئة عن العقد وعن العمل غير المشروع وعن باقي المصادر مصدرها القانون، لأن القانون هو الذي جعلها تنشأ عن مصادرها، فحدد أركانها وبين ونظن احكامها، فهذه الالتزامات لها مصدر مباشر تنشأ عنه مباشرة وهو إما العقد أو العمل غير المشروع او الارادة المنفردة او الاثراء بلا سبب أما القانون فهو بالنسبة لها مصدراً غير مباشر.
غير أنه هناك من الالتزامات ما يعتبر القانون بالنسبة لها مصدرا مباشرا، حيث تنشأ عنه مباشرة دون حاجة للتدخل من جانب المدين أي دون أي عمل ايجابي او سلبي منه.
والقانون لا يعد مصدرا مباشرا لالتزام معين إلا إذا أنشأه بنص خاص، وهذا النص هو الذي يتكفل بتحديد اركان هذا الالتزام وبيان أحكامه، حيث لا يضع اية قواعد عامة تحكم الالتزامات التي تنشأ عنه مباشرة وإنما يكتفي فقط بالإحالة على النصوص الخاصة بها و الموجودة في ثنايا القوانين المختلفة، وهذا خلافا لباقي المصادر الأخرى، فالعقد مثلا يعتبر مصدرا عاما للالتزام سواء كان العقد بيعا أو هبة وسواء كان العقد مسمى أو غير مسمى، وأيا كان الالتزام الذي ينشأ عنه ، فلم يتدخل القانون ليجعل العقد مصدرا للالتزام في حالة دون أخرى.
تبعا لما تقدم يعتبر القانون مصدرا مباشرا للالتزام عندما يتدخل ويرتب على حالة معينة التزاماً معيناً، وبهذا يعتبر النص القانوني مصدرا للالتزام بالنسبة للواقعة او الحالة التي عينها النص وحدها دون غيرها.
ويلاحظ أن القواعد التي تحكم الالتزامات التي تنشأ مباشرة عن القانون هي ذاتها القواعد التي تحكم الالتزامات غير الارادية، بحيث لا تشترط أهلية معينة في الملتزم (المدين) لأنها لم تنشأ بإرادته، فلالتزام بالنفقة يقع على عديم الاهلية كما يقع على كامل الاهلية.
ومن الحالات التي يعتبر القانون بشأنها مصدرا مباشرا للالتزام نذكر ما يلي:
1/ الالتزام بالنفقة: الذي يرتبه القانون على قيام علاقة القرابة وعلى رابطة الزوجية، انظر المادة 77 من قانون الأسرة 84-11 المؤرخ في 09 جوان 1984 المتضمن قانون الأسرة المعدل والمتمم بالأمر 05-02 المؤرخ في 27 فيفري 2005.
2/ التزامات الجوار: المادة 691 من القانون المدني المتعلقة بالقيود الواردة على حق الملكية.
3/ التزامات الحائط المشترك: المواد من 704 الى 708 من القانون المدني.
4/ الالتزام بدفع الضريبة: بناءً على قانون المالية والنصوص القانونية الخاصة ذات الصلة.
ويترتب على اعتبار القانون المصدر المباشر للالتزام ما يلي:
- أن النص القانوني هو وحده الذي ينشئ الالتزام القانوني، ومن ثمة لا سبيل الى تحديد هذه الالتزامات القانونية الا بناءً على نص قانوني(تشريع) خاص.
- النص القانوني هو وحده الذي يتكفل بتعيين وتحديد أركان الالتزام القانوني وبيان احكامه، مثل تحديد مضمون الالتزام، شروط قيامه، المدين به، كيفية ووقت الوفاء به، تقادمه… الخ
-
الباب الثاني
العقــــــد Le contrat
المواد من 54 إلى 123 من القانون المدني
دراسة العقد كمصدر للالتزام (النظرية العامة للعقد) تقتضي منا أولا دراسة كيفية تكوين العقد، أي البحث في شروط انعقاد العقد وفي شروط صحته ثم الانتقال ثانياً إلى تحديد الآثار المترتبة على انعقاده، ولكن قبل هذا وذلك جدير بنا الوقوف عند ماهية العقد، من خلال تعريفه وبيان أساس قوته الملزمة ثم التقسيمات المختلفة له، وذلك على الشكل التالي:
مبحث التمهيدي: ماهية العقد
الفصل الأول: تكوين العقد
الفصل الثاني: آثار العقد
مبحث التمهيدي
ماهية العقد
المطلب الأول
التعـريف بالــــــــــــعقد
يعرف العقد على أنه توافق ارادتين او أكثر على احداث أثر قانوني معين، سواء تمثل هذا الاثر في إنشاء الالتزام او تعديله او نقله او انهائه، ومن خلال هذا التعريف يتبين لنا ان العقد يقوم على أمرين رئيسيين هما:
الأول: هو توافق ارادتين او أكثر: فالالتزام العقدي لا ينشأ إلا عن إرادتين متطابقتين فأكثر بحيث تعجز الإرادة الواحدة والمنفردة على إنشاء العقد وإن كانت قادرة على أن تكون مصدرا للالتزام وعليه فالعقد تصرف قانوني صادر عن جانبين.
الثاني: الغرض من العقد هو إنشاء الالتزام أو تعديله او نقله او الغائه: أي يتمخط على إنشاء علاقة قانونية ملزمة بحيث لا يكفي توافق الارادتين لقيام العقد، بل لابد من أن تتجه الإرادتين إلى إحداث آثار قانونية تمكن أحد الطرفين من مسائلة الطرف الآخر عند الاخلال بها، وبالمقابل إذا لم تتجه الإرادة إلى ذلك فلا نكون بصدد عقد كما هو الحال عند توافق الإرادتين على حضور وليمة او نزهة او ما الى ذلك.
ويعرف المشرع الجزائري العقد بنفس التعريف الوارد بالقانون الفرنسي بنص المادة 1101 منه، حيث تنص المادة 54 من القانون المدني على ما يلي" العقد اتفاق يلتزم بموجبه شخص او عدة اشخاص آخرين نحو شخص او عدة اشخاص آخرين بمنح أو فعل او عدم فعل شيء ما"
ويلاحظ من خلال هذا النص ما يلي:
-المشرع يميز بين العقد والاتفاق فيجعل دور العقد مقصورا فقط على إنشاء الالتزام دون تعديله او نقله او انهائه كما هو الحال بالنسبة للاتفاق.
-المشرع من خلال نص المادة 54 في حقيقة الامر نجده لا يعرف العقد وإنما يعرف الالتزام من خلال أحد مصادره وهو العقد.
- المشرع أدخل نفسه في مسألة التعريف وهي اليوم من صميم اختصاص الفقه، فكان الأولى له حذف نص المادة 54 أسوةً بالمشرع المصري.
- استعمل المشرع مصطلح "منح" "فعل" و" عدم فعل شيء ما" وهي مصطلحات تقليدية لا تبرز بدقة جوهر مضمون الالتزام مما ترتب عليه سوء في صياغة نص المادة 54 ق م.
المطلب الثاني
العقد والاتفاق
يذهب بعض شراح القانون المدني إلى التمييز بين العقد والاتفاق، فيعتبرون الاتفاق جنس والعقد نوع. فالعقد عندهم بالنسبة إلى الاتفاق هو بعض من كل، حيث يرى البعض بأن العقد يقتصر مجاله فقط على الاتفاقات التي اهتم المشرع بتنظيمها وخصها بأسماء معينة (العقود المسماة) كالبيع والايجار، أما اصطلاح الاتفاق فينصرف الى الاتفاقات التي تغص بها الحياة اليومية والتي لم ينظمها المشرع بعد (العقود غير المسماة).
ويذهب البعض الآخر الى القول بأن العقد يقتصر فقط على إنشاء الالتزام كما في البيع دون تعديله، كما في الاتفاق على اقتران اجل بالالتزام ودون نقله كما في حوالة وحوالة الدين ودون زواله كما في الوفاء، في حين ينصرف مصطلح الاتفاق عندهم إلى إنشاء الالتزام وتعديله ونقله وانهائه.
وأهمية التفرقة هذه في نظر هؤلاء الشراح تظهر اساساً بالنسبة للأهلية، إذ هي تختلف في العقد عنها في الاتفاق، غير أن هذه التفرقة مهجورة الآن ولا أهمية لها، لأن الأهلية في العقد تختلف باختلاف العقود ذاتها، فالأهلية اللازمة لصحة للبيع تختلف عن الأهلية اللازمة لصحة الإيجار، كما تختلف في العقد الواحد من متعاقد لآخر كما في عقد الهبة، فالأهلية التي تشترط في الواهب غير الاهلية التي تشترط في الموهوب له.
إن التميز السابق بين العقد والاتفاق تمييز لا أهمية عملية او علمية له تذكر، لأجل ذلك نادى الفقه الحديث بعدم التمييز بينهما واعتبارهما مجرد مصطلحين مترادفين وان العقد اتفاق إرادتين او أكثر على ترتيب أثر قانوني معين، بإنشاء الالتزام او تعديله او نقله او انهائه.
المطلب الثالث
مجال العقد
من خلال التعريف السابق للعقد يتبين أن مجال العقد يتحدد فقط بالاتفاقات التي تدخل في نطاق القانون الخاص وفي دائرة المعاملات المالية، حيث يخرج من مجاله الاتفاقات المتعلقة بفروع القانون العام كالمعاهدات الدولية، واتفاقات النائب الناخب، فالأولى تحكمها قواعد القانون الدولي العام والثانية تحكمها قواعد القانون الدستوري.
وتخرج كذلك من مجال العقد الاتفاقات التي تبرمها الدولة باعتبارها صاحبة سلطة تمثل المصلحة العامة مع الافراد، فهذه العقود الإدارية تخرج من مجال نظرية العقد وتخضع للقانون والقضاء الإداريين.
وعليه فمجال العقد هو دائرة القانون الخاص وفي حدود الاتفاق المتعلقة بالذمة المالية ومنه يخرج أيضا من مجال العقد الروابط المتعلقة بالأحوال الشخصية على الرغم من إنتاجها لبعض الروابط المالية كالزواج والطلاق.
المطلب الرابع
أساس القوة الملزمة للعقد أو مبدأ سلطان الإرادة
يقصد بمبدأ سلطان الإرادة (Principe de l'autonomie de la volonte) حرية الإرادة وكفايتها في إنشاء العقود والتصرفات القانونية وفي تحديد آثارها، فالإرادة هي أساس قدرة العقد على إنشاء الالتزام وأساس قوته الملزمة لعاقديه، ومن خلال هذا التعريف يتضح أن مبدأ سلطان الارادة يتضمن قاعدتين أساسيتين هما:
قاعدة الرضائية: وتعني ان الارادة وحدها كافية لإنشاء العقد والتصرف القانوني بوجه عام دون الحاجة لان تفرغ في شكل معين.
حرية الإرادة في تحديد آثار العقد: فالإرادة المشتركة للمتعاقدين حرة في تحديد الآثار المترتبة على العقد (الالتزامات)، بحيث لا توجد هذه الالتزامات إلا بالقدر وفي الحدود التي رسمها المتعاقدان، وبمعنى آخر فإن بنود العقد هي فقط من وضع المتعاقدين دون تدخل من أي طرف كان وهذا ما عبر عنه المشرع الجزائري بنص المادة 106 من القانون المدني التي تنص" العقد شريعة المتعاقدين لا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، او للأسباب التي يقررها القانون".
أولا: نشأة وتطور مبدأ سلطان الإرادة.
لم تَعرف الشرائع القديمة كالقانون الروماني مبدأ سلطان الارادة، خاصة فيما يتعلق بكفاية الإرادة لإنشاء التصرف القانوني دون ضرورة بأن يأتي في شكل معين، حيث ظلت القاعدة السائدة في القانون الروماني هي الشكلية أما الرضائية فهي الاستثناء، بحيث بحسب الأصل لا يكفي فيه توافق الارادتين لقيام العقد بل يجب فوق ذلك اتخاذ إجراءات شكلية معينة (تبادل عبارات معينة أو كتابة صيغة معينة وإما تسليم شيء ما).
وفي العصور الوسطى ساد مبدأ سلطان الكنيسة وكان للمبادئ التي نادى بها القانون الكنسي الأثر الكبير في انتشار مبدأ سلطان الإرادة حيث كانت الكنيسة تدعو الى احترام العهود والمواثيق واعتبرت الإخلال بها في بادئ الأمر خطيئة دينية ثم إخلالا بالتزام قانوني. وبهذا يكون القانون الكنسي بمثابة مهد لمبدأ سلطان الإرادة، حيث يعتبر أن كل اتفاق يكون ملزماً ولو تجرد من الشكل فكان الأصل هنا رضائية العقود.
وازداد تطور مبدأ سلطان الارادة في القرنين الثامن والتاسع عشر بفعل عوامل متعددة أهمها انتشار المذهب الفردي الذي يقدس الحرية الفردية، ويجعل للقانون غاية واحدة هي ضمان هذه الحرية، فسادت فكرة استقلال الإرادة كأساس لكل النظم القانونية والاقتصادية والاجتماعية (من ذلك قاعدة دعه يعمل دعه يمر لأدم سميث، ومن تطبيقاتها في هذا المجال دعه يتعاقد كيف يشاء)، وقد جاء القانون الفرنسي مشبعا بهذه الأفكار.
بعد هذا الازدهار الذي عرفه مبدا سلطان الارادة بدا المبدأ في التقلص خلال القرن 20 تحت تأثير المبادئ الاشتراكية والتغيرات الاقتصادية والسياسية، فعلى العكس من المذهب الفردي ينادي المذهب الاشتراكي بتغليب مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، وعليه ليس للإرادة القدرة والسلطان على إنشاء العقد وتحديد آثاره إلا في الحدود ووفق الشروط التي يحددها المجتمع(القانون). فليس للإرادة سلطان فوق سلطان القانون الناطق بمصلحة الجماعة. فهذا الوضع ترتب عليه تراجع مبدأ سلطان الإرادة من خلال ظهور عقود لا يعتد فيها بالإرادة والحرية الفردية مثل عقد العمل، عقد الشركة وعقود الإذعان…. الخ
ثانيا: النتائج المترتبة على مبدأ سلطان الارادة
يترتب على الأخذ بمبدأ سلطان الإرادة النتائج التالية:
1-الالتزامات الإرادية هي الأصل
2- حرية التعاقد وعدم التعاقد
3- حرية تحديد آثار العقد
4- نسبية الأثر الملزم للعقد
5- القوة الملزمة للعقد
1-الالتزامات الإرادية هي الأصل: فلا يلتزم الشخص بحسب الاصل الا وفقا لإرادته فهو الأعلم بما يحقق مصالحه، لان الشخص لا يمكن أن يريد ما هو ضد مصلحته ولهذا كل التزام يقبله الشخص بإرادته الحرة لا يكون إلا عدلا ويقتصر دور القانون على حماية الحرية فكل عقد أبرم بحرية تامة هو عدل كامل مهما كانت شروطه، وإذا اقتضت حاجة المجتمع فرض بعض الالتزامات على الأفراد رغما عن ارادتهم فيجب حصر هذه الحالات إلى أضيق الحدود.
2- حرية التعاقد وعدم التعاقد: وفقا لمبدأ سلطان الإرادة للفرد كامل الحرية في أن يتعاقد او ان لا يتعاقد، بحيث لا يمكن إجباره على الدخول في علاقة عقدية دون رضاه، كما له حرية اختيار الشخص الذي يتعاقد معه.
كما يقصد بمبدأ حرية التعاقد ايضا ان ارادة المتعاقدين وحدها كافية لإبرام العقد بمجرد تبادل الإيجاب والقبول دون الحاجة لان تفرغ في شكل معين وهذا هو مبدأ الرضائية في العقود.
وحرية عدم التعاقد تقتضي بأنه لا يمكن إجبار الفرد على الدخول في علاقة تعاقدية لا يرغب فيها دون رضاه، حتى ولو كان في ذلك مصلحة أكيدة له، وبهذا يرفض مبدأ سلطان الإرادة وجود ما يسمى بالعقود الجبرية.
3-حرية تحديد آثار العقد: لإرادة المتعاقدين كامل الحرية في تحديد مضمون وشروط العقد بحيث لا يلتزم الفرد إلا بما أراد أن يٌلزم به نفسه، فالفرد حر في أن يتعاقد وفق ما يريد وبالشروط التي يرتضيها، وبهذا للأفراد ان يبرموا ما شاءوا من العقود، وإن أراد المشرع التدخل لتنظم طائفة من العقود (العقود المسماة) فإن تدخله هذا يجب أن يكون بموجب قواعد مفسرة ومكملة لإرادة المتعاقدين عند عدم الاتفاق على خلافها. وللمتعاقدين كامل الحرية في الاخذ بهذه التنظيم النموذجي او تركه ووضع تنظيمات اخرى، وان وجدت بعض القواعد الآمرة في هذا الشأن فيجب أن تكون بمثابة الاستثناء وأن يكون هدفها حماية إرادة المتعاقدين ذاتها كما في القواعد المتعلقة بالأهلية وعقود الإذعان…. الخ
4-القوة الملزمة للعقد: يقصد بالقوة الملزمة للعقد أن العقد يلزم المتعاقدين مثلما يلزم القانون أفراد المجتمع، وأساس هذه الإلزامية هو مبدا سلطان الإرادة نفسه، لأن بنود العقد وشروطه هي من وضع الارادة الحرة للمتعاقدين، ولهذا يعتبر العقد شريعة المتعاقدين، فإذا كان الشخص حر في الدخول في العقد بإرادته فإنه غير حر في الخروج منه أو تعديل بنوده بإرادته وحده، لان العقد وليد ارادتين فلا تنقضه الإرادة الواحدة.
ومبدأ القوة الملزمة للعقد يسري ايضا على القاضي فلا يحق له وفقا لهذا المبدأ تعديل العقد أو انهاؤه بحجه انه غير عادل أو أن الظروف التي أبرم في ظلها قد تغيرت، ويقتصر دور القاضي فقط على تفسيره وتكييفه، وهو في عمله هذا يجب أن يبحث عن الإرادة الحقيقية للمتعاقدين.
وتبعا لما تقدم القوة الملزمة للعقد تجد أساسا لها في مبدأ سلطان الارادة وتعني أن العقد شريعة المتعاقدين أي قانون المتعاقدين بحيث لا يجوز نقضه أو تعديله الا باتفاق الطرفين، أي أن العقد يقوم مقام القانون بالنسبة لعاقديه طبقا للمادة 106 من القانون المدني والمادة 1134 من القانون المدني الفرنسي.
5-مبدأ نسبية الأثر الملزم للعقد: يقتضي مبدأ سلطان الارادة ان الارادة لا تلزم إلا صاحبها وعليه فالعقد لا ينشأ الالتزام الا في ذمة أحد المتعاقدين أو كلاهما، فلا يجوز أن ينشأ الالتزام في ذمة الغير الذي لم يكن طرفا بالعقد وهذا ما يٌعبر عنه بمبدأ نسبية آثار العقد، فلا يٌحمل الشخص بالالتزام ولا يكسب حقاً ناشئاً عن عقد ما لم يكن طرفاً فيه.
ثانيا: القيود الواردة على مبدأ سلطان الارادة
بعد الانتشار الواسع للمذاهب الاشتراكية والاجتماعية وبعد التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفها العالم خلال القرن العشرين (20) فٌرضت بعض القيود على مبدأ سلطان الإرادة نذكر أهمها:
1-القيود الواردة على حرية التعاقد وعدم التعاقد: إذا كان مبدأ سلطان الارادة يتطلب حرية الإرادة في التعاقد وعدم التعاقد فإن هذا المبدأ خضع للتقييد بما يلي:
-حرية التعاقد مقيدة بالتوسع المستمر لمفهوم النظام العام والآداب العامة: بحيث لا يمكن للإرادة الدخول في علاقة تعاقدية مخالفة للنظام العام، فكل عقد يبرم على شكل يخالف النظام العام والآداب العامة يكون باطلا بطلانا مطلقا، والملاحظ ان فكرة النظام العام والآداب العامة هذه فكرة مطاطة وتعرف اتساعاً كبيراً في الدول التي تتبنى النهج الاشتراكي كما تعرف الكثير من التغيير والتحوير في محتواها.
-حرية عدم التعاقد قيدت مع ظهور ما يسمى بالعقود الجبرية: التي يجبر فيها الشخص على إبرامها كعقود التأمين الجبري والتزام التجار ببيع السلع لكل من يتقدم لشرائها (فالتاجر هنا مجبر على التعاقد وغير حر في اختيار شخص المتعاقد معه). فهذه الأخيرة عقود جبرية مفروضة لا يمكن للمتعاقد رفضها.
2-القيود الواردة على حرية تحديد آثار العقد: اذا كان مبدأ سلطان الارادة يتطلب أن يترك أمر تحديد بنود وشروط العقد للإرادة الحرة والمشتركة للمتعاقدين دون تدخل من طرف المشرع، إلا أن هذا المبدأ قد شمله بعض التقييد حيث كثيرا ما يتدخل المشرع لتحديد آثار وبنود بعض العقود بموجب قواعد آمرة لا يجوز الخروج عليها والاتفاق على مخالفتها، مثل عقد العمل الذي يحدد فيه المشرع بصفة مسبقة بموجب قواعد آمرة حقوق وواجبات العامل ورب العمل، ونفس الشيء بالنسبة لعقد الشركة وعقد التأمين، وهو ما يجعلنا نقترب من مرحلة العقد الموجه او ما يسمى أيضا بالعقد النظام(أو عقود الانضمام لاقتصار دور الارادة على ابداء الرغبة في الدخول في العقد فقط دون مناقشة باقي المسائل المتعلقة بالعقد).
3- القيود الواردة على مبدأ القوة الملزمة للعقد: إذا كان مبدأ سلطان الإرادة يجعل من العقد شريعة وقانون المتعاقدين بحيث يلزم كلا المتعاقدين بما تضمنه من بنود ولا يجوز نقضه أو تعديله الا باتفاق الطرفين، فإن جل التشريعات أجازت تدخل القاضي لتعديل بعض بنود العقد او اعفاء أحد طرفيه منها، ومن الحالات التي يجيز فيها المشرع للقاضي التدخل لتعديل العقد نذكر ما يلي:
-المادة 106 من القانون المدني العقد شريعة المتعاقدين لا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقرها القانون. (هذا النص أقر المبدأ والاستثناء)
-المادة 107 من القانون المدني يجوز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة مصلحة الطرفين أن يتدخل لرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، وهذا خاص بحالة الظروف الطارئة والاستثنائية
-المادة 110 من القانون المدني في عقود الإذعان يجوز للقاضي تعديل الشروط التعسفية في هذا العقد وله حتى إعفاء الطرف الضعيف المذعن منها وفقا لما تقضي به العدالة.
-المادة 184/02 من القانون المدني أجاز المشرع للقاضي التدخل لتعديل الشرط الجزائي إذا كان مبالغاً فيه بشكل لا يتناسب مع الضرر الذي أصاب الدائن.
4-القيود الواردة على مبدأ نسبية الأثر الملزم للعقد: فإذا كان مبدأ سلطان الارادة يتطلب بان لا يكون للعقد قوة ملزمة إلا لمن كانوا طرفا فيه أي لمن شاركت ارادتهم في انشائه فإنه استثناء من ذلك فإن القانون وفي حالات خاصة جعل آثار العقد تمتد الى الغير بحكم القانون كما في حالة عقد المقاولة الذي يبرم بين المقاول رب العمل، حيث يجيز المشرع لعمال المقاول وللمقاول من الباطن و عماله على الرغم من أنهم ليسوا أطرافا في عقد المقاولة الأصلي الرجوع بطريق الدعوى المباشرة مباشرة على ربط العمل بما لا يجاوز القدر الذي يكون فيه مدينا للمقاول الأصلي وقت رفع الدعوى، انظر المادة 565 من القانون المدني ونفس الحكم ينطبق في عقد الوكالة بنص المادة 580 ق م و المادة 507 ق م بشأن الايجار الفرعي او الايجار من الباطن(وهي حالات الدعوى المباشرة).
5-تراجع مبدأ الرضائية في العقود: إذا كان مبدأ سلطان الارادة يتطلب كفاية الإرادة وحدها لانعقاد العقد بحيث يكفي فقط توافق الارادتين لقيام العقد، الا ان المشرع وفي حالات معينة يقر عدم كفاية الإرادة لانعقاد العقد طبقا للمادة 59 من القانون المدني والتي تنص "يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتهما المتطابقتين (مبدأ الرضائية)، دون الإخلال بالنصوص القانونية" وبالتالي قيد مبدأ الرضائية بمبدأ آخر وهو مبدأ الشكلية.
وتطبيقا لنص المادة 59 ق م تفرض المادة 324 مكرر من القانون المدني تحرير العقود المتعلقة بالحقوق العينية العقارية في شكل رسمي وإلا كانت باطلة كما يشترط لترتيب آثارها (نقل الملكية) أن تخضع لإجراءات الشهر العقاري.
6-اتساع نطاق الالتزامات غير الإرادية: بفعل التطورات الاقتصادية والاجتماعية اتسع نطاق الالتزامات غير الإرادية التي تنشأ عن القانون، العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب، حيث نجد مثلا قواعد وأحكام المسؤولية التقصيرية قد تطورت فبعد ان قامت على فكرة الخطأ ظهرت المسؤولية دون خطأ على أساس تحمل التبعة أو المسؤولية الموضوعية، وهذا نتيجة الثورة الصناعية واستخدام الآلات الخطرة.
المطلب الخامس
تقسيمات العقود
للعقود تقسيمات مختلفة بحسب الزاوية التي ينظر منها الى هذه العقود، ولما كان تقسيم العقود عمل فقهي يقوم به الفقهاء بسبب بحثهم في القواعد التي تحكم كل طائفة من العقود وليس من عمل المشرع، فان جل التشريعات الحديثة تحاشت تحديد أنواع العقود إلا أن المشرع الجزائري خرج عن هذا التوجه حيث حاول بموجب المواد من 55 الى 58 ق م التعريف بأقسام العقود نقلا عن القانون الفرنسي، والأسوء من هذا انه لم يستوف كل التقسيمات حتى تلك التي وردت في القانون الفرنسي(من العقود التي لم يعرف بها المشرع الجزائري العقود الفورية والزمنية، العقود الرضائية والعقود الشكلية والعينية، العقود البسيطة والمركبة، العقود المسماة وغير المسماة)، زيادة عن ذلك يخلط المشرع الجزائري بين العقد المحدد والعقد التبادلي وبين عقد المعاوضة والعقد التبادلي إلى جانب سوء صياغة نص المادة 55 ق م .
ومن أهم التقسيمات التي وضعها الفقه للعقد نذكر ما يلي:
1- من حيث تنظيم المشرع للعقود، تنقسم العقود إلى عقود مسماة وأخرى غير مسماة
2- من حيث تكييف العقد، تنقسم العقود إلى عقود بسيطة وأخرى مركبة
3- من حيث مدى كفاية الإرادة في تكوين العقد تنقسم العقود إلى عقود رضائية، عقود شكلية واخرى عينية.
4- من حيث آثار العقد، تنقسم العقود إلى عقود ملزمة للجانبين وعقود ملزمة لجانب واحد.
5- من حيث مدى تبادل العطاءات، تنقسم العقود إلى عقود معاوضة وعقود تبرع
6- من حيث دور عنصر الزمن في تحديد قيمة الالتزامات الناشئة عن العقد، تنقسم العقود الى عقود فورية وعقود زمنيه مستمرة.
7- من حيث مدى إمكان تحديد قيمة الالتزامات الناشئة عن عقد العقود وقت انعقادها، تنقسم العقود إلى عقود محددة القيمة وعقود احتمالية.
اولا: العقود المسماة والعقود غير المسماة
1- العقد المسمى: هو ذلك العقد الذي خصه المشرع اسم خاص وتكفل بتنظيمه وبيان احكامه الخاصة، وهذا لذعته بين الناس وانتشاره في معاملاتهم، وقد نظم المشرع الجزائري هذه الطائفة من العقود بموجب المواد من 351 الى 673 من القانون المدني، ومن ذلك عقد البيع، عقد الإيجار، العارية، عقد الوكالة…...الخ
2 - العقد غير المسمى: هو ذاك العقد الذي لم يخصه المشرع باسم خاص ولا بأحكام خاصة بحيث لم يضع له تنظيما تشريعيا يحدد القواعد التي تحكمه، والأصل في العقود غير المسماة أنها لا تقع تحت حصر، فالإرادة حرة في إنشاء ما تشاء من العقود في حدود النظام العام والآداب العامة، مثل عقد الفندقة، عقود الطبع والنشر، عقود الإعلان وعقود الرعاية(كلما انتشرت هذه العقود غير المسماة وازدادت اهميتها كلما اهتم بها المشرع وتدخل بتنظيمها وبذلك يدرجها ضمن العقود المسماة، كما فعل مع عقد التسيير حيث أصبح هذا الأخير عقداً مسمى بعد تنظيم المشرع لأحكامه بموجب القانون 89/01 المؤرخ في 07/02/1989 المعدل للقانون المدني).
أهمية التقسيم:
تكمن أهمية تقسيم العقود إلى عقود مسماة وغير مسماة في معرفة وتحديد القواعد الواجبة التطبيق على كل عقد خاصة عند إغفال المتعاقدين الاتفاق على مسألة ما.
فالعقد المسمى يخضع للقواعد القانونية الواردة في شأنه (القواعد التي تحكم عقد البيع مثلا هي تلك الواردة بالمواد من 351 الى 412 من القانون المدني)، وهي قواعد مفسرة مكملة لإرادة المتعاقدين، بحيث لا تطبق الا إذا لم يتفق المتعاقدين على خلافها، كما لا تطبق القواعد العامة الخاصة بالعقد (المواد من 54 إلى 123 من القانون المدني) إلا إذا لم يوجد اتفاق بين المتعاقدين ولم يوجد نص خاص بهذا العقد المسمى ضمن التشريع المنظم له.
أما العقد غير المسمى فيخضع للاتفاق المتعاقدين، وفي حال إغفالهم الاتفاق على مسألة ما وجب تطبيق القواعد العامة لنظرية الالتزام الخاصة بالعقد (المواد من 54 الى 123 من القانون المدني). كما يمكن ومن قبيل القياس تطبيق احكام العقود المسماة الأقرب إلى هذا العقد غير المسمى.
والملاحظ أن وصف عقد معين بأنه مسمى او غير مسمى مسألة ليست بيد المتعاقدين وانما هي من صميم اختصاص القاضي الذي لا يتقيد بالتكييف والتسمية التي يعطيها المتعاقدين للعقد وإنما يتقيد في ذلك بمضمون العقد ذاته.
ثانيا: العقود البسيطة والعقود المركبة
1- العقد البسيط: هو ذلك العقد الذي لا يشتمل إلا على احكام عقد واحد فقط أي لا يتناول المتعاقدين من خلال العقد إلا عملية قانونية واحدة، بيع فقط او ايجار فقط….. مثل عقد البيع الإيجار، الصلح، القسمة…… الخ.
2- العقد المركب: فهو ذلك العقد الذي يشتمل على أكثر من عقد واحد أي يتناول أكثر من عملية قانونية واحدة، مثل بيع وايجار أو عمل وايجار، فالعقد المركب إذا يجمع بين عدة عقود لتحقيق اهداف معينه يعجز العقد البسيط أو العقد الواحد عن تحقيقها، مثل عقد الفندقة فهو يتضمن عقد إيجار بالنسبة للغرفة وعقد بيع بالنسبة للطعام وعقد وديعة بالنسبة للأمتعة…الخ.
أهمية التقسيم: تكمن أهمية تقسيم العقود إلى بسيطة ومركبة في معرفة وتحديد القواعد الواجب التطبيق على كل عقد عند إغفال المتعاقدين الاتفاق على مسألة ما.
- بالنسبة للعقد البسيط لا يطرح أي إشكال فاذا كان العقد مسمى تطبق عليه الأحكام التي أوردها المشرع بشأنه، وإن كان غير مسمى تطبق عليه الأحكام العامة لنظرية الالتزام أي أحكام نظرية العقد.
- بالنسبة للعقد المركب مميز بين فرضين:
الأول أن يكون المتعاقدين يهدفان للوصول الى عدة اغراض، في هذه الحالة لا يطرح أي إشكال بحيث تخضع كل مسألة لأحكام العقد الخاص بها، فمثلا في عقد الاقامة بفندق بشأن ما يتعلق بالغرفة تطبق احكام عقد الايجار، وبشأن تقديم الطعام تطبق أحكام البيع وهكذا (في هذه الصورة تتعدد أهداف كل من صاحب الفندق والنزيل بالفندق، والناحية الغالبة في هذا العقد هي ناحية الايجار -بالنسبة للأمتعة تطبق أحكام عقد الوديعة وبالنسبة لتقديم الخدمات تطبق احكام عقد المقاولة وهكذا…. الخ).
الثاني أن يرمي المتعاقدين إلى تحقيق هدف واحد من العمليات القانونية المختلفة التي يشتمل عليها العقد المركب، في هذه الحالة يجب تغليب أحكام العقد الذي يعتبر أساسيا و جوهريا في هذه العمليات لتطبق دون سواها على العقد المركب كله، كما في حالة البيع بطريق الإيجار وهو الايجار الذي ينقلب الى عقد بيع بعد دفع كل الأقساط، هذا العقد مركب من عملية الإيجار والبيع الهدف منه واحد وهو نقل ملكية الشيء محل العقد، والعقد الذي يعتبر جوهريا هنا هو عقد البيع، فإذا لم يتفق المتعاقدان حول مسالة ما وأراد أحدهما تطبيق احكام عقد الايجار وتمسك الاخر بأحكام عقد البيع، وجب تطبيق أحكام هذا الأخير أي البيع طبقا لما تقدم وطبقا لنص المادة 363 فقرة الثالثة من القانون المدني.
ثالثا: العقود الرضائية والعقود الشكلية والعقود العينية
1- العقد الرضائي: هو ذلك العقد الذي يكفي لانعقاده مجرد توافق إرادة المتعاقدين دون اشتراط إفراغ هذا التراضي في شكل معين أو اتباع اجراءات معينة، فالعقد الرضائي إذن لا يحتاج إلى شكلية معينة لانعقاده صحيحا والأصل في العقود هو رضائيتها طبقا لمبدأ سلطان وطبقا للمادة 59 من القانون المدني، وعليه فأركان العقد الرضائي ثلاث: التراضي، المحل والسبب.
2-العقد الشكلي: هو ذلك العقد الذي يلزم لانعقاد إفراغ رضاء المتعاقدين في شكل معين يحدده القانون فلا يكفي مجرد التراضي لانعقاده بل يجب زيادة عن ذلك وجوب تحرير هذا التراضي وهذا العقد في شكل رسمي وإلا وقع العقد باطلا، ومن العقود الشكلية في التشريع الجزائري بيع العقار، بيع المحل التجاري، عقد الشركة، عقد الرهن الرسمي طبقا للمادة 883 ق م، وكل تصرف من شأنه إنشاء أو نقل حق عيني عقاري طبقا للمادة 324 مكرر 01 من القانون المدني، وعليه أركان العقد شكلي أربع: التراضي، المحل، السبب والشكلية.
وتسمى هذه الشكلية بشكلية الانعقاد بحيث تعتبر ركنا في العقد فلا ينعقد الا إذا تم تحريره في الشكل الرسمي المطلوب والا كان باطلا بطلانا مطلقا، وهذا خلافا للشكلية المطلوبة للإثبات والشكلية المطلوبة للنفاذ.
وفي بعض العقود والتصرفات القانونية لا يقبل المشرع إثباتها إلا بالكتابة مثل التصرفات التي تزيد قيمتها عن 10.000 د ج طبقا للمادة 333 ق م والوصية طبقا للمادة 191 من قانون الأسرة، فالكتابة في هذه الحالة لا تعتبر ركنا في العقد وعليه لا يترتب على تخلفها بطلان العقد.
زيادة على ما تقدم يشترط المشرع في تصرفات اخرى اتباع اجراءات معينة لنفاذ هذه التصرفات فيما بين المتعاقدين وفي مواجهة الغير كما هو الحال في اشتراط إخضاع التصرفات الواردة على العقار لإجراءات الشهر العقاري وهذا ما يسمى بشكلية النفاذ، فإذا لم يتم إخضاع العقد لإجراءات الشهر العقاري ضل العقد صحيحا لأن الشهر ليس ركنا في العقد غير أنه غير قادر على ترتيب آثاره فيما بين المتعاقدين والغير، ففي بيع العقار مثلا اذا لم يحرر البيع في عقد رسمي كان البيع باطلا وإذا حرر في عقد رسمي كان البيع صحيحا لكنه لا ينقل الملكية إلى المشتري إلا بعد إخضاعه لإجراءات الشهر العقاري( الرسمية ركن أو شرط انعقاد، والشهر شرط نفاذ).
ويلاحظ اخيرا انه يمكن للعقد الرضائي أن يصبح عقدا شكليا بإرادة الطرفين إذا تم الاتفاق على أن العقد لا ينعقد الا إذا تم تحريره في شكل رسمي، وهذا إذا انصرفت إرادتهما الى اعتبار العقد غير منعقداً وباطلا إذا لم يحرر في هذا الشكل. اما إذا انصرفت إرادتهما إلى الحصول فقط على وسيلة لإثبات العقد يبقى رضائيا ولا تحول عدم الكتابة دون انعقاد العقد صحيحا لأنها شكلية اثبات فقط وليست شكلية انعقاد طبقا للاتفاق الحاصل بين العاقدين.
3-العقد العيني: هو ذلك العقد الذي لا يكفي لانعقاده قيام التراضي فقط بين طرفيه، بل يجب فوق ذلك ضرورة تسليم العين محل التعاقد فلا ينعقد العقد الا بالتسليم او القبض، أي يعتبر التسليم ركنا فيه إلى جانب التراضي، المحل والسبب، ومن العقود العينية في القانون الفرنسي والتي ورثها عن القانون الروماني عقد الوديعة، القرض، العارية وعقد الرهن الحيازي.
وبالرجوع إلى التشريع الجزائري نجد أن العقد الوحيد الذي يعتبر عقداً عينياً هو عقد الهبة الوارد على المنقول طبقا لنص المادة 206 من قانون الأسرة التي تنص على ما يلي "تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول وتتم الحيازة ومراعاة أحكام قانون التوثيق في العقارات والإجراءات الخاصة في المنقولات وإذا اختل أحد القيود السابقة بطلت الهبة".
رابعا: العقود الملزمة للجانبين والعقود الملزمة لجانب واحد
1- العقد الملزم للجانبين أو العقد التبادلي: العقد الملزم للجانبين طبقا للمادة 55 من القانون المدني هو ذلك العقد الذي ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كلا المتعاقدين، أي يتبادل كلا طرفيه الالتزامات الناشئة عنه فيكون كلاهما دائن ومدين في نفس الوقت، كما في عقد البيع وعقد الإيجار فيلتزم البائع بنقل الملكية وهو في ذلك مدين للمشتري الدائن، ويلتزم المشتري بدفع الثمن وهو بذلك مدين للبائع الدائن. وفي عقد الإيجار يلتزم المؤجر كمدين بتمكين المستأجر الدائن من الانتفاع بالعين المؤجرة، ويلتزم المستأجر كمدين بدفع الاجرة الى المؤجر وهو دائن بهذا الالتزام.
2- العقد الملزم لجانب واحد: طبقا للمادة 56 ق م هو العقد الذي ينشئ الالتزامات على عاتق أحد المتعاقدين دون الآخر، فلا يتبادل كلا طرفيه الالتزامات التي تنشأ عن العقد، بحيث تقع على أحد طرفيه فقط، فيكون أحدهما دائن غير مدين والآخر مدينا غير دائن، مثل عقد الوديعة دون أجر طبقا للمادة 590 من ق م وعقد الهبة طبقا المادة 202 ق الاسرة، حيث يلتزم في عقد الهبة الواهب وهو مدين فقط بتسليم الشيء الموهوب الى الموهوب له وهو دائن فقط من دون أن يلتزم هذا الأخير بشيء.(يختلف العقد الملزم لجانب واحد عن التصرف بإرادة منفردة في أن الأول عقد يتم بتطابق إرادتين وإن كان لا يلزم الا طرفا واحدا خلافا للثاني الذي يعد عملا قانونيا صادرا عن إرادة واحدة فقط فلا يعتبر عقدا كالوصية والوعد بجائزة…).
أهمية التقسيم: تكمن أهمية هذا التقسيم في المسائل التالية:
- من حيث الدفع بعدم التنفيذ
- من حيث الفسخ
- من حيث تحمل التبعة
1- من حيث الدفع بعدم التنفيذ: طبقا للمادة 123 ق م الدفع بعدم التنفيذ مقصور تطبيقه فقط عن العقود الملزمة للجانبين دون العقود الملزمة لجانب واحد، فإذا كانت الالتزامات المتقابلة مستحقة الأداء وامتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ ما عليه من التزام إلى أن ينفذ المتعاقد الآخر ما التزم به. وهذا هو الدفع بعدم التنفيذ وبهذا لا مجال لأعماله في العقود الملزمة لجانب واحد بحيث إذا لم ينفذ المدين ما التزم به ليس في ذمة الدائن أي التزام يمكنه الامتناع عن تنفيذه عن طريق التمسك بالدفع بعدم التنفيذ، فمن مصلحة الدائن هنا طلب التنفيذ العيني للالتزام او العقد.
2- من حيث الفسخ: طبقا للمادة 119 من القانون المدني مجال تطبيق الفسخ هو العقود الملزمة للجانبين فقط بحيث يترتب عليه انحلال الرابطة العقدية، فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ ما عليه من التزام جاز المتعاقد الآخر طلب الفسخ حتى يتخلص ويتحلل مما عليه من التزام، وعليه لا مجال لإعمال الفسخ في العقود الملزمة لجانب واحد لأنه عند إخلال المدين بما التزم به لا يوجد اي التزام يقابله في ذمة الدائن حتى يسعى لطلب الفسخ قصد التخلص منه، وعليه من مصلحته طلب التنفيذ العيني دون الفسخ كما في الدفع بعدم التنفيذ.
3- من حيث تحمل التبعة: طبقا للمادة 121 من القانون المدني ينقض الالتزام إذا استحاله على المدين تنفيذه بسبب أجنبي لا يد فيه، ويتحمل تبعة هذا الهلاك في العقود الملزمة للجانبين المدين وفي العقود الملزمة لجانب واحد الدائن.
- في العقود الملزمة للجانبين يترتب على انقضاء التزام أحد المتعاقدين بسبب استحالة تنفيذه (سقط من النص العربي للمادة كلمة "استحالة" انظر النص الفرنسي لنفس المادة par suite d'impossibilité d'execution)، انقضاء الالتزام المقابل له في ذمة المتعاقد الآخر وينفسخ العقد بقوة القانون طبقا للمادة 121 ق م، ويتحمل تبعة هذا الهلاك المتعاقد الذي اصبح تنفيذ التزامه مستحيلا أي المدين به، ففي عقد البيع مثلا إذا هلك الشيء المبيع بقوة قاهرة انقضى التزام البائع(مدين) بنقل الملكية وينقضي معه التزام المشتري بدفع الثمن وله رد الثمن ان كان قد دفعه إلى البائع ومن ثم يتحمل هذه الخسارة البائع باعتباره مدينا بالالتزام الذي هلك محله، ولا يمكنه مطالبة المشتري بالثمن( يعتبر دائنا بالنسبة للالتزام الذي استحالة تنفيذه)
- اما في العقود الملزمة لجانب واحد فإن تبعة الهلاك يتحملها الدائن دون المدين، لأنه إذا استحال على المدين تنفيذ التزامه بسبب اجنبي لا يد له فيه انقضى التزامه، ولن يخسر المدين هنا شيئا لأن هذا الانقضاء بالنسبة له يقوم مقام تنفيذ الالتزام و ليس لالتزامه ما يقابله في ذمة المتعاقد الآخر ينقي بإنقضائه، ففي عقد الهبة مثلا إذا هلك الشيء الموهوب بيد الواهب وهو المدين بنقل الملكية استحال عليه تسليمه الى الموهوب له( الدائن)، وبالتالي يزول التزام الواهب ولن يحصل الموهوب له على شيء، ومن ثم يتحمل الموهوب له وهو دائن غير مدين تبعة استحاله التنفيذ ولا يتحملها الواهب( المدين) ،لأنه في كلا الحالين التنفيذ أو الانقضاء يخرج محل الهبة من الذمة المالية للواهب دون أن يحصل على شيء، وهذا هو نفس الحكم بالنسبة للوديعة بغير أجر إذا استحال على المودع لديه رد الشيء الموُدع بسبب اجنبي يتحمل الخسارة المودع وهو الدائن.
خامسا: عقود المعاوضة وعقود التبرع
1- عقود المعاوضة: هي تلك العقود التي يأخذ فيها كل متعاقد مقابلا لما يعطيه للمتعاقد الاخر، اي يتبادل فيها المتعاقدان العطاءات وليس الالتزامات[1] ، مثل عقد البيع وعقد المقايضة وعقد الايجار، فالبائع ينقل ملكية الشيء المبيع ويحصل مقابل ذلك على الثمن، والمشتري يدفع الثمن ويحصل نظير ذلك على الشيء المبيع...الخ.
2- عقود التبرع: عقود التبرع هي تلك العقود التي لا يأخذ فيها أحد المتعاقدين مقابلا لما يعطيه للمتعاقد الآخر وبالمقابل لا يقدم ولا يعطي المتعاقد الآخر مقابلا لما حصل عليه، مثل عقد الهبة بدون عوض والوديعة بدون اجر وعقد العارية المادة 538 ق م، ففي عقد الهبة ينقل الواهب ملكية شيء معين للموهوب له دون ان يحصل على شيء، والموهوب له يحصل على الشيء الموهوب دون أن يعطي شيء.
و الجدير بالملاحظة ان اغلب عقود المعاوضة هي عقود ملزمة للجانبين واغلب عقود التبرع عقود ملزمة لجانب واحد، غير أنه لا يوجد تلازم بين هذين التقسيمين فأحدهما أساسه مدى تبادل الالتزامات والثاني أساسه مدى تبادل العطاءات بحيث يمكن أن تكون عقود التبرع عقود ملزمة للجانبين كما هو الحال في الهبة مع التكليف او بعوض وعقد العارية، فهي عقود تبرع ملزمة للجانبين(المادة 538 من القانون المدني والمادة 202 من قانون الأسرة)، كما يمكن أن تكون عقود المعاوضة عقودا ملزمة لجانب واحد فقط كما في عقد الوعد بالبيع المنزل لجانب واحد فهو لا يلزم الا الواعد إلا أنه عقد معاوضة وليس تبرع.
أهمية التقسيم: تكمن أهمية تقسيم العقود إلى معاوضة وتبرع فيما يلي:
* من حيث الأهلية اللازمة للتعاقد.
* من حيث أثر الغلط في شخص المتعاقد معه.
* من حيث مدى قيام الالتزام بالضمان (ضمان العيوب الخفية وضمان الاستحقاق).
* من حيث مدى وحجم مسؤولية المتعاقد عن عدم التنفيذ.
* من حيث شروط الدعوى البوليصية.
أ- من حيث الأهلية: يشترط المشرع في عقود التبرع توافر الأهلية الكاملة في المتبرع أي بلوغه 19 سنة دون أي عارض من عوارض الاهلية وإلا كان التصرف التبرع باطلا بطلانا مطلقا، لأنه ضارا به ضررا محضا.
أما في عقود المعاوضة فتكفي الأهلية الناقصة(التمييز) ببلوغه المتصرف سن 13 سنة دون جنون أو عته للانعقاد التصرف صحيحا وان كان قابلا للإبطال ابطال مستقبلا لمصلحة ناقص الأهلية طبقا للقانون المدني وموقوفا طبقا لقانون الأسرة، وهذا لأنها عقود دائر بين النفع والضرر.
ب- من حيث الغلط في شخص المتعاقد معه: في عقود التبرع يعتبر شخص المتعاقد معه أي المتبرع إليه محل اعتبار في العقد إذ لا يتبرع الفرد لأيّ كان، لذا يعتبر الغلط في شخص المتبرع له غلطاً جوهرياً يجعل العقد قابلا للإبطال لمصلحة من وقع في الغلط، كمن يهب مالا لزوجته معتقدا أنها لا تزال في ذمته في حين أن عدة طلاقها منه قد انقضت.
اما في عقود المعاوضة فإن الغلط في شخص المتعاقد معه لا يعتبر غلطا جوهريا فهو غير مؤثر في العقد إلا إذا أثبت من وقع في الغلط أن الشخص الذي تعاقد معه محل اعتبار خاص، كما في عقد الشركة، ففي عقد البيع مثلاً يستوي أن يتعاقد البائع مع زيد او عمر او غيرهما لان هدفه الجوهري هو الحصول على الثمن دون أهمية لشخصية المشتري.
ج- من حيث الالتزام بالضمان (ضمان العيوب الخفية وضمان الاستحقاق): الاصل ان الالتزام بالضمان لا يقوم الا في عقود المعاوضة، حيث يضمن البائع خلو الشيء المبيع من العيوب الخفية كما يضمن استحقاق الشيء المبيع للمشتري، أما في عقود التبرع فالأصل فيها لا يضمن فيها المتبرع لا استحقاق الشيء المتبرع به ولا خلوه من العيوب للمتبرع له، إلا إذا تعمد المتبرع بسوء نية إخفاء العيب او سبب الاستحقاق للغير كما في عقد العارية طبقا للمادة 541 ق م.
د- من حيث مدى وحجم مسؤولية المتعاقد عن عدم التنفيذ: ان مسؤولية المتبرع أخف من مسؤوليه غير المتبرع(المعاوض)، كما أن مسؤولية المتبرع له أشد من مسؤوليه المعاوض معه، ونجد هذا واضحا وجليا في العقود التي يمكن أن تكون عقود معاوضة كما يمكن أن تكون عقود تبرع، كعقود الوديعة، العارية، الوكالة وعقد القرض، فمن صور تخفيف مسؤولية المتبرع عدم التزامه بالضمان إلا عند الغش.
ففي عقد الوديعة مثلا طبقا للمادة 592 ق م إذا كانت الوديعة بدون اجر(تبرع) وجب على المودع لديه أن يبذل من العناية في حفظ الشيء المودع ما يبذله في حفظ ماله الخاص، أما اذا كانت باجر فيجب عليه دوما أن يبذل في ذلك عناية الرجل المعتاد، وعليه لا يسأل المودع لديه في الوديعة التبرعية عن إتلاف محل الوديعة إذا بذل في المحافظة عليه ما يبذله في المحافظة على ماله الخاص، حتى ولو كانت عنايته دون عناية الرجل المعتاد (كما لو كان رجل مهمل).
اما إذا كانت الوديعة بأجر(بعوض) فيسأل عن ذلك التلف لأنه تلقى مقابلا للوديعة وبالتالي عليه أن يبذل على الاقل في حفظ الشيء المودع عناية الرجل المعتاد (تشديد المسؤولية بالنسبة للمتصرف اليه).
ه- من حيث شروط الدعوى البوليصية (المادة 192 ق م): الدعوى البوليصية او دعوى عدم نفاذ تصرفات المدين هي الدعوى التي يرفعها الدائن للطعن في التصرفات التي يجريها المدين والضارة به، أي تلك التي من شأنها أن تؤدي إلى إعسار المدين أو الزيادة اعساره (والاعسار معناه زيادة قيمة الديون الثابتة في ذمة المدين على ما في ذمته من المال انظر المادة 193 ق م وهذا لأجل عدم نفاذها في حقه، وتختلف شروط رفع هذه الدعوى بحسب طبيعة التصرف الذي قام به المدين.
فاذا كان التصرف الذي قام به المدين تصرفا بعوض (عقد معاوضة) يشترط لقبول دعوى الدائن ان يثبت هذا الأخير غش المدين وعلم المتصرف اليه بهذا الغش، أي يثبت علم المدين أن هذا التصرف من شأنه ان يؤدي الى اعساره او الزيادة في ذلك طبقا للمادة 192/01 ق م.
اما إذا كان التصرف الذي قام به المدين تصرف دون عوض أي عقد تبرع فلا يكلف الدائن بإثبات غش المدين لأنه مفترض طالما أن التبرع يؤدي إلى إعساره أو الزيادة في ذلك طبقا للمادة 192/03 ق م، فالأولى للمدين قضاء ما عليه من ديون ثم التبرع، كما أن مصلحة الدائن أولى بالاعتبار من مصلحة المتبرع إليه. فالمشرع هنا يفترض الغش فيمن يمتنع عن الوفاء بما عليه من ديون ثم يتبرع للغير إذا كان هذا التبرع يؤدي به إلى إعساره أو الزيادة في ذلك.
سادسا: العقد الفوري والعقد المستمر.
1- العقد الفوري: هو ذلك العقد الذي لا يكون الزمن عنصرا جوهريا فيه أي لا يتدخل الزمن في قياس مقدار وحجم أي من الالتزامات الناشئة عنه، بحيث تتحدد الأداءات فيه بشكل مستقل عن الزمن كما في عقد البيع، المقاولة وعقد المقايضة.... الخ.
فعقد البيع مثلا يعتبر عقدا فوريا حتى ولو كان دفع الثمن فيه أو تسليم الشيء المبيع مؤجلا، لان الاجل "الزمن" هنا عنصرا عارضا ولا يزيد ولا ينقص من حجم وقيمة التزامات البائع والمشتري.
1- العقد الزمني أو العقد المستمر: هو العقد الذي يعتبر فيه الزمن عنصراً جوهراً فيه، بحيث يتوقف عليه قياس محل العقد او على الاقل الاداء الرئيسي لاحد المتعاقدين. وقد يكون هذا العقد ذات تنفيذ مستمر مثل عقد الايجار وعقد العمل وعقد الشركة، وقد يكون ذا تنفيذ دوري[2] مثل عقود التوريد وعقد الايراد المرتب لمدى الحياة….. الخ.
ففي عقد الايجار مثلا كعقد زمني يتدخل الزمن لتحديد قيمه المنفعة المعقود عليها بالنسبة للمؤجر" الاجرة" وللمستأجر "العين المؤجرة"، بحيث كلما زاد عنصر الزمن كلما زادت معه التزامات ومنافع طرفي العقد.
اهميه التقسيم: تكمن اهميه تقسيم العقود الى فورية وزمنية فيما يلي:
- من حيث أثر الفسخ والبطلان.
-من حيث أثر القوة القاهرة المؤقتة.
- من حيث ضرورة الاعذار لاستحقاق التعويض.
- من حيث تأثير الظروف الطارئة.
- من حيث امكان انهاء العقد بالإرادة المنفردة لاحد المتعاقدين.
1- من حيث أثر الفسخ: للفسخ والبطلان في العقد الفوري أثر رجعي، اي يرجع المتعاقدين الى الحالة التي كان عليها قبل التعاقد فالبائع يرد الثمن والمشتري يرد الشيء المبيع لأن هذا ممكنا.
أما الفسخ والبطلان في العقود الزمنية فليس له أثر رجعي، بحيث يقتصر أثره فقط على المستقبل (هذا إذا حصل تنفيذ جزئي للعقد)، فلا يمكن ارجاع المتعاقدين بالفسخ الى الحالة التي كان عليها قبل التعاقد، لان تنفيذه مرتبط بالزمن وما فات من الزمن لا يعود، ففي عقد الايجار مثلا لا يمكن للمستأجر ان يرد المنفعة التي حصل عليها خلال مدة معينة من العين المؤجرة، لهذا يترتب عن فسخ العقد الزمني انهائه بالنسبة للمستقبل.
2- من حيث شرط الإعذار: طبقا للمادة 179وللمادة 180 ق م فإن عدم تنفيذ المدين لالتزامه مده معينه في العقد الزمني لا يعتبر تأخيرا في التنقيد بل عدم تنفيذ نهائي لا يمكن تداركه بتنفيذ لاحق، وعليه لا يشترط لاستحقاق التعويض عن ذلك اعذار المدين لأنه لا فائدة منه، ويجب التعويض عنه تعويضا عن عدم التنفيذ لا عن التأخير فيه، وهذا كله خلافا للعقد الفوري فالإعذار فيه شرطا لاستحقاق التعويض عن التأخير في تنفيذ الالتزام الا في حالات خاصة حددها المشرع بموجب الماده181 ق م.
3- من حيث اثر القوة القاهرة المؤقتة: اذا حالت قوة قاهرة دون تنفيذ العقد مؤقتا فان هذا يؤدي الى تأجيل تنفيذ العقد الفوري الى حين زوالها، دون ان يتأثر مقدار التزام كل متعاقد، خلافا للعقود الزمنية حيث يترتب على وقف تنفيذها مدة معينة ضرورة الانقاص من مقدار التزامات المتعاقدين بمقدار المدة التي اوقف العقد خلالها، فان لم يتمكن المستأجر مثلا من الانتفاع بالعين المؤجرة لمده عشرة ايام يسقط من ذمته الالتزام بدفع الأجرة المقابلة لنفس المدة، ويمكن لهذه القوه القاهرة ان تؤدي الى انهاء العقد الزمني متى قاربت او فاقت مدتها مده العقد نفسه.
4- من حيث الظروف الطارئة: في العقد الزمني إذا طرأ اثناء سريان العقد ظروف طارئة عامة لم تكن متوقعه اثناء التعاقد تجعل تنفيذ التزام أحد المتعاقدين مرهقا غير مستحيل يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي وتبعا للظروف وبعد مراعاة مصلحة الطرفين التدخل لرد الالتزام المرهق الى الحد المعقول او الزيادة في قيمه الالتزام المقابل له او الامر بوقت تنفيذ العقد مؤقتا طبقا للماده107 من القانون المدني.
اما في العقد الفوري فالأصل فيه ان لا مجال لإعمال نظرية الظروف الطارئة لان تنفيذه فوري دفعة واحدة، وكل الظروف القائمة وقت التعاقد لا تعتبر طارئة الا في حاله ما إذا كان تنفيذ أحد الالتزامات مؤجلا.
5- انهاء العقد بالإرادة المنفردة: لا مجال لإنهاء العقد الفوري والعقد الزمني المحدد المدة بالإرادة المنفردة لاحد المتعاقدين، اما في العقود الزمنية غير المحددة المدة ومنعا لتأبيد هذه العقود يجوز انهائها بالإرادة المنفردة لأحد المتعاقدين، بشرط أن كون ذلك في الوقت المناسب وبعد تنبيه المتعاقد الاخر بذلك خلال مدة معقولة وعدم التعسف في استعمال هذا الحق والا اعتبر فسخا تعسفيا يستوجب التعويض.
سابعا: العقود الاحتمالية والعقود المحددة القيمة
العقد المحدد القيمة هو ذاك العقد الذي يعرف فيه كل متعاقد وقت انعقاد العقد قيمه ومقدار ما يلتزم به ومقدار ما يحصل عليه من المتعاقد الاخر. مثل عقد البيع بثمن محدد فالبائع يعلم ويعرف عند التعاقد مقدار الشيء المبيع الذي يلتزم به ومقدار الثمن الذي يتقاضاه من المشتري ونفس الحال بالنسبة للمشتري.
اما العقد الاحتمالي ويسمى ايضا بعقود الغرر: فهو العقد الذي لا يعرف فيه أحد المتعاقدين او كلاهما وقت التعاقد قيمه ومقدار ما يلتزم به، ومقدار ما يحصل عليه من المتعاقد الاخر لان امر معرفة ذلك متوقف على حادث او امر مستقبلي غير محقق الوقوع او غير محقق تاريخ وقوعه كما في عقد التامين وعقد البيع بثمن مرتب لمدى الحياة.
ففي عقد التامين عن الحريق مثلا لا يعلم المؤمن والمؤمن له مقدار ما سيٌدفع ولا مقدار ما هو مٌستحق له، فقد لا يتحقق الخطر" الحريق" فيحصل المؤمن على اقساط التامين دون ان يدفع شيء للمؤمن له…...الخ
اهميه التقسيم: تكمن اهميه هذا التقسيم فيما يلي:
1- من حيث مدى توافر عنصر الاحتمال
2- من حيث الغبن
1- من حيث عنصر الاحتمال: يعتبر عنصر الاحتمال عنصراً جوهرياً واساسياً في العقد الاحتمالي بحيث يترتب على تخلفه اثناء التعاقد بطلان العقد بطلانا مطلقا، ففي عقد التامين يعتبر الخطر "احتمال" ركنا في العقد فاذا انعدم بطل العقد، نفس الشيء في البيع بمرتب لماذا حياة شخص ثالث ثبت انه توفى قبل انعقاد العقد" البيع"، اما العقد المحدد فينعدم فيه عنصر الاحتمال.
2- من حيث الطعن بالغبن: الغبن هو عدم التعادل الفاحش بين اداءات طرفي العقد، ولتقدير قيمه الغبن يجب النظر الى اداءات الطرفين وقت التعاقد، وهذا لا يمكن ان يكون الا في العقد المحدد القيمة، لان في العقد الاحتمالي اداءات الطرفين غير محددة عند التعاقد ومن ثم لا يمكن تقدير ما اذا كان هناك غبن ام لا، وعلى هذا لا يطعن بالغبن الا في العقود المحددة القيمة دون العقود الاحتمالية، وبموجب المادة 358 ق م اذا وقع البائع للعقار في غبن يزيد عن الخمس(5/1) له ان يتمسك بالغبن لمطالبة المشتري بتكملة الثمن الى حدود اربع اخماس(5/4) ثمن المثل، انظر ايضا المادة 732 ق م بشأن عقد القسمة في الملكية الشائعة.
ثامنا: عقود المساومة وعقود الإذعان
1- عقود المساومة: هي تلك العقود التي يمكن فيها لكلا المتعاقدين مناقشة ومساومة شروط العقد ووضعها بكل حرية، بحيث غالبا ما تكون فيها اراده المتعاقدين متكافئتين، وكل بنود العقد موضوع نقاش وتفاوض بينهم، مثل عقد البيع والمقايضة….. الخ، والاصل في العقود انها عقود مساومة ما لم يثبت العكس انها تمت بطريق الاذعان.
2- عقود الإذعان: طبقا للمادة 70 ق م هي تلك العقود التي لا يملك فيها أحد المتعاقدين مناقشة شروط وبنود العقد، حيث يقتصر دوره فقط على الإذعان والخضوع لقبول ما يعرض عليه من شروط، فإما ان يقبلها دفعة واحدة فينعقد العقد او يرفضها جملة واحدة فلا يتم العقد، مثل عقد النقل والبحري والجوي، عقد التأمين، عقود ايصال الكهرباء، الماء، الغاز…. الخ.
وتنشأ عقود الإذعان نتيجة احتكار بعض الاشخاص او المؤسسات لبعض السلع والخدمات الضرورية لعامة الناس احتكارا فعليا او قانونيا، بحيث يضع المحتكر العقد في شكل نموذج عام يُضمنه مجموعة من الشروط والبنود التي لا يقبل مناقشته فيها، لهذا تسمى هذه العقود في فرنسا بعقود الانضمام les contrat d’adhésion، وهناك من الفقهاء من ينكر عليها صفة العقد فهي أقرب الى فكره النظام منها الى فكرة العقد.
اهميه التقسيم: تكمن اهمية هذا التمييز والتقسيم فيما يلي:
- من حيث تدخل القاضي لتعديل العقد
- من حيث تفسير العقد
1- من حيث تدخل القاضي: في عقود المساومة لا يجوز للقاضي التدخل لتعديل بنود العقد الا استثناءً تطبيقا لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين المادة 106 ق م، أما في عقود الإذعان فقد أجاز المشرع للقاضي طبقا للمادة 110 ق م التدخل لتعديل الشروط التعسفية فيه، كما له ان يعفي الطرف المذعن منها كليةً، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك.
2- من حيث تفسير العقد: طبقا للمادة 112 ق م عند تفسير القاضي للعبارات الغامضة في العقد عليه ان يفسر ويؤول الشك لمصلحه المدين دون الدائن هذا بالنسبة لعقود المساومة، اما في عقود الإذعان وطبقا للمادة 112/02 ق م فان الشك يؤول لمصلحة الطرف المذعن مدينا كان او دائنا باعتباره الطرف الضعيف في العقد، وباعتباره لم يشارك في وضع بنود العقد التي هي من وضع الطرف القوي وحده، وعليه أن يتحمل لوحده ما بها من شك او غموض.
[1]- بنص المادة 58 من القانون المدني يعرف المشرع عقد المعاوضة بأنه "... الذي يلزم كل واحد من الطرفين…" وبهذا يخلط المشرع بين تعريف عقد المعاوضة والعقد الملزم للجانبين.
[2] - في جوهره هو تكرار لعقد فوري لمدة معينة، أصبح عقدا زمنيا باتفاق الطرفين مثل الاتفاق على توريد سلعة ما فهو تكرار لعملية البيع باتفاق وعقد واحد.
-
الفصل الأول
انعقاد العقد
العقد توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني معين، فلكي ينشأ العقد لابد من توافق وتطابق ارادتين او أكثر، وهذا هو التراضي الذي يعد الركن الاساسي والجوهري في العقد، ويجب ان ينصب هذا التراضي على شيء معين، وهذا هو محل العقد، ويجب ان تكون ارادة المتعاقدين مدفوعة بغايه مشروعه تستهدف تحقيقها، وهذا هو سبب العقد الذي يعد الركن الثالث في بعد ركن المحل وركن التراضي.
إلى جانب الأركان العامة سالفة الذكر يشترط المشرع في حالات خاصة لقيام العقد ضرورة اتباع إجراءات شكلية معينة، سواء بكتابة العقد في شكل معين او ضرورة تسليم العين محل التعاقد.
بناء على ما تقدم للعقد الأركان التالية:
1- التراضي.
2- المحل.
3- السبب.
4- الشكلية في بعض العقود.
5- التسليم في العقود العينية.
والملاحظ بهذا الشأن انه يترتب على تخلف ركن من الاركان السابقة بطلان العقد بطلان مطلقا فلا تصححه لا الإجازة ولا التقادم.
واضافةً الى اركان السابقة والتي تسمى ايضا بشروط الانعقاد، للعقد شروط صحة بحيث لا ينعقد العقد صحيحا إلا بتوافرها وهي:
1- وحوب توافر الأهلية في كل من طرفي العقد.
2- خلو الإرادة من العيوب، عيوب الإكراه، الغلط، التدليس والاستغلال.
ويترتب على تخلف شرط من شروط صحة العقد ان ينشا العقد وينعقد صحيحا قابلا للأبطال لمن مصلحه من وقع في العيب، وما يميز العقد القابل للإبطال انه عقد صحيح غير انه مهدد بالإبطال مستقبلا إذا تمسك بالبطلان المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته، كما يتميز بإمكانية تصحيحه بالإجازة والتقادم (في عقود المعاوضة يكون العقد موقوفا لا قابلا للإبطال إذا كان العيب الذي شاب العقد هو نقص اهلية أحد المتعاقدين طبقا لقانون الأسرة خلافا لأحكام القانون المدني).
تبعا لما تقدم ندرس بشيء من التفصيل شروط انعقاد العقد وشروط صحته[1]
-
المبحث الاول
التراضي
اساس العقد هو التراضي، اي توافق ارادتي طرفي العقد، ولا يكفي وجود التراضي حتى ينشا العقد صحيحا غير مهدد بالإبطال، بل يجب زيادة على ذلك ان يستوفي هذا التراضي شروط صحته "وهي نفسها شروط صحة العقد"، ولهذا ندرس تباعا ركن التراضي من خلال ما يلي: المطلب الأول: وجود التراضي
المطلب الثاني: شروط صحة التراضي
المطلب الأول
وجود التراضي
وجود التراضي يتطلب بداية وجود الإرادة والتعبير عنها، وهذا غير كافي لوجود التراضي إذ لابد من توافق وتطابق هذه الإرادة المعبر عنها مع ارادة اخرى تقابلها. ولهذا ندرس تباعا وجود الإرادة والتعبير عنها ثم توافق الارادتين.
الفرع الأول
وجود الإرادة والتعبير عنها
تنص المادة 59 من القانون المدني" يتم العقد بمجرد ان يتبادل الطرفان التعبير عن ارادتيهما المتطابقتين، دون الاخلال بالنصوص القانونية"
يتضح من خلال هذا النص انه لكي يتوافر ركن التراضي لابد من ان توجد الإرادة لدى طرفي العقد وان يتم التعبير عنها وان تتجه الى احداث اثر قانوني معين، بحيث لا يمكن للصغير والمجنون ابرام العقود لانعدام الإرادة لديهما، كما لا يعتد قانونا بإرادة الهازل ولا بالإرادة غير الجادة كما في مجال المجاملات، كما لا يمكن الاعتداد بالإرادة طالما ظلت كامنة في نفس صاحبها، الا من الوقت الذي يتم فيه التعبير عنها فتظهر للعالم الخارجي فتكون بذلك قادره على الاقتران بإرادة اخرى، وهنا يجب ان يأتي التعبير عن الارادة" الإرادة الظاهرة" مطابقا لما قصدته الارادة الحقيقية" الإرادة الباطنة"
تبعا لما تقدم نبحث تباعا فيما يلي:
أولا: التعبير عن الإرادة
ثانيا: العلاقة بين الإرادة والتعبير عنها- الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة -
أولا: التعبير عن الإرادة
يتم العقد طبقا للمادة 59 من القانون المدني بمجرد أن يتم تبادل التعبير عن ارادتين متطابقتين، ويسمى التعبير عن الإرادة الذي يصدر عن الطرف الأول بالإيجاب، ويسمى التعبير الذي يأتي مطابقا للإيجاب بالقبول حيث بتطابق هذا الإيجاب وهذا القبول ينعقد العقد.
والكلام عن هذا الموضوع يتطلب منا بداية بيان طرق التعبير عن الارادة ثم تحديد الوقت الذي ينتج فيه هذا التعبير أثره القانوني، ثم تحديد أثر الموت وفقدان الأهلية في ذلك.
1- طرق التعبير عن الإرادة: تماشيا مع مبدأ الرضائية في العقود لا يخضع التعبير عن الإرادة لشكل معين ولذا يصح ان يكون صريحا او ضمنيا وهذا ما نصت عليه المادة 60 ق م " التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة او بالإشارة المتداولة عرفا كما يكون باتخاذ موقف لا يدع شكا في دلالته على مقصود صاحبه، ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا ما لم ينص القانون او يتفق الطرفان على أن يكون صريحا".
طبقا لهذا النص التعبير عن الإرادة يمكن ان يكون صريحا كما يمكن ان يكون ضمنيا.
أ- التعبير الصريح: يكون التعبير عن الإرادة صريحا إذا دل بذاته وبطريقة مباشرة عن الإرادة بحسب ما تعارف عليه الناس، حيث يقصد به الاعلان عن الإرادة الى من توجه اليه، ويكون ذلك باللفظ أو بالكتابة او بالإشارة المتداولة عرفا او باتخاذ موقف لا يدع شكا في دلالته على مقصود صاحبه.
التعبير عن الإرادة باللفظ: يكون عن طريق الكلام مباشرةً حال التعاقد بين حاضرين او عن طريق رسول حال التعاقد بين غائبين، وللمتعاقدين الحرية في اختيار الالفاظ التي يعبران من خلالها عن ارادتهما بشرط ان تدل على مقصود صاحبه.
التعبير عن الإرادة بالكتابة: يكون عن طريق افراغ المتعاقد لإرادته في ورقة رسمية او عرفيه بخط اليد او بالألة الكاتبة ترسل مباشرة الى الغير عن طريق النسخ والاعلان، ويكون هذا غالبا حال التعاقد بين شخصين لا يجمعهما مجلس واحد، ولا يشترط التعبير عن الإرادة بالكتابة الا إذا وجد اتفاق سابق او نص في القانون يفرض ذلك كما هو وارد بالمادة 324 مكرر من القانون المدني بالنسبة للعقود الشكلية.
يمكن ان يتم التعبير صراحه عن الإرادة كذلك عن طريق الإشارة المتداولة عرفا، فقد تعارف الناس على ان هز الرأس عموديا يدل على الموافقة والقبول وهزها افقيا يدل على عدم الموافقة، ويتم التعبير عن الإرادة بهذه الوسيلة خاصة بالنسبة للشخص الذي لا يتكلم ولا يستطيع الكتابة، او إذا كان المتعاقد معه لا يسمع.
اضافه الى ما تقدم يمكن ان يأتي التعبير عن الإرادة صريحا عن طريقه اتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة مقصود صاحبه، كما في وقوف سيارات الأجرة في الاماكن المعدة لوقوفها، وعرض التاجر للبضائع وعليها الاسعار على واجهات المحل، فهذه المواقف تدل صراحةً دون أدنى شك على ان السائق يعرض السيارة للجمهور للركوب والنقل، والتاجر يعرض البضاعة للبيع، حيث يقوم هذا الموقف مقام اللفظ والكتابة والإشارة المتداولة عرفا.
ب-التعبير الضمني: يكون التعبير عن الإرادة ضمنياً غير صريح إذا كان قاصرا بذاته للدلالة مباشره عن الإرادة، غير ان الظروف التي تم فيها لا تمكن من تفسيره الا باعتباره تعبيرا عن الإرادة.
فالتعبير الضمني إذا هو تعبير غير مباشر عن الإرادة، يتم الكشف عنه من الافعال التي تصدر عن الشخص، مثل تصرف الشخص في شيء عرض عليه ليشتريه، فالتصرف في الشيء يدل على قبول المتصرف ضمنيا شراء الشيء بالثمن المعروض عليه، ومثال ذلك أيضا بقاء المستأجر في العين المؤجر بعد انتهاء عقد الايجار فهذا تعبير ضمني عن رغبته في تجديد عقدي الايجار، كما ان سكوت المؤجر عن ذلك مع علمه بانقضاء مدة الايجار يعتبر كذلك تعبيراً ضمنياً عن قبوله تجديد العقد بالشروط ذاتها.
ويلاحظ ان التعبير الضمني عن الإرادة خلافا للتعبير الصريح غير قاطع في الدلالة على المقصود منه بحيث يجوز اثبات عكسه.
وتطبيقا للمادة 60 ق م يستوي ان يأتي التعبير عن الإرادة صريحاً او ضمنياً حيث لهما نفس القوة، الا ان المشرع في حالات خاصه يشترط ان يفرغ التعبير عن الإرادة في شكل خاص (رسمي او عرفي) كما في العقود الشكلية، وقد يكتفي القانون في حالات اخرى بما دون ذلك ويشترط فقط ان يكون التعبير عن الإرادة صريحا (بالكتابة او غيرها). وبالتالي لا يعتد بالتعبير الضمني عندها. فطبقا للمادة 505ق م مثلا لا يجوز للمستأجر التنازل عن الايجار او ان يؤدي من الباطن ما استأجره الا بعد موافقه صريحه من المؤجر، انظر أيضا المادة 331من القانون المدني.
كما يجوز اتفاق على ان يكون التعبير عن الإرادة صريحا، فلا يكفي عندها التعبير الضمني طبقا لماده 60ق م"... إذا لم ينص القانون او يتفق الطرفين على ان يكون صريحا".
هل يصلح السكوت طريقا للتعبير عن الإرادة؟
إذا كان التعبير الضمني عن الإرادة وضع وموقف ايجابي يستخلص منه حتما ما يدل على إرادة صاحبه، فانه على العكس من ذلك يعتبر السكوت موقف سلبي فهو عدم والعدم لا ينبئ بشيء، فلا يمكن أن يدل لا على قبول ولا على رفض، لأجل ذلك لا يصلح كقاعدة عامه السكوت طريقا للتعبير عن الإرادة تطبيقا للقاعدة الشرعية "لا ينسب لساكت قول".
تطبيقا لذلك إذا أرسل تاجر عينة من بضاعته الى شخص معين مع اخطاره اياه بان عدم رد العينة خلال فترة معينة يعتبر قبولا منه للشراء، فان سكوت هذا الشخص على هذا العرض وعدم الرد لا يعتبر قبولا فلا ينعقد به العقد.
بالنسبة للإيجاب: لا يصلح السكوت مطلقا كطري للتعبير عن الايجاب، لان الايجاب بالتعاقد يستلزم اتخاذ موقف إيجابي، فلا يتصور ان ينتج عن مجرد السكوت.
بالنسبة للقبول: القاعدة ايضا ان السكوت لا يصلح تعبيرا عن الإرادة بالقبول تطبيقا لقاعده لا ينسب لساكت قول، لان القول بغير هذا يؤدي الى ان نفرض على الشخص بان يرفض كل ما يحلو لغيره ان يعرضه عليه والا اعتبر قابلا، ولا شك ان في هذا حرج شديد ومساس بالحرية الشخصية.
غير انه واستثناءً من هذه القاعدة يمكن اعتبار السكوت قبولا لوجود نص في القانون يعتبره كذلك، او إذا لابست هذا السكوت ظروف تدل على انه قبولا تطبيقا للقاعدة" السكوت في معرض الحاجة الى البيان بيان"، وتماشيا مع هذه القاعدة الفرعية يعتبر المشرع السكوت في بعض الحالات قبولا بموجب نص خاص في القانون، ففي البيع بشرط التجربة وطبقا للمادة 355 فقره01 ق م "...إذا انقبضت مده التجربة وسكت المشتري مع تمكنه من تجربة الشيء المبيع اعتبر سكوته هذا قبولا للشراء.
السكوت الملابس: هو السكوت الذي تحيط به ظروف وملابسات تدل وفقا لمقتضيات حسن النية ان من وجه اليه الايجاب ان لم يقبل العرض يجب عليه ان يصرح برفضه، أي ان الموجب لم يكن ينتظر ردا بالقبول ولكن يتوقع وينتظر الرد فقط في حاله الرفض، وتمشيا مع هذا المنطق وتطبيقا لقاعدة السكوت في معرض الحاجة الى البيان بيان اورد المشرع الجزائري من خلال نص المادة 68 ق م ثلاث أمثلة يصلح السكوت فيها تعبيرا عن الإرادة بالقبول وهي واردة على سبيل المثال لا الحصر وهي:
ü إذا كانت طبيعة المعاملة او العرف التجاري او غير ذلك من ظروف تدل على ان الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول، فان عدم رفض الايجاب في وقت مناسب يعتبر قبولا، ومثال ذلك ان يرسل تاجر الى تاجر التجزئة ما يطلبه من بضائع مرفقه ببيان اسعارها الجديدة، حيث يعتبر سكوت تاجر التجزئة عن هذه الاسعار الجديدة قبولا بها.
ü إذا اتصل الايجاب بالتعامل سابق بين المتعاقدين: مثل ان تعتاد شركة على طلب سلعة ما من شركه اخرى بحيث تقوم هذه الأخيرة بإرسال السلعة دون ان تصرح بالقبول، فاذا طلبت الشركة الاولى تزويدها بكمية اخرى (ايجاب)، وسكتت الثانية دون ان ترد بالرفض فان سكوتها هذا يعتبر قبولا للتزويد بالكمية الإضافية.
ü إذا كان الايجاب لمصلحه من وجهها اليه فقط: فسكوت هذا الاخير عن الايجاب يعتبر قبولا به، لأنه يترتب عليه مصلحه مطلقه له، بحيث لا يوجد مبرر يدعو من وجه اليه هذا الايجاب الى رفضه لأجل هذا يفترض قبوله من سكوته، لأنه لو كان له سبب للرفض لرفض فعدم الرفض دليلا على القبول. ويكون هذا في عقود التبرع فسكوت الموهوب له في الهبه يعد قبولا بها وسكوت المستعير عن عرض المعير يعد قبولا بالعارية لان الهبة والعارية يتحمض على الايجاب بهما مصلحة خاصة لمن وجد اليه.
ملاحظة: يلاحظ بشأن الفقر الأخيرة من المادة 68ق م بانه قد سقط منها سهوا كلمه فقط والصحيح اذن"... إذا كان الايجاب لمصلحه من وجهها اليه فقط". وهذا تماشيا مع النص الفرنسي لنفس المادة الذي جاءكما يلي"Lorsqu’elle est seulement dans l’intérêt de son destinataire..» ي وبهذا يتماشى مضمون هذا النص مع موقف المشرع المصري الذي يشترط ان يتمحض الايجاب لمصلحه من وجه اليه، وبالتالي يكون السكوت قبولا في هذا الفرض قاصرا فقط على عقود التبرع دون عقود المعاوضة. لان في هذه الأخيرة يكون الايجاب في مصلحه الموجب ومن وجه اليه معا دون من وجه اليه فقط.
2-الوقت الذي ينتج فيه التعبير عن الإرادة أثره: تنص المادة 61ق م" ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجهه اليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك"
طبا لهذا النص يستلزم المشرع في مجال العقد اضافه الى وجود الإرادة والتعبير عنها ضرورة اعلام من توجه اليه بها، حيث يجب ان يصل التعبير عن الإرادة الى علم من وجهه اليه هذا التعبير حتى يكون صالحا لترتيب اثاره، وتماشيا مع ذلك يلزم ان يكون علم الطرف الثاني بالتعبير عن الارادة نتيجةً للتوجيه والتصدير الارادي للتعبير من صاحبه.
فاذا حرر شخص رسالة الى شخص اخر ولم يرسلها وقام شخص اخر بإرسالها دون اذن منه، فان التعبير عن الإرادة هنا لا ينتج اثاره حتى مع علم الغير به. لان العلم هنا لم يكن نتيجة لتوجيه الاختياري للإرادة.
وتطبيقا لنص المادة 61ق م التعبير عن الإرادة ايجابا كان او قبولا يصبح له وجود مادي بمجرد صدوره عن صاحبه واستقلاله عن شخص من صدر عنه، غير أنه لا ينتج اثاره الا من وقت اتصاله بعلم من وجهه اليه، عندها فقط يصبح له وجوداً قانونياً يؤهله لان يكون صالحاً لان يرتب أثره القانوني.
فاذا كان التعبير عن الإرادة إيجابا: فانه قبل وصول الايجاب الى علم من وجهه اليه يكون للإيجاب وجودا ماديا فقط، فلا يترتب عليه أثره القانوني وعليه يستطيع الموجب الرجوع في ايجاده او تعديله وبعد وصول الايجاب الى علم ي من وجهه اليه يدخل مرحله الوجود القانوني فيكون صالحا لترتيب أثره القانوني والمتمثل في صلاحيته لان يقترن به قبول، وبالتالي لا يمكن في هذه الحالة للموجب العدول عن ايجابه او التعديل فيه حيث يصبح الايجاب ملزما له.
وإذا كان التعبير عن الإرادة قبولا: فإنه قبل وصول القبول الى علم الموجب يكون لهذا القبول وجودا ماديا فقط، فلا يترتب عليه أثره القانوني، وعليه يستطيع القابل الرجوع في قبوله او التعديل فيه، وبعد وصوله الى علم الموجب يدخل القبول هنا مرحله الوجود القانوني فيكون صالحا لترتيب أثره القانوني المتمثل في الاقتران بالإيجاب وبالتالي انعقاد العقد، وبالمقابل لا يمكن للقابل الرجوع فيه.
وقد جعل المشرع بموجب المادة 61ق م من وصول التعبير عن الإرادة ايجابا كان او قبولا الى من وجد اليه قرينه على العلم به، الا انها قرينة بسيطة تقبل اثبات العكس، حيث يمكن لمن وجهه اليه التعبير عن الإرادة اثبات عدم علمه به على الرغم من وصوله اليه، كما لو اثبت انه كان غائبا وقت وصول التعبير (رسالة مثلا).
ويلاحظ اخيرا ان اهمية التفرقة بين وجود التعبير عن الإرادة (الوجود المادي) وعلم من وجهه اليه به (الوجود القانوني) تظهر فقط في حالة التعاقد بين غائبين أي بين شخصين لا يجمعهما مجلس عقد واحد.
3-أثر الموت وفقد الأهلية في التعبير عن الإرادة: تنص المادة 62 من القانون المدني "اذا مات من صدر عنه التعبير عن الإرادة او فقد اهليته قبل ان ينتج التعبير اثره، فان ذلك لا يمنع من ترتيب هذا الاثر عند اتصال التعبير بعلم من وجهه اليه هذا التعبير ما لم يتبين العكس من طبيعة التعامل او من التعبير".
التعبير عن الإرادة اذن ايجابا كان او قبولا إذا تحقق وجوده المادي بصدوره عن صاحبه لا يحول دون تحقق وجوده القانون باتصاله بعلم من وجهه اليه. وفاه او فقد اهليه من صدرها عنه التعبير قبل ذلك. والملاحظ في هذا الشأن ان المشرع لم يعالج الا حاله وفاه او فقدان اهلية من صدر عنه التعبير عن الإرادة دون حالة وفاة او فقد اهليه من وجهه الي التعبير عن الارادة.
الفرض الأول: وفاة او فقد اهلية من صدر عنه التعبير عن الارادة
أ-أثر الموت وفقد الأهلية في الاجاب: إذا مات الموجب او فقد اهليته قبل ان يصل ايجابه الى علم من وجهه اليه أي الموجب له فانه وطبقا للمادة 62ق م فان هذا لا يحول دن صلاحيه هذا الايجاب لترتيب اثآره واقترانه بالقبول عند اتصاله بعلم من وجه اليه. كما يمكن للورثة العدول عن هذ ا الايجاب طالما لم يحصل العلم به ممن ن وجه اليه. لكن هل ينعقد العقد إذا حصل قبولا لهذا الايجاب؟
يرى الاستاذ السنهوري انا العقد لا ينعقد لان القبول في هذا الفرض وتماشيا مع نص المادة 91ق م مصري الموافقة للمادة 61ق م جزائري لا ينتج اثاره وينعقد العقد الا إذا علم به الموجب، وهذا غير ممكن لان الموجب توفي او فقد اهليته.
خلافا لذلك يرى الاستاذ سليمان مرقص بانعقاد العقد وحجته في ذلك تتمثل في مدى جدوى القول ببقاء الايجاب وصلاحيته لترتيب اثاره بعد موت الموجب او فقدان اهليته طبقا للمادة 62 ق م إذا كان من غير الممكن ان يقترن به القبول وينعقد العقد، ويرى ان ورثة الموجب او القيم عليه حاله فقد اهليته يحلون محله فقط في تلقي العلم بالقبول ومن هذا الوقت فقط ينعقد العقد، ونحن من جانبنا نميل الى الاخذ بهذا الراي حتى لا يفرغ نص المادة 62 ق م من محتواه والقاعدة تقضي بان لا اجتهاد في مورد النص.
ب- أثر الموت وفقد الأهلية في القبول: إذا مات القابل او فقد اهليته قبل ان يرتب قبوله اثاره اي قبله وصوله الى علم من وجه اليه(الموجب)، فان هذا لا يحول دون صلاحيه هذا القبول لترتيب أثره المتمثل في انعقاد العقد عند اتصاله بعلم الموجب، ولورثة القابل قبل حدوث العلم حق العدول عن القبول او التعديل فيه كما كان لسلفهم ذلك.
الفرض الثاني: موت او فقد اهليه من وجهه اليه التعبير عن الإرادة.
هذه الحالة لم يعالجها المشرع الجزائر ي بنص المادة 62ق م ج
أ-موت او فقد اهليه من وجه اليه القبول: إذا كان الذي توفي او فقد اهليته هو الموجب قبل ان يعلم بالقبول فانه وبالقياس على الحالة الاولى من الفرض الأول أي حالة وفاة الموجب فان هذا لا يحول دون ترتيب القبول لأثره المتمثل في انعقاد العقد، حيث ينوب الورثة او القيم على الموجب في تلقي العلم بالقبول وبالتالي ينعقد العقد من وقت حصول هذا العلم. (صدور الايجاب عن الموجب ثم وجه الى الموجب له فقبل به وأعلن القابل قبوله ووجهه الى الموجب وقبل علم الموجب به توفي او فقد اهليته).
ب-وفاه او فقد أهلية من وجهه اليه الاجاب (الموجب له): إذا كان الذي مات او فقد اهليته ليس الموجب وانما من وجه اليه الايجاب فهنا وجب علينا التميز بين فرضين هما.
ü إذا حدثت الوفاة او فقدان الأهلية قبل ان يصل الايجاب الى علم من وجه اليه فان هذا يؤدي الى سقوط الايجاب بحيث لا يجوز للورثة وللقيم الحلول محل من وجه اليه الاجاب في تلقي العلم بالإيجاب واصداره القبول وهذا بلا خلاف بين الفقهاء.
ü إذا حدثت الوفاة او فقدان الأهلية بعد ان وصل الإيجاب الى علم من وجه اليه، اي بعد ان رتب أثره القانوني وقبل اعلان القبول، فان الراي الغالب هو عدم سقوط الايجاب حيث للورثة او القيم امكانية اعلان القبول فينعقد العقد من وقت وصول هذا القبول الى علم الموجب، في حين يرى جانب اخر من الفقه عدم انعقاد العقد لان القبول رخصة شخصية لا تنتقل الى الورثة.
خلافا على كل ما تقدم وتطبيقا للفقرة الأخيرة من المادة 62ق م يسقط التعبير عن الإرادة ايجابا كان او قبولا إذا كانت شخصية من توفى او فقد اهليته محل اعتبارا في التعاقد ويمكن معرفه ذلك من خلال التعبير عن الإرادة او من طبيعة التعامل (العقد).
ثانيا: العلاقة بين الإرادة والتعبير عنها
سبق القول بانه يشترط لقيام العقد زيادةً على وجود الإرادة ضرورة التعبير عنها حتى تكون صالحه للاقتران والارتباط بإرادة أخرى، وإذا كان الاصل ان يأتي التعبير عن الإرادة مطابقا لما اتجهت اليها الإرادة (الإرادة الحقيقية)، الا انه قد يحصل ان يأتي التعبير عن الإرادة مخالفاً لحقيقه ما قصدته واتجهت اليه اراده المتعاقد، فبأيهما يجب أن نعتد؟ كما لو اراد تاجر بيع سلعه ما بمبلغ2000د ج ووضع عليها خطأً مبلغ200دج وتقدم شخص لشراء السلعة بـ 200 دج فهل ينعقد العقد بـ 2000 دج اي بالإرادة الحقيقية (الباطنة) أو بــ 200د ج اي وفقا للإرادة الظاهرة، وعليه هل يستمد العقد وجوده وقوته من الإرادة الباطنة(النية) ام من الإرادة الظاهرة (التعبير او الصيغة).
ولفض هذه الإشكالية ظهرت نظريتان هما نظرية الإرادة الظاهرة ونظرية الإرادة الباطنة.
1- نظريه الإرادة الباطنة (الإرادة الحقيقية او النية): تأخذ هذه النظرية وتعتد فقط بالإرادة الباطنة او الحقيقية، فإذا اختلف التعبير عن الإرادة الباطنة او الحقيقية وجب استبعاد هذا التعبير ولا ينعقد العقد إلا وفقاً لما اتجهت اليه الارادة الحقيقية التي هي اساس وجود العقد وقوته الملزمة، اي أن العبرة فقط بما اراده المتعاقدان ولا قيمة للألفاظ - التعبير - إلا بالقدر الذي تعبر فيه عن الإرادة الحقيقية، وعليه تعتبر هذه النظرية التعبير قرينة بسيطة على ما اتجهت اليه الارادة يمكن اثبات عكسها.
ويترتب على الاخذ بهذه النظرية انه يجب على القاضي في تفسيره للعقد البحث دوما عن النية والإرادة الحقيقية للمتعاقدين، دون الوقوف عند المعني الحرفي لعبارات العقد والفاظه ولو كانت صريحه الدلالة، كما تسمح هذه النظرية ابطال العقد لعيوب الإرادة حتى ولو كان المتعاقد الاخر غير عالم بها، وتفترض دوما الاخذ بالعقد الحقيقي دون العقد الصوري.
ومن حجج أنصار هذه النظرية والتي اخذت بها القوانين اللاتينية ما يلي:
- أساس التزام المتعاقد هو وإرادته الحقيقية وبالتالي لا يجوز منطقيا إلزامه نتيجة تعبير خاطئ عن إرادته.
- العقد يمثل تقابل لمصالح اقتصادية مدروسة، وإلزام المتعاقد بغير إرادته الحقيقية يؤدي الى الإخلال بالمصالح الاقتصادية التي يسعى الى تحقيقها عبر العقد.
2- نظرية الإرادة الظاهرة (الصيغة): تعتد هذه النظرية وتأخذ فقط بالإرادة الظاهرة فإذا اختلف التعبير عن الإرادة عما اتجهت اليه الارادة الحقيقية وجب الأخذ بالإرادة الظاهرة فقط (التعبير)، فلا ينعقد العقد إلا وفقا للشكل الذي جاء به التعبير عن الإرادة الذي هو أساس القوة الملزمة للعقد، حيث تعتبر هذه النظرية أن التعبير عن الإرادة ليس فقط دليلا عن الإرادة الحقيقية بل هو الإرادة ذاتها أي أنه يمثل قرينة قاطعة على الإرادة الحقيقية وبالتالي لا يقبل ادعاء اي متعاقد بان تعبيره عن إرادته جاء مخالفا لإرادته الحقيقية.
ويترتب على الأخذ بهذه النظرية أنه يجب على القاضي عند تفسيره للعقد الوقوف دوما عند ألفاظ وعبارات العقد دون البحث في إرادة المتعاقدين، أي الوقوف عند المعنى الحرفي لألفاظ العقد، وفي العقد الصوري لا يسري فيما بين المتعاقدين وفي مواجهة الغير إلا العقد الصوري دون العقد الحقيقي، كما انه لا أثر للغلط كعيب من عيوب الارادة على العقد الا إذا علم به المتعاقد الآخر.
ومن حجج أنصار هذه النظرية التي أخذ بها القانون الألماني ما يلي:
- الارادة الباطنة مسألة كامنة في النفس ويستحيل الوصول اليها. (القانون يُعني فقط بالظواهر الاجتماعية دون الظواهر النفسية والإرادة الباطنة مسألة نفسية تتحول الى ظاهرة اجتماعية يعتد بها القانون بالتعبير عنها.
- الغير يتعاقد فقط بناء على الإرادة الظاهرة للمتعاقد الاول، لأنه لا يعلم بالإرادة الحقيقية وفي الأخذ بالإرادة الظاهرة زرعا للثقة المشروعة بين المتعاقدين وضماناً لاستقرار العقود.
موقف الفقه الإسلامي: نتطرف اليه لاحقا..................................................
................................................................................................................................................
3- موقف المشرع الجزائري: بالرجوع إلى القانون المدني نجد المشرع يأخذ بالإرادة الباطنة كقاعدة عامة ويتجلى ذلك بوضوح من خلال نص المادة 59 ق م أين يشترط المشرع لانعقاد العقد ان يتبادل الطرفان التعبير عن ارادتين متطابقتين، فلو كان يأخذ بالإرادة الظاهرة لاشترط ضرورة أن يتطابق التعبيرين عن الإرادتين. فالتوافق الذي به ينعقد العقد طبق للمادة 59 ق م هو توافق الارادتين لا توافق التعبير عنهما وما يدعم هذا التوجه ما يلي:
- يشترط المشرع لصحة العقد خلو الإرادة من العيوب، وهي عيوب تلحق فقط الإرادة الباطنة او الحقيقية (المواد من 81 الى 90 ق م).
- يبطل العقد إذا كان سببه غير مشروع او كان مخالفاً للنظام العام والآداب العامة، والسبب هو الباعث الدافع الى التعاقد وهو بهذا متعلق بالإرادة الحقيقية… الخ.
غير انه واستثناءً مما تقدم نجد المشرع قد استعار من نظرية الإرادة الظاهرة اهم تطبيقاتها لأجل ضمان استقرار العقود ومن ذلك:
- طبقا للمادة 61ق م لا ينتج التعبير عن الإرادة أثره وقت صدوره وانما من الوقت الذي يعلم فيه متعاقد الاخر به، فلا ينعقد العقد مثلا من وقت صدور القبول مطابقا للإيجاب وانما من وقت علم الموجب به، اي العلم بالتعبير عن القبول وفي هذا اخذٌ بالإرادة الظاهرة.
- لا أثر للغلط ولا للتدليس الصادر من الغير الا إذا كان متصلا بالمتعاقد الاخر بان كان يعلم به.
- في تفسير العقد طبقا للمادة 111ق م لا يجوز للقاضي الانحراف عن مدلول العبارات الواضحة في العقد بحثا عن الإرادة الحقيقية.
- في العقد الصوري الظاهر يجوز للدائنين وللخلف الخاص متى انو كانوا حسني النية ان يتمسكوا بالعقد الصوري دون العقد الحقيقي.
- طبقا للمادة 62 ق م يبقى التعبير عن الإرادة صالحا لترتيب أثره القانوني عند اتصاله بعلم من وجهه اليه حتى بعد زوال الإرادة الحقيقية بالموت او فقدان الأهلية.
-
الفرع الثاني
توافق الارادتين
سبق القول بان العقد لا يتم الا بتبادل الطرفين التعبير عن ارادتيهما المتطابقتين، فالتراضي بين المتعاقدين يتم بصدور ايجاب عن أحدهما وصدور قبول مطابق له من طرف المتعاقد الاخر، ولا يطرح اي اشكال إذا تم تلاقي الارادتين في مجلس واحد، وانما تطرح اشكاليه تحديد زمان ومكان انعقاد العقد في حال ما إذا كان المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد، اين تمر فترة زمنية بين صدور الايجاب او القبول والعلم به.
وتبعا لما تقدم ندرس اولاً الايجاب ثم القبول ثم كيفية اقتران القبول بالإيجاب في مجلس العقد وفي حال التعاقد بين غائبين، واخيرا نعرض للصور الخاصة لتوافق الارادتين.
أولا: الايجاب.
1- تعريفه: الايجاب تعبير بات ونهائي عن الإرادة يعرض من خلاله شخص يسمى الموجب على شخص آخر او آخرين التعاقد وفق شروط واسس معينة، من اجل الحصول على قبول لهذا العرض فينشئ العقد.
هذا ولا يشترط في الايجاب ان يكون موجه الى شخص معين بالذات حيث يصح ان يوجه الى اشخاص غير معينين كالإيجاب الموجه الى الجمهور عن طريق النشرات والاعلانات او عن طريق عرض البضائع بأسعارها في واجهات المحلات التجارية.
2- شروطه: يشترط لاعتبار التعبير عن الإرادة إيجابا ما يلي:
- يجب ان يكون التعبير عن الإرادة باتاً ونهائيا: اي يجب ان ينطوي على رغبة الموجب في الالتزام قانوناً متى قبل الطرف الثاني الشروط المعروضة عليه، ويظل التعبير عن الإرادة باتاً حتى ولو اقترن ببعض التحفظات خاصة في حاله الايجاب الموجه الى الجمهور الذي يشترط فيه الموجب محدودية التزامه في حدود كمية معينة او بحقه في تعديل السعر إذا ارتفعت الاسعار.
- يجب ان يتضمن التعبير عن الإرادة طبيعة العقد المراد ابرامه: مع من وجه اليه الايجاب اي بيان ما إذا كان الموجب يريد التعاقد بالبيع او الايجار او المقاولة …الخ.
- يجب ان يتضمن التعبير عن الإرادة العناصر الجوهرية في العقد: زيادةً على تحديد طبيعة العقد يشترط ان يتضمن التعبير عن الإرادة حتى يعتبر ايجابا العناصر والشروط الأساسية في العقد المراد ابرامه، فاذ ا كان العقد المراد ابرامه بيعا يجب لاعتبار التعبير عن الإرادة ايجاباً أن يتضمن الشروط الاساسية في عقد البيع وهي الشيء المبيع والثمن، وان كان العقد ايجارا يجب ان يتضمن التعبير عن الإرادة بالإيجاب العين المؤجرة، الأجرة وعقد الايجار.
ويترتب على تخلف شرط من الشروط السابقة عدم صلاحية التعبير عن الإرادة لاعتباره اجاباً، حيث يعتبر فقط مجرد دعوة للتعاقد، وبهذا يتميز الايجاب عن الدعوة للتعاقد في كون الدعوة للتعاقد مرحلة سابقة عن الايجاب وتمثل تمهيدا للتعاقد ودعوه للتفاوض، حيث لا يتم فيها التعبير عن الإرادة على وجه جازم ونهائي، كما لا يتضمن طبيعة العقد او شروطه وعناصره الجوهرية.
وتظهر أهمية التمييز بينهما اساسا في ان الاجاب إن اقترن به قبول انعقد العقد، وعليه لا يمكن للموجب العدول عن ايجابه، اما الدعوة للتعاقد فيمكن لمن صدرت عنه العدول عنها في اي وقت دون اية مسؤولية الا إذا كان العدول بتعسف وسوء نية، كما لا يمكن انعقاد العقد بناء عليها، فعرض البضاعة على واجهة المحل دون وضع الاسعار عليها يعتبر مجرد دعوة للتعاقد لتخلف عنصر الثمن أما إذا عُرضت عليها كان هذا العرض اجابا.
3- الإيجاب الملزم: إذا كان الاصل ان الموجب لا يلتزم بالبقاء على ايجابه، حيث له ان يعدل عنه في اي وقت شاء طالما لم يقترن بقبول ممن وجهه اليه، اي طالما كان هذا العدول قد تم في الوقت المناسب، فانه استثناءً من ذلك وطبقا لنص المادة 63 من القانون المدني التي تنص" إذا عُين اجل للقبول التزم الموجب بالبقاء على ايجابه الى انقضاء هذا الاجل وقد يستخلص الاجل من ظروف الحال او من طبيعة المعاملة".
يمكن أن يصدر الإيجاب ملزماً للموجب وهذا في حالة ما إذا عين الموجب ميعاداً لإعلان القبول حيث لا يملك الموجب العدول عن إيجابه خلال هذا الميعاد، وأساس هذا الالتزام هو الإرادة المنفردة للموجب، وبالتالي إذا صدر قبولا لهذا الايجاب خلال هذه المدة انعقد العقد ولو أعلن الموجب عن عدوله عن ايجابه.
ويمكن تحديد هذا الاجل صراحة كما يمكن أن يكون ضمنيا يستخلص من ظروف التعامل أو من طبيعة المعاملة، ومثال ذلك الأجل الصريح أن يعرض شخص على اخر ان يبيعه منزلاً بثمن معين إذا رغب في ذلك خلال شهر، ومثال الأجل الضمني الذي يستخلص من ظروف التعامل الايجاب في المناقصات فالتقدم بالعطاءات في شكل مظاريف يعد إيجابا ملزما طيلة المدة التي تستغرق في فض المظاريف، ونفس الحكم في حال البيع بشرط تجربة المبيع وفي حال التعاقد عن طريق الطريق المزاد.
4- أثر الايجاب: يترتب على صدور الإيجاب ملزماً كان او غير ملزم صلاحيته لان يقترن به قبول عند اتصاله بعلم وجه اليه طبقا للمادة 61 من القانون المدني، وعليه للموجب حق العدول عن ايجابه إن لم يكن ملزما قبل وصوله الى علم من وجهه اليه اي خلال مرحله الوجود المادي له، وعليه إذا اقترن به قبول انعقد العقد أما إذا لم يصادفه قبولاً سقط.
5- سقوط الإيجاب: نميز بين الايجاب الملزم والايجاب غير الملزم.
يسقط الإيجاب غير الملزم في الأحوال التالية:
- إذا رجع فيه الموجب قبل أن يقترن به قبول الموجب له.
- إذا رفضه من وجه إليه، ويعتبر كذلك رفضا للإيجاب القبول الذي يصدر معدلاً للإيجاب بالزيادة أو الإنقاص، حيث طبقا للمادة 66من القانون المدني يعتبر هذا القبول إيجاباً جديدا يتطلب أن يقابله قبولاً ممن صدر عنه الإيجاب لانعقاد العقد.
هذا ويلاحظ أن انفضاض مجلس العقد في حالة التعاقد بين حاضرين دون إعلان القبول يعتبر رفضا للإيجاب مما يؤدي الى سقوطه.
سقوط الإيجاب الملزم (المقترن بمدة): يسقط الإيجاب الملزم في الأحوال التالية:
- إذا رفضه من وجهه اليه.
- إذا انقضت المدة المحددة صراحة او ضمناً للقبول دون إعلان القبول ممن وجه إليه، فمجرد انقضاء المدة المحددة يؤدي الى سقوط الإيجاب دون ان يتوقف هذا السقوط على رجوع الموجب عن إيجابه، ولا يطرح أي إشكال إذا كانت مدة الايجاب محددة صراحة، وإنما في حالة ما إذا كانت ضمنية مستخلصة من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة أين يترك أمر تقدير مدى انقضاء هذه المدة للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع.
هذا ويلاحظ مما تقدم أن القبول يعتبر إيجابا جديدا يحتاج إلى قبول الموجب لانعقاد بحالتين:
- إذا جاء هذا القبول معدلا للإيجاب، كأن يعرض الموجب بيع سيارة بثمن 8000 دينار فيقبل من وجه إليه هذا العرض شراء السيارة نفسها ولكن بثمن 5000 دينار.
- إذا صدر بعد سقوط الإيجاب.
6- صورة خاصة للإيجاب - الايجاب في عقود المزاد-: طبقا للمادة 69 من القانون المدني لا يتم العقد في المزايدات الا برسو المزاد ويسقط المزاد بمزاد اعلى منه ولو كان باطلا.
يتم اللجوء الى التعاقد عن طريق المزاد سواء كان المزاد اجباريا كما في بيع أموال المدين المعسر وفي بيع الأملاك الوطنية الخاصة، أو كان اختياريا لأجل الحصول على أنسب الأسعار، حيث يفتتح المزاد على أساس سعر معين يسمى السعر الافتتاحي أين يجب أن تكون العطاءات المتقدم بها فوق هذا السعر الافتتاحي، ويسقط العطاء بعطاء اعلى منه ولو كان باطلا، ولا ينعقد العقد إلا بإرساء المزاد على أكبر عطاء.
ويلاحظ أن افتتاح المزاد على أساس سعر معين يعتبر مجرد دعوة للتعاقد ولا يعتبر إيجابا لأن ارادة صاحب المزاد لم تكن نهائية ولم تتجه الى الالتزام على أساس هذا السعر أو الرقم الافتتاحي.
اما إذا تقدم شخص ما الى المزاد وأدلى بعطائه فيه، كان عطاؤه هذا ايجابا لأنه تعبير بات يتضمن طبيعة العقد والعناصر الجوهرية فيه، ويلتزم المتزايد هنا بالبقاء على إيجابه الى حين التقدم بعطاء أكبر من شخص آخر. حيث يعتبر هذا الإيجاب ملزما لا يمكن الرجوع فيه لاقترانه بمدة وهي المدة اللازمة للتقدم بعطاء أكبر او لإرساء المزاد (وتستخلص هنا المدة من ظروف وطبيعة المعاملة أي المزاد ففيه تحديد ضمني لمدة الإيجاب الملزم طبقا للمادة 63 ق م).
اما القبول الذي به ينعقد العقد فهو إرساء المزاد من قبل صاحب المزاد على العطاء الأكبر.
يسقط الايجاب في عقود المزاد إذا تقدم متزايد اخر بعطاء أكبر حتى ولو كان هذا العطاء الاخير باطلا، وأساس ذلك أن قبول التقدم بالعطاء الأكبر يتضمن تنازلا ورفضا للعطاء الاصغر مما يؤدي إلى سقوط العطاء الاول اي الايجاب الأول، ويكون العطاء باطلا إذا صدر عن شخص عديم الأهلية او عن شخص لديه مانع قانوني يمنعه من التعاقد عن طريق المزاد المعروض (الأهلية الخاصة)، كما هو الحال بالنسبة للمحامين والقضاة فيما يخص شراء الحقوق المتنازع عليها انظر المادة 402 والمادة 403 من القانون المدني.
هذا ويلاحظ أن أكبر عطاء يتقدم به أحد المتزايدين يعتبر إيجابا ينتظر قبولا لانعقاد العقد، ولا يتم القبول الا بإقفال المزاد وتقرير ارسائه على من تقدم بهذا العطاء الأكبر، حيث يجوز لصاحب المزاد رفض العطاء الأخير مما يؤدي إلى سقوطه وبالتالي عدم انعقاد العقد، وإذا اتضح من ظروف المزايدة أن صاحب المزاد قد تعسف في استعمال حقه في رفض وعدم إرساء المزاد على من تقدم بأكبر عطاء بلا عذر مقبول قامت مسؤوليته عن الضرر اللاحق بالمتزايد الأخير وعلى أساس نظرية التعسف في استعمال الحق.
خلاصة: تكمن خصوصية الإيجاب في المزايدات فيما يلي:
- ان الايجاب والمتمثل في التقدم بالعطاء يصدر ملزما وتستخلص مدة هذا الإيجاب من طبيعة المعاملة(المزاد).
- يسقط الإيجاب(العطاء) بإيجاب اخر أحسن منه ولو كان باطلا، وأساس ذلك انقضاء المدة التي يلتزم فيها الموجب بالبقاء على ايجابه وعطائه دون إعلان القبول، كما أن السماح بتقديم عطاء آخر يفترض رفض صاحب المزاد للإيجاب الاول وهكذا، ومن هذا أيضا نستخلص ان افتتاح المزاد يمثل مجرد دعوة للتفاوض والتعاقد حتى مع تحديد السعر الافتتاحي للمزاد.
ثانيا: القبول
1- تعريف القبول: القبول هو التعبير البات والنهائي عن إرادة الطرف الذي وجه اليه الايجاب والمتضمن الموافقة على ما عُرض عليه من قبل الموجب، حيث بصدور القبول مطابقا للإيجاب وعلم الموجب به ينعقد العقد.
والأصل أن من وجه اليه الايجاب حر في قبول الإيجاب او رفضه دون ان تلحقه أية مسؤولية، غير أنه واستثناءً من هذا قد تٌثار مسؤولية من وجه اليه الايجاب عن الضرر اللاحق بالموجب جراء عدم قيام العقد في حالة رفضه لهذا الإيجاب متى كان رفضه هذا لا يستند الى مبرر مشروع، خاصة في حالة ما إذا كان الإيجاب قد صدر بناء على دعوة للتعاقد قدمها من وجه اليه الايجاب، كما هو الحال بالنسبة للدعوة التي يوجهها التجار إلى جمهور الناس عبر النشرات والاعلانات وعرض سلعهم على واجهات المحلات(دون بيان اسعارها)، فإذا تقدم شخص ما لشراء سلعة ما(إيجاب) ليس للتاجر مطلق الحرية في القبول من عدمه وفي حالة الرفض يمكن إثارة مسؤوليته على أساس نظرية التعسف في استعمال الحق.
2- ويشترط لاعتبار التعبير عن الإرادة قبولا ما يلي:
أ- يجب أن يكون التعبير عن الإرادة بالقبول باتا ونهائيا، اي يجب ان تتجه ارادة القابل الى الالتزام وفقا للأسس والشروط التي عرضها الموجب.
ب- يجب أن يأتي القبول مطابقا للإيجاب تمام المطابقة، أي يجب أن يأتي التعبير عن القبول مطابقا للإيجاب في جميع المسائل التي عرضها الموجب دون زيادة او إنقاص، والا اعتبر رفضاً له، وهو بذلك يعد إيجاباً جديداً يحتاج الى قبول الموجب الأول لانعقاد العقد طبقا للمادة 66 من القانون المدني.
ج- يجب كذلك أن يصدر القبول قبل سقوط الإيجاب، فإذا صدر بعد سقوط الإيجاب لأي سبب من الأسباب سالفة الذكر اعتبر مجرد ايجاباً جديداَ.
هذا ويلاحظ أن التعبير عن القبول مثلما يكون صريحا قد يكون ضمنيا، كما يمكن ان يستخلص من مجرد السكوت خلافا للإيجاب، وهذا إذا لابسته ظروف ترجح افتراض القبول من مجرد السكوت انظر المادة 68 من القانون المدني.
3-صور خاصه للقبول- القبول في عقود الإذعان-
بحسب الأصل لا يصدر القبول مثله مثل الإيجاب إلا بعد التفاوض ومناقشة الطرفين لبنود العقد، اين يسعى كل طرف الى تأمين مصالحه المالية من وراء التعاقد، غير أنه قد يقع ألا يُترك لمن وجه اليه الايجاب حرية مناقشة شروط وبنود العقد وهذا هو الحال فيما يسمى بعقود الإذعان، حيث وطبقا للمادة 70 من القانون المدني "يتم القبول في عقود الإذعان بمجرد التسليم لشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشته فيها".
وعقد الإذعان إذن هو ذلك العقد الذي يضع كل او اغلب شروطه الطرف القوي فيه ولا يستطيع الطرف المذعن الضعيف ان يناقش او يساوم او يعدل من شروط العقد، فهو حر فقط في ان يقبل بها كما هي أو الا يقبل بها، وما قبوله عن رضا وقناعة وإنما مجرد تسليم بعقد أعدت وفصلت شروطه مسبقا، ولهذا هناك من الفقهاء من يجادل في صحة إطلاق وصف العقد على مثل هذه الاتفاقات.
شروط عقد الإذعان: يشترط لاعتبار عقد ما عقد إذعان ما يلي:
- ان يكون محل العقد سلعه او خدمه ضرورية لجمهور الناس بحيث لا يمكن الاستغناء عنها كخدمه المياه الكهرباء الغاز النقل العمل...الخ.
- ان يحتكر شخص ما (الموجب) هذه السلعة او الخدمة احتكاراً قانونياً او فعلياً بحيث لا ينافسه غيره فيها مطلقا او فقط في نطاق محدود جدا.
- ان يوجه المحتكر الخدمة او السلعة الى جمهور الناس بشروط معدة سلفا في شكل نموذج موحد ولا يقبل مناقشته في اي منها.
حماية الطرف المذعن في عقد الإذعان: سعيا وراء حماية الطرف الضعيف في عقد الإذعان ومحاولة المحافظة على التوازن المالي للعقد، يتدخل المشرع من جهة لتنظيم أهم عقود الإذعان بموجب قواعد آمرة منعاً لتعسف محتكر السلعة او الخدمة، مثل تنظيم عقود العمل بتحديد الأجر القاعدي وعدد ساعات العمل، وعقد النقل عن طريق ضبط تسعيرة النقل، وعقد التأمين...الخ، ومن جهة ثانية عن طريق الأحكام الخاصة بحماية المستهلك. وهذا ما يسمى بالحماية القبلية
اضافة الى ما تقدم اعطى المشرع للقاضي سلطة تقديرية لحماية الطرف الضعيف في عقد الإذعان (الحماية البعدية) وذلك في حالتين:
أ- في مجال الشروط التعسفية: طبقا للمادة 110 من القانون المدني أجاز المشرع للقاضي بناءً على طلب الطرف المذعن التدخل لتعديل الشروط التعسفية في العقد وردها الى الحد المعقول، وله حتى ان يعفي الطرف المذّعَن منها كليةً، مع ملاحظة أنه يقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك (فهي قاعدة أمره) وهذا خروجا عن الوظيفة التقليدية للقاضي والمتمثلة في تفسير العقد لا تعديله.
ب- في مجال تفسير العقد: إذا كان الاصل في تفسير العبارات الغامضة في العقد أن يؤول الشك لمصلحة المدين، فانه استثناءً من هذا فان الشك في العبارات الغامضة الواردة في عقود الإذعان يجب أن يؤوله القاضي دائما لمصلحة الطرف المذّعَن الضعيف فيه دائناً كان أو مديناً على أساس أن الطرف القوي هو من اعد شروط العقد وحده دون أن يشاركه الطرف المذعن في ذلك، وبذلك فما جاء بها من لبس أو غموض فبخطئه وعليه أن يتحمل تبعة ذلك لوحده طبقا للمادة 112 ق م.
ثالثا: اقتران القبول بالإيجاب
لا ينعقد العقد إلا إذا اقترن القبول بإيجاب قائم، اقترانا تاما بحيث يجب أن يأتي مطابقا له في جميع المسائل التي تضمنها حتى ولو كانت ثانوية، فكل تعديل للإيجاب ولو كان طفيفا اعتبر رفضا له مما يؤدي الى سقوطه واعتبار هذا القبول ايجابا جديدا يحتاج الى قبول مطابق له ممن صدر عنه الإيجاب الأول لانعقاد العقد.
وبناء على ما تقدم يجب أن يأتي القبول مطابقاً للإيجاب فيما يلي:
- حول طبيعة العقد، فإذا جاء الإيجاب بالبيع وجب أن يأتي القبول بالشراء، وان جاء الإيجاب بالإيجار وجب أن يصدر القبول بالاستئجار لا بالشراء أو العارية.
- حول المسائل الجوهرية في العقد، فإذا جاء الإيجاب ببيع منزل بثمن معين وجب لانعقاد العقد أن يأتي القبول بشراء نفس المنزل وبنفس الثمن المعروض عليه…الخ.
- حول المسائل الثانوية، كمسألة مكان وزمان تنفيذ العقد أو طريقة ذلك، فإذا تضمن الايجاب مثل هذه المسائل فلا ينعقد الا إذا جاء القبول بها كما هي، فإذا عرض الموجب بيع سيارة يملكها واشترط تسليمها في مكان معين فيجب لانعقاد العقد أن يأتي القبول بشراء نفس السيارة وبنفس الثمن المعروض، مع قبول كذلك تسلمها في نفس المكان المعين من قبل الموجب، وعليه لا ينعقد العقد إذا لم يشتمل هذا القبول المسائل الثانوية في العقد التي طرحها الموجب.
اما إذا لم يتضمن الإيجاب المسائل الثانوية في العقد فيكفي فقط لانعقاد العقد مطابقة القبول للإيجاب فيما يخص طبيعة العقد والمسائل الجوهرية، وإذا صار خلاف مستقبلاً حول هذه المسائل فإن هذا الخلاف لا يحول دون انعقاد العقد لأن القبول جاء مطابقا للإيجاب، ويتم فض الخلاف بينهما بتكملة ما نقص من إرادة المتعاقدين وفقا لطبيعة المعاملة وقواعد نظرية الالتزام.
هذا ويلاحظ إذا طابق القبول الإيجاب في جميع المسائل الجوهرية وترك الموجب والقابل بعض المسائل الثانوية للاتفاق عليها لاحقا، وبعد التفاوض بشأنها لم يحصل توافق بينهما حولها فإن تأثير عدم هذا التوافق على انعقاد العقد يتوقف على ما اشترطه الطرفان وقت الاتفاق على المسائل الجوهرية، فإذا اشترطا أن العقد لا ينعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل الثانوية اعتبر العقد غير منعقد، وإن لم يوجد مثل هذا الشرط انعقد العقد على الرغم من عدم الاتفاق اللاحق حول المسائل الثانوية، ويتم تحديد هذه المسائل وفقا لطبيعة المعاملة أو العقد ووفقا للقواعد العامة لنظرية الالتزام انظر المادة 65 من القانون المدني.
واقتران القبول بالإيجاب على النحو السالف الذكر قد يكون بين شخصين يجمعهما مجلس واحد وهو ما يصطلح عليه بالتعاقد بين حاضرين، وقد يكون بين شخصين لا يجمعهما مجلس واحد وهذا ما يصطلح عليه التعاقد بين غائبين.
1- التعاقد بين حاضرين او التعاقد في مجلس العقد.
يعتبر التعاقد قد تم بين حاضرين إذا صدر الايجاب الى شخص حاضر بمكان تواجد الموجب بحيث يكون الوقت الذي يصدر فيه التعبير عن الإرادة هو نفسه الوقت الذي يحصل فيه العلم بهذا التعبير، وهذا ما يعبر عنه بالتعاقد بين حاضرين حقيقةً، وقد يأخد التعاقد حكم التعاقد بين حاضرين على الرغم من ان المتعاقدين لا يجمعهما مكان واحد اذا كان وقت صدور الايجاب او القبول هو نفسه وقت العلم به، كما هو الحال في التعاقد عن طريق الهاتف او بأي طريق مماثل ويسمى التعاقد في هذه الحالة التعاقد بين حاضرين حكما لا حقيقةً.
وطبقا للمادة 64 من القانون المدني يجب أن يصدر القبول فورا اي فور صدور الإيجاب ما دام الموجب لم يحدد أجلا للقبول، وإلا كان في وسع الموجب العدول عن إيجابه أو التعديل فيه، غير انه واستثناء من هذا أجاز المشرع أن يتراخى صدور القبول الى وقت لاحق بشرط ان يصدر هذا القبول قبل انفضاض مجلس العقد أي ما دام المتعاقدين منشغلين بالتعاقد وقبل عدول الموجب عن إيجابه، وإلا سقط الايجاب وبالتالي يكون القبول الذي يصدر بعد ذلك مجرد ايجاباً جديداً يحتاج الى قبول لانعقاد العقد.
وإذا اقترن القبول بالإيجاب على النحو السابق انعقد العقد في الزمان والمكان الذي يتبادل فيه المتعاقدان التعبير عن ارادتيهما.
هذا ويلاحظ في شأن التعاقد عن طريق الهاتف أو بأي طريق مماثل وطبقا للمادة 64 من القانون المدني يعتبر تعاقد بين حاضرين من حيث زمان انعقاد العقد، حيث يشترط صدور القبول فورا صدور الايجاب او قبل انفضاض مجلس العقد وقبل عدول الموجب عن ايجابيه، وعليه يعتبر العقد منعقدا من وقت علم الموجب بالقبول وهو نفسه وقت اعلان القبول، ويأخذ حكم التعاقد بين غائبين من حيث المكان إذ يعتبر العقد قد انعقد في المكان الذي يعلم فيه الموجب بالقبول وهو مكان تواجد الموجب لأن الموجب والقابل يوجدان في مكانين مختلفين في حين انهما يوجدان ويتبادلان التعبير عن الإرادة في زمان واحد.
2-التعاقد بين غائبين
يعتبر العقد قد تم بين غائبين إذا كان المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد حقيقةً أو حكماً، بحيث تمر فترة زمنية بين صدور التعبير عن الإرادة والعلم بها، أي تمر فترة من الزمن بين صدور الإيجاب والعلم به وبين صدور القبول والعلم به، فالمتعاقدان لا يجمعهما لا مكان واحد ولا زمان واحد فهما في مكانين وزمانين مختلفين، وهنا تطرح إشكالية تحديد زمان ومكان انعقاد العقد فهل يعتبر العقد منعقدا من وقت صدور القبول وفي مكان تواجد القابل أم من وقت علم الموجب بالقبول وفي مكان تواجد الموجب أم غير ذلك؟
لأجل تحديد زمان ومكان انعقاد العقد في حالة التعاقد بين غائبين ظهرت أربع اتجاهات مختلفة.
مذهب اعلان القبول: يرى أنصار هذا المذهب أن العقد ينعقد في الزمان والمكان الذي يعلن فيه القابل عن قبوله للإيجاب، لأنه في هذا الوقت يحصل تطابق الإرادتين.
يؤخذ على هذا المذهب أن الموجب قد لا يعلم بصدور القبول كما قد يعلن القابل عن قبوله ثم يعدل عنه قبل أن يعلم بذلك الموجب فكيف يمكن القول بأن العقل قد انعقد؟
مذهب تصدير القبول: يرى أنصار هذا المذهب أن العقد ينعقد في الزمان والمكان الذي يتم فيه تصدير القبول وتوجيهه الى الموجب وليس في زمان ومكان اعلان القبول لأنه بتصدير القبول يستحيل على القابل العدول عنه.
يؤخذ على هذا المذهب أن تصدير القبول لا يضمن العلم به كما يمكن للقابل إسترداد رسالة القبول رغم إرسالها وهذا ما لا يمنعه نظام البريد مثلا.
مذهب استلام القبول: حسب أنصار هذا المذهب ينعقد العقد في الزمان والمكان الذي يستلم فيه الموجب القبول ولو لم يعلم به في نفس زمان ومكان الاستلام حيث يصبح القبول نهائيا لا يمكن العدول عنه عمليا إذا تسلمه الموجب.
يؤخذ على هذا المذهب أن وصول القبول أو وصول الرسالة به لا يضمن دوما علم الموجب به وأساس التراضي هو تبادل العلم بالإرادتين.
مذهب العلم بالقبول: حسب هذا المذهب يعتبر العقد منعقدا في الزمان والمكان الذين يعلم فيهما الموجب بالقبول لأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا من الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه.
موقف المشرع الجزائري: طبقا للمادة 67 من القانون المدني يعتبر التعاقد بين غائبين قد تم في الزمان والمكان الذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد نص في القانون أو الاتفاق يقضي بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما القبول.
وبهذا نجد أن المشرع الجزائري قد أخذ كقاعدة عامة بمذهب العلم بالقبول مع تدعيمها بمذهب استلام القبول، من خلال افتراضه حدوث العلم بالقبول لحظة استلام القبول افتراضا بسيطاً قابلاً لإثبات العكس.
هذا ويلاحظ أن موقف المشرع هنا جاء تماشيا مع نص المادة 61 من القانون المدني الذي يقضي بأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا من الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، وبالتالي لم يخالف المشرع بموجب المادة 67 القاعدة العامة الواردة بالمادة 61 وبالتالي نثير مدى جدوى هذا النص خاصة أن تطبيق المادة 61 لا أهمية له إلا في حال التعاقد بين غائبين.
اضافة الى ذلك نلحظ سوء صياغة الفقرة الأخيرة للمادة 67 من القانون المدني والذي جاءت كما يلي"... ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما القبول"، حيث قد يفهم منها اعتبار استلام القبول قرينة قاطعة على العلم به وهذا غير صحيح لأن هذا قد يؤدي الى اهدار محتوى الفقرة الاولى من نفس المادة 67 كما يتعارض مع المادة 61 حيث يعتبر الاستلام مجرد قرينة قانونية بسيطة على العلم تقبل إثبات العكس، ويمكن إزالة هذا اللبس بإضافة عبارة " …فيها القبول ما لم يثبت العكس"
ويلاحظ اخيرا انه يمكن للمتعاقدين الاتفاق على اعتبار العقد منعقدا في زمان ومكان معينين دون زمان ومكان العلم بالقبول، كما يمكن أن يتدخل المشرع بنص خاص لتحديد زمان ومكان انعقاد عقد ما، وبالتالي لا يؤخذ بالاتفاق ولا بزمان ومكان علم الموجب بالقبول طبقا للمادة 67 الفقرة 02 ق م.
3-أهمية تحديد زمان ومكان انعقاد العقد.
تكمن أهمية تحديد زمان انعقاد العقد فيما يلي:
- من حيث القانون الواجب التطبيق: فالقانون الذي يسري على العقد هو القانون النافذ وقت إبرام العقد، فإذا صدر قانون جديد يغير من القواعد التي تحكم عقد ما فإن هذا التنظيم الجديد لا يسري على العقود المبرمة قبل نفاذه، ففي عقد الايجار مثلا يمكن للمستأجر التمسك بحق البقاء في الأمكنة (العين المؤجرة)على الرغم من إلغاء هذا الحق بموجب المرسوم التشريعي 93/ 03 المتعلق بالنشاط العقاري اذا اثبت ان العقد قد أبرم قبل بدء سريان هذا المرسوم، أما العقود التي أبرمت بعد تاريخ بدء سريان هذا المرسوم فلا يملك فيها المستأجرين التمسك بحق البقاء في الأمكنة.
-ينعقد العقد عند اتصال القبول بعلم الموجب، وبالتالي للقابل حرية او حق العدول عن قبوله الى حدود تاريخ انعقاد العقد، وكل عدول يأتي بعد ذلك يكون بلا قيمة، وفي التعاقد بين حاضرين يمكن للموجب العدول عن إيجابه قبل إعلان القبول وانعقاد العقد ما لم يكن الإيجاب ملزماً.
-من حيث سريان بعض المواعيد: إذا فرض المشرع سريان بعض المواعيد من تاريخ انعقاد العقد كما في دعوى الاستغلال مثلا حيث طبقا للمادة 90 الفقرة الثانية من القانون المدني يجب أن ترفع دعوى الاستغلال خلال سنة من تاريخ العقد، نجد أن أهمية تحديد زمان انعقاد العقد تكمن في تحديد الوقت الذي يبدأ فيه احتساب مدة سقوط دعوى الإبطال للاستغلال.
-من شروط رفع الدعوى البوليصية: يشترط لقبول هذه الدعوى ان يكون حق الدائن رافع الدعوى سابقا في تاريخه على تاريخ انعقاد العقد المراد الطعن فيه.
- من حيث شهر الإفلاس: لا تسري في حق دائني التاجر المفلس العقود التي يبرمها المدين المفلس بعد اشهار افلاسه.
- هلاك محل العقد: إذا وقع هذا الهلاك قبل انعقاد العقد فإنه يحول دون انعقاده، أما إذا وقع بعد ذلك فالعقد ينعقد صحيحا ويترتب على الهلاك فسخ العقد لاستحالة تنفيذه.
-يبدأ العقد في ترتيب آثاره بدأً من تاريخ انعقاد العقد، ففي العقود الناقلة للملكية كعقد البيع مثلا، تنتقل الملكية كأصل عام ابتداءً من تاريخ انعقاد العقد فيكون الشيء المبيع ملكاً للمشتري من هذا التاريخ، كما يكون ملكا له كل ما ينتج عن هذا المبيع من ثمار ونماء انطلاقا من نفس التاريخ (تاريخ انعقاد العقد).
لنفرض مثلا ان شخصا وجه ايجابا ببيع منقول معين بالذات الى شخص معين، ثم وجه ايجابا آخر ببيع نفس المنقول الى شخص اخر، وأعلن الشخص الأول عن قبوله في الأول من جانفي ووصل قبوله الى علم الموجب في الثلاثين من نفس الشهر، وأعلن الثاني عن قبوله في العاشر جانفي ووصل قبوله إلى علم الموجب في الخامس عشر من نفس الشهر، فلو أخذنا بنظرية إعلان القبول فالعقد يعتبر منعقداً بناءً على الاعلان الأسبق بالقبول أي ابتداءً من الفاتح جانفي وعليه تنتقل الملكية للشخص الأول، أما لو أخذنا بنظرية العلم بالقبول فالعقد يعتبر منعقداً من تاريخ الخامس عشر جانفي، أي بناءً على القبول الذي سبق العلم به وبالتالي تنتقل الملكية الى الشخص الثاني دون الأول ومن هذا التاريخ الأخير وبهذا أخذ المشرع الجزائري.
تكمن أهمية تحديد مكان انعقاد العقد فيما يلي:
-تحديد المحكمة المختصة محليا بالنظر في النزاع القائم بين المتعاقدين، إذا علق المشرع الاختصاص المحلي للنظر في النزاع القائم بين المتعاقدين على محكمة مكان إبرام العقد فإنه لا يمكن تحديد هذه المحكمة المختصة محليا إلا بعد ضبط مكان إبرام العقد.
-في مجال القانون الدولي الخاص، في شأن العقود ذات العنصر الأجنبي (أطراف العقد، موضوع العقد، مكان إبرام العقد) تطرح إشكالية تحديد القانون الواجب التطبيق عليه خاصة في حال قيام نزاع بين المتعاقدين، وطبقا للمادة 18 من القانون المدني يسري على الالتزامات التعاقدية قانون المكان الذي يبرم فيه العقد ما لم يتفق المتعاقدان على قانون آخر، وعليه فإن تحديد مكان انعقاد العقد يؤدي الى تحديد القانون الواجب التطبيق عليه، فلو أعلن جزائري عن قبوله بإيجاب قدم له من قبل شخص إيطالي وهو موجود بالجزائر ثم قام بتصدير القبول وهو متواجد بتونس وتلقى واستلم الايطالي القبول وهو موجود بإيطاليا ولم يعلم به إلا وهو في المانيا، فالعقد يعتبر منعقداً بألمانيا طبقا للمادة 67 من القانون المدني وطبقا لنظرية العلم بالقبول وبالتالي القانون الذي يحكم العقد هو القانون الألماني دون القانون الايطالي والتونسي والجزائري.
رابعا: صور خاصه لتوافق الارادتين
من الصور الخاصة لتوافق الإرادتين التعاقد بطريق العربون والوعد بالتعاقد
1- التعاقد بطريق العربون المادة 72 مكرر ق م
العربون مبلغ من المال يدفعه أحد المتعاقدين للمتعاقد الآخر وقت التعاقد للدلالة على أحد أمرين:
الأمر الأول: يدفع العربون للدلالة على توكيد العقد واعتباره باتاً ونهائياً ولا رجعة فيه فيعتبر دفعه هنا تنفيذا جزئيا للعقد، وبالتالي لا يملك أي من المتعاقدين العدول عنه بإرادته المنفردة وبهذه الدلالة أخذت الشريعة الإسلامية والقانون المدني العراقي.
الامر الثاني: قد يدفع العربون للدلالة على حفظ الحق لكل من المتعاقدين في العدول عن العقد بإرادته المنفردة مقابل خسارة قيمة مبلغ العربون، وبهذه الدلالة أخذ القانون المدني المصري والجزائري كقاعدة عامة.
فإذا كانت دلالة العربون دلالة توكيد انعقد العقد باتا ونهائيا وما دفع العربون الا تنفيذاً جزئياً له، اما اذا كانت دلالة العربون دلالة حق مقابل العدول انعقد العقد غير اللازم، حيث يمكن لكل متعاقد العدول عن العقد بإرادته المنفردة في خلال المدة المتفق عليها وقبل تاريخ البدء في تنفيذه، حيث بعد انقضاء هذا الاجل او بالبدء في التنفيذ يصبح العقد لازماً لا رجوع عنه، فإذا عدل عن العقد دافع العربون خسره مقابل استعماله لحقه في العدول وإذا عدل عن العقد متلقي العربون التزم مقابل هذا العدول بدفع ضعف العربون الذي تلقاه أي رد قيمة العربون الذي تلقاه ودفع قيمة مماثلة له كمقابل لممارسة الحق في العدول.
والعربون في العقد الواحد لا يمكن أن يحمل كلتا الدلالتين فإما أن تكون دلالته دلالة التوكيد او دلالة حفظ الحق في العدول، لكن ما هو المرجع في تحديد دلالة العربون في عقد من العقود؟
الضابط في تحديد دلالة العربون هو اتفاق الطرفين الصريح او الضمني طبقا للمادة 106 من القانون المدني التي تعتبر العقد شريعة المتعاقدين فإذا اتفق الطرفان على اعتبار العربون بدلاله توكيد وجب الاخذ بهذه الدلالة، وإذا اتفق الطرفان على اعتبار العربون بدلالة حفظ الحق في العدول عن العقد وجب الأخذ ايضا بهذه الدلالة.
وتبعا لما تقدم وجب على القاضي في تحديده لدلالة العربون الرجوع اولا لإرادة الطرفين الصريحة او الضمنية، ومن العناصر التي يستعين بها القاضي في ذلك قيمة العربون مثلا فكلما كانت كبيرة كلما اقتربنا من التنفيذ الكامل للعقد وهو ما يرجح اعتبارها بدلاله توكيد، وكلما كانت صغيرة كلما اقتربت من عدم التنفيذ او من المبلغ التافه والتافه كالمعدوم وبالتالي يرجح اعتبارها بدلالة حفظ الحق في العدول عن العقد.
وإذا تعذر على القاضي تحديد دلالة العربون وجب عليه الرجوع إلى نص المادة 72 مكرر من القانون المدني التي تنص على أنه" يمنح دفع العربون وقت ابرام العقد لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه خلال المدة المتفق عليها، الا إذا قضى الاتفاق بخلاف ذلك، فاذا عدل من دفع العربون فقده وإذا عدل من قبضه رده ومثله ولو لم يترتب على العدول أي ضرر.
يستخلص من هذا أن المشرع أعطى للعربون دلالة حق مقابل العدول بموجب قاعدة مكملة لإرادة المتعاقدين إن كانت ناقصة، أي أن المشرع يأخذ بالدلالة التي يعطيها المتعاقدين للعربون فإن عجز القاضي عن تحديد دلالة العربون بالنظر الى اتفاق الطرفين وظروف التعاقد وجب عليه الرجوع إلى المادة 72 سالفة الذكر التي تعطي للعربون عندها دلالة حق مقابل العدول.
حكم العربون: إذا كانت دلالة العربون دلالة توكيد للعقد لا يطرح أي إشكال حيث يعتبر دفعه تنفيذاً جزئياً للعقد فيتم الإنقاص من قيمة التزامات دافع العربون حسب قيمة العربون فإذا كان البيع بمبلغ 80 مليون سنتيم ودفع المشتري عربون بقيمة 20 مليون سنتيم يبقى المشتري ملزماً فقط بدفع مبلغ 60 مليون سنتيم.
اما اذا كانت دلالة العربون دلالة حق مقابل العدول فيجوز لاي من العاقدين العدول عن العقد خلال المدة المتفق عليها صراحة أو ضمنا، وان لم يحدد العاقدين ميعادا لممارسة حق العدول فإن خيار حق العدول يبقى قائما الى حين البدء بتنفيذ العقد، فإذا تم تنفيذ العقد من الطرفين صار العقد لازم لكليهما وسقط معه حقهما في ممارسة حق العدول، حيث يعتبر البدء في التنفيذ دليلا وتعبيرا صريحا على التنازل عن حق العدول(في صورة اتخاذ موقف لا يدع شكا في دلالته على مقصود صاحبه المادة 60 من القانون المدني)، اما اذا تم تنفيذ العقد من أحد العاقدين فقط سقط حق خيار هذا المتعاقد في العدول دون المتعاقد الآخر الذي يبقى له حق تنفيذ العقد او العدول عنه مقابل خسارة مبلغ العربون، إذا كان هو الذي دفعه أو رد ضعفه إذا كان هو من تلقاه.
هذا ويلاحظ أنه اذا كان دلالة عربون دلالة عدول فإن خسارة مبلغ العربون تعتبر مقابلاً لممارسة حق العدول وليس تعويضا عن الضرر الذي لحق المتعاقد الآخر، حيث يخسر الذي يعدل عن العقد قيمة العربون ولو لم يلحق المتعاقد الاخر اي ضرر، بل والاكثر من ذلك يمكن للمتعاقد الاخر اضافة الى احتفاظه بمبلغ العربون المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصابه جراء العدول عن العقد وفقا لقواعد المسؤولية العقدية وهذا خلافا للشرط الجزائي الذي لا يستحق اذ ا لم يترتب عن عدم تنفيذ العقد أي ضرر للمتعاقد الآخر طبقا للمادة 184 ق م ،كما يمكن للقاضي التدخل لتعديل الشرط الجزائي دون أن يكون له ذلك بالنسبة للعربون.
طبيعة التعاقد بالعربون: يذهب بعض شراح القانون المدني إلى أن التعاقد بالعربون كالبيع بالعربون مثلا، يعتبر عقدا معلقا على شرط فاسخ حيث ينعقد العقد ويرتب جميع اثاره غير أنه ينفسخ وبأثر رجعي بعد استعمال حق العدول، في حين يرى البعض الآخر بانه معلق على شرط واقف حيث يتوقف نفاذ العقد على عدم استعمال حق العدول الى ان يسقط هذا الحق وعندها يسري العقد بأثر رجعي.
يؤخذ على هذا التكييف انه لا يفسر خسارة العربون ممن مارس حق العدول، فتحقق الشرط الفاسخ يؤدي إلى زوال العقد بأثر رجعي أي إرجاع المتعاقدين الى حالة ما قبل التعاقد وهذا ما لا يتحقق بالنسبة للعربون، حيث يأخذ المتعاقد الثاني مبلغ العربون حتى بعد الفسخ على الرغم من أنه لم يكن مالكا له قبل التعاقد.
لأجل ما تقدم يكيف التعاقد بالعربون (البيع بالعربون) على أنه عقد مركب من عقدين الأول هو العقد الأصلي كالبيع في البيع بالعربون والثاني هو عقد غير مسمى تتجه فيه ارادة المتعاقدين الى اعطاء الحق في العدول مقابل خسارة مبلغ العربون، وهذا هو الرأي الراجح، هذا ويلاحظ أن إشكالية تحديد طبيعة العربون لا تطرح أي إشكال في حال ما إذا كانت دلالة العربون دلالة توكيد حيث يعتبر عندها العقد منجزا وبسيطا.
1- الوعد بالتعاقد المادة 71-72 ق م
تنص المادة 71 من القانون المدني" الاتفاق الذي يعد له كلا المتعاقدين او أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا يكون له أثر إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد ابرامه والمدة التي يجب ابرامه فيها، وإذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين فهذا شكل يطبق ايضا على الاتفاق المتضمن الوعد بالتعاقد"
تعريفه: الوعد بالتعاقد عقد بمقتضاه يلتزم شخص يسمى الواعد بإبرام عقد معين في المستقبل إذا أبدى شخص اخر يسمى الموعود له رغبته في ذلك خلال مده معينه.
من هذا يتبين ان الوعد بالتعاقد عقد يتم بإيجاب الوا عد وقبول الموعود له، وبهذا القبول (قبول الوعد فقط) يتميز الوعد بالتعاقد عن الايجاب الملزم، ومحل هذا العقد هو ابرام عقد اخر في المستقبل (العقد الموعود به)، إذا ما ابدى شخص الموعود له خلال مدة الوعد رغبته في ذلك، وعليه نلاحظ ان الموعود له يعبر اولا عن قبوله للوعد فينعقد عقد الوعد ثم له ان يعلن ثانيا عن قبوله ابرام العقد الموعود به خلال مده الوعد فينعقد هذا العقد الموعود به وذلك كما يلي:
الوعد (إيجاب بالوعد من الواعد) ثم قبول الوعد من الموعود له ثم قبول التعاقد
-تسري عليه أحكام الإيجاب بالنسبة للواعد يترتب عليه انعقاد عقد الوعد قبول نهائي يترتب عليه
تسري عليه احكام القبول بالنسبة للقابل انعقاد العقد الموعود به
أركان عقد الوعد تتمثل في التراضي، ويشمل الإيجاب بالوعد وقبول الوعد (القبول الاول من الموعود له)، والمحل ويتمثل في العقد الموعود به والسبب وهو الغاية التي يسعى كل من الواعد والموعود له الى تحقيقها من وراء الوعد بالتعاقد الى جانب ركن الشكلية ان كان العقد الموعود به عقدا شكليا بنص القانون.
والوعد بالتعاقد قد يكون ملزماً لجانب الواحد فقط وهو الواعد، كما إذا وعد شخص اخر بان يبيعه منزلاً بمبلغ معين إذا رغب في ذلك خلال شهر فيكون أحدهما واعد فقط والاخر موعود له فقط، كما قد يكون ملزما للجانبين فيكون كلاهما واعد وموعود له في نفس الوقت، كما في الوعد بالبيع المقترن بوعد مقابل بالشراء.
واعتبار الوعد ملزما للجانبين لا يعني بان العقد الموعود به قد انعقد وأصبح نهائيا وتاما كما ير ى البعض، لأنه ان لم يبدي كل طر ف رغبته في ابرام العقد النهائي خلال المدة المحددة سقط الوعد وهذا خلافا لحالة الوعد الملزم لجانب واحد الذي يكفي فيه ان يبدي الموعود له فقط رغبته في التعاقد فينعقد العقد.
هذا ويلاحظ ان اتفاق الطرفين في حال الوعد الملزم للجانبين على امكان اظهار رغبتهما في التعاقد خلال مدة معينه يعني انهما لم يريدا ان يجعل من العقد تاما ونهائيان وهذا ما يميز الوعد الملزم للجانبين عما يسمى بالعقد الابتدائي في القانون المصري وهو ما لا وجود له في القانون الجزائري.
شروط الوعد بالتعاقد:
لما كان الوعد بالتعاقد عقد يتم بإيجاب وقبول، فانه يشترط فيه بداية ان تتوافر فيه الشروط العامة لانعقاد العقد من تراضي ومحل وسبب، حيث يقوم التراضي بصدور الوعد وهو بمثابة ايجاب وصدور قبول مطابق له يتمثل في قبول الوعد، ولانعقاد العقد الموعود به يجب على الموعود له ابداء رغبته في قبول ذلك خلال مدة الوعد.
وتبعا لما تقدم يلزم لانعقاد عقد الوعد صحيحا في الواعد ان يكون اهلا للتعاقد وان تكون ارادته خالية من العيوب وقت الصدور الوعد لأنه في هذا التاريخ يكون الواعد قد عبر عن ارادته بشكل بات ونهائي.
اما الموعود له فانه يعبر عن ارادته اولا في قبول الوعد لانعقاد الوعد، اذ بدون هذا القبول لا ينعقد عقد الوعد، ولما كان لا يترتب على قبوله هذا اي التزام في ذمته فيكفي فقط لانعقاد عقد الوعد ان يكون الموعود له أهلا للتعاقد وقت قبول الوعد ويكفي هنا في الواعد ان يكون مميزا ولا يشترط ان تكون ارادته خاليه من العيوب.
ولما كان انعقاد العقد النهائي الموعود به يتوقف على ابداء الموعود له رغبته في ذلك خلال مده الوعد (بعد قبوله للوعد)، فانه يجب ان تتوافر في الواعد اهلية التعاقد وان تكون ارادته خالية من العيوب وقت ابداء الرغبة بقبول ابرام العقد الموعود به، لأنه في هذا التاريخ يكون الموعود له قد عبر عن ارادته بشكل بات ونهائي وليس وقت القبول الاول (قبول الوعد).
الواعد (صدور الوعد) الموعود له ( قبول الوعد) قبول التعاقد
-توفر الأهلية اللازمة للعقد الموعود به - ينعقد عقد الوعد - ينعقد العقد الموعود به.
- خلو الإرادة من العيوب - يكفي فقط اهليه التمييز - توفر الأهلية اللازمه للعقد الموعود به
- خلو الإرادة من العيوب.
زيادة على الشروط العامة للعقد يشترط في الوعد بالتعاقد طبقا للمادة 71 من القانون المدني ما يلي:
1-ان يتضمن الوعد بالتعاقد جميع العناصر الجوهرية في العقد الموعود به، في الوعد بالبيع مثلا يشترط في الوعد ان يتضمن الشيء المبيع والثمن، وفي الوعد بالإيجار يجب ان يتضمن الوعد العين المؤجرة، الأجرة ومده عقد الايجار.
2- يجب ان يتضمن المدة التي يلتزم الواعد فيها بالبقاء على وعده والتي يجب ايضا على الموعود له لانعقاد العقد الموعود به ابداء ر غبته في التعاقد خلالها.
3-ضروره افراغ الوعد بالتعاقد في شكل رسمي، إذا كان المشرع يشترط ذلك لانعقاد العقد الموعود به كما في الوعد ببيع عقار، هذا ويلاحظ ان الوعد بالتعاقد لا يكون شكليا الا اذا كان المشرع هو الذي يعتبر العقد الموعود به شكليا اما اذا كان هذا الاخير شكليا باتفاق المتعاقدين فان الوعد به لا يشترط ان يفرغ في نفس الشكل.
اثار الوعد بالتعاقد:
يترتب على قيام عقد الوعد صحيحا التزام الواعد بإبرام العقد الموعود به إذا ابدى الموعود له رغبته في ذلك خلال المدة المحددة، حيث إذا ابدى الموعود له رغبته في التعاقد خلالها انعقد العقد الموعود به دون حاجه الى رضاء جديد من قبل الواعد، اي يكون الموعود له دائنا بحق شخصي اتجاه الواعد، وبالمقابل يسقط الوعد إذا رفض الموعود له ابرام العقد الموعود به او إذا لم يعلن عن قبوله الا بعد انتهاء مدة الوعد.
ولتحديد اثار الوعد بالتعاقد نميز بين مرحلتين، المرحلة السابقة على ابداع الرغبة في التعاقد والمرحلة اللاحقة على ذلك.
مرحلة ما قبل الابداع الرغبة في التعاقد
وهي المرحلة التي تفصل ما بين صدور الوعد واعلان الرغبة في التعاقد، في خلال هذه المرحلة لا يرتب العقد الموعود به اي من اثاره، لأنه لم ينعقد بعد وبالتالي الذي يسري بين المتعاقدين فقط هي احكام عقد الوعد، وعليه بموجب الوعد يكون للموعود له في ذمه الواعد حقا شخصيا يكون له بموجبه حق مطالبته بإبرام العقد الموعود به إذا رغب في ذلك خلال المدة المتفق عليها، اي لا يملك الواعد العدول عن وعده.
اما بالنسبة للموعود له فلا ينشا في ذمته اي التزام وانما يعطيه الوعد حق الخيار بين ابرام العقد او عدم قبول ابرامه.
ويترتب على ما تقدم ما يلي:
- اذا كان العقد الموعود به ناقلا للملكية فانه خلال هذه المرحلة يبقى الواعد مالكا لمحل التعاقد ،فاذا هلك بقوه قاهرة تحمل الواعد وحده تبعة الهلاك ويسقط معه حق الوعد لاستحاله تنفيذه، كما ان جميع التصرفات التي يجريها الو اعد خلال هذه المرحلة في الشيء الموعود بالتعاقد حوله تعتبر تصرفات صحيحه لأنها صادرة عن المالك ولا يكون للموعود له هنا سوى الرجوع على الواعد بالتعويض بعد ابداء الرغبة في التعاقد، أي ان للواعد حق التصرف والاستعمال والاستغلال في الشيء الموعود بالتعاقد حوله في حدود عدم الإضرار بالحق الاحتمالي للموعود له كما تكون جميع ثمار الشيء وحاصلاته ملكاً للواعد ومن حقه وحده فقط.
- عقد الوعد بالتعاقد الوارد على عقار لا يخضع لعملية واجراءات الشهر العقاري لأنه غير ناقل للحق العيني- الملكية-.
- ينتقل حق الموعود له بحواله الحق وبالميراث ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك.
مرحله ما بعد ابداء الرغبة في التعاقد
وهي المرحلة التي تلي تاريخ ابداء الموعود له رغبته في قبول التعاقد، ويترتب على ابداع الموعود له رغبته في التعاقد خلال مدة الوعد اعتبار العقد منعقدا من الوقت الذي يتصل فيه اعلان الرغبة(القبول) بعلم من وجهه اليه(الواعد) دون اثر رجعي، بحيث لا يحتاج انعقاد العقد الموعود به بعد اعلان القبول الى رضاء جديد من الواعد، وعليه من هذا التاريخ يبدأ العقد الموعود في ترتيب اثاره ، فاذا كان الوعد بالبيع فانه من تاريخ علم الواعد بقبول الموعود له الشراء ينعقد عقد البيع فيلتزم البائع بنقل الملكية والمشتري بدفع الثمن فيكون للموعود له اتجاه الواعد حقا عينيا على شيء الموعود بالتعاقد حوله.
تنتقل الملكية الى الموعود له وبالتالي إذا هلك محل التعاقد بقوة قاهرة تحمل الموعود له تبعة الهلاك، وتعتبر جميع ثماره وحاصلاته ملكا للموعود له وحده دون الواعد، كما تعتبر تصرفات الواعد فيه تصرفات صادرة عن غير المالك.
لكن ماذا لو امتنع الواعد بعد ابداء الموعود له رغبته في التعاقد عن تنفيذ الوعد وابرام العقد الموعود به؟
طبقا للمادة 72 من القانون المدني إذا نكل الواعد عن وعده ورفض تنفيذ الوعد، وكانت جميع شروط الوعد متوفرة خاصة ركن الشكل إذا كان العقد الموعود به شكليا جاز للموعود له لأجل اجبار الواعد على ابرام العقد الموعود به اللجوء الى القضاء لاستصدار حكم يقوم مقام العقد الموعود به (حكم مقرر غير منشئ).
اما إذا خرج الشيء الموعود به من يد الواعد بتقصير منه، كما لو تصرف فيه الى الغير بحيث يكون تنفيذ الالتزام عينا مستحيلا يكون للموعود له حق الرجوع على الواعد وفقا لقواعد المسؤولية العقدية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه من جراء عدم تنفيذ العقد.
-
الفرع الثالث
النيابة في التعاقد المواد 73- 77 ق م
الأصل أن يبرم الشخص العقد بنفسه ولحسابه، واستثناءً من ذلك قد يبرم الشخص العقد بواسطة شخص آخر ينوب عنه، وهذا ما يصطلح عليه بالتعاقد عن طريق النيابة، حيث يٌشترط في شخص النائب لانعقاد العقد صحيحاً ما يشترط في شخص الأصيل لو أبرم العقد أصالة عن نفسه خاصة، من حيث الأهلية اللازمة للتعاقد وخلوا الإرادة من العيون.
وتكمن أهمية النيابة في التعاقد خاصة بالنسبة للأشخاص الذين لا يستطيعون مباشرة التصرفات القانونية بأنفسهم، كما هو الحال بالنسبة لفاقد الأهلية والأشخاص الاعتبارية، كما تظهر فائدة النيابة أيضاً بالنسبة للأشخاص الذين لا تسمح لهم ظروفهم بإبرام التصرف بأنفسهم كما في حال السفر، نقص الخبرة…الخ.
اولا: تعريف النيابة في التعاقد
تعرف النيابة على أنها حلول ارادة شخص معين يسمى النائب محل اراد شخص آخر يسمى الأصيل في إبرام تصرف قانوني تنصرف آثاره إلى ذمة الأصيل وحده، وبهذا فالنائب طرف في التصرف القانوني المبرم والأصيل طرف في العلاقة التي تنشأ عن هذا التصرف، فأثار التصرف (العقد) تنصرف إلى ذمة الأصيل كما لو كان هو الذي أبرم التصرف بنفسه.
ثانيا: انواع النيابة
تنقسم النيابة بحسب المصدر المقرر لها الى ثلاث انواع
1- النيابة القانونية: وهي تلك التي يستمد فيها النائب سلطته في التعاقد من القانون مباشرة مثل الولي، الوصي والقيم.
2- النيابة القضائية: وهي تلك التي يستمد فيها النائب سلطته في التعاقد من حكم القاضي حيث قد يعهد القانون للقاضي تعيين النائب كما هو الحال بالنسبة للوصي والقيم والحرس القضائي ووكيل الغائب والمفقود.
3- النيابة الاتفاقية: وهي الأصل حيث يستمد النائب فيها سلطته في إبرام التصرفات القانونية من ارادة الأصيل بموجب عقد الوكالة، مع ملاحظة أنه لا تكون النيابة إلا في الأعمال القانونية دون الأعمال المادية خلافا للوكالة والتي هي أحد مصادر النيابة.
ثالثا: شروط النيابة في التعاقد
يشترط في التعاقد عن طريق النيابة توافر الشروط الثلاثة التالية:
1- حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل
2- إبرام النائب للتصرف باسم الأصيل ولحسابه أي وجوب العلم بالنيابة
3- أن يلتزم النائب في إبرامه للتصرف حدود النيابة
الشرط الأول: حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل
لكي تتحقق النيابة يجب أن يعبر النائب عن إرادته هو لا عن إرادة الأصيل، وهذا ما يميز النائب عن الرسول الذي يقتصر دوره فقط على مجرد النقل المادي للتعبير عن إرادة أحد المتعاقدين إلى المتعاقد الآخر.
ويترتب على اعتبار النائب يتعاقد بإرادته هو لا بإرادة الأصيل عدة نتائج هامة نذكر منها ما يلي:
- في النيابة الاتفاقية يشترط في النائب أن يكون مميزا على الأقل لأن آثار التصرف الذي يجريه لا تنصرف إليه وإنما تنصرف إلى ذمة الأصيل (يمكن هنا أن يبطل عقد الوكالة لنقص أهلية النائب دون أن يؤثر هذا البطلان على التصرف الذي أجراه هذا النائب)، ويسأل عند اذن قبل الأصيل بالقدر الذي يمكن أن تتحقق فيه مسؤوليته بالرغم من نقص الأهلية، اما في النيابة القانونية والقضائية فإن القانون يشترط في الغالب أن يكون النائب كامل الأهلية.
- يشترط طبقا للمادة 73 من القانون المدني ان تكون ارادة النائب خالية من العيوب (الغلط، التدليس، الاكراه والاستغلال) والا كان العقد قابلا للإبطال دون ان يشترط ذلك في ارادة الأصيل.
- إن علم النائب او عدم علمه بعض الظروف وكذا حسن نيته او سوئها والذي قد يرتب عليه القانون أثار معينة هو الذي يجب أن يؤخذ به، دون علم أو عدم علم الأصيل ودون حسن او سوء نية هذا الأخير، فإذا علم النائب مثلا بوجود عيب في الشيء الذي اشتراه لحساب الأصيل فلا يحق الرجوع على البائع بدعوى ضمان العيوب الخفية حتى ولو كان الأصيل غير عالم به.
وإذا كان النائب سيء النية بتعامله مع مدين يعلم انه معسر جاز لدائن هذا المدين الطعن في التصرف الذي أجراه هذا النائب بالدعوى البوليصية ولو كان الأصيل حسن النية.
غير أنه إذا كان النائب يتصرف وفق تعليمات محددة من الأصيل بحيث تكون لإرادة الأصيل دور في إبرام التصرف، فإنه لا يجوز للأصيل أن يتمسك بجهل النائب ببعض الظروف التي كان يعلمها هو أو كان من المفروض حتما ان يعلم بها طبقاً للمادة 73 الفقرة الثانية من القانون المدني، ولا يكون هذا إلا في النيابة الاتفاقية (حسب المادة 73/02 غير أنه إذا كان النائب وكيلا أي مصدر النيابة هنا عقد الوكالة) أي يجب النظر كذلك إلى إرادة الأصيل في الحدود التي تشترك فيها مع إرادة النائب في إبرام التصرف سواء بالنسبة لعيوب الإرادة أو بالنسبة الى العلم أو الجهل ببعض الظروف المرتبطة بالعقد.
الشرط الثاني: يجب ان يبرد النائب التصرف باسم الأصيل ولحسابه.
لما كان جوهر النيابة انصراف آثار التصرف القانوني الذي يجريه النائب إلى ذمة الأصيل مباشرة لا إلى ذمة النائب، كان لزاماً على النائب إعلام المتعاقد الآخر بأنه يتعاقد باسم الأصيل ولحسابه، اما اذا لم يُعلن النائب ذلك عند التعاقد واعتقد المتعاقد الآخر أنه أصيلا عن نفسه لا نائباً عن غيره تماشيا مع الأصل العام، فإن العقد لا ينعقد لعدم توافق الارادتين بين النائب والمتعاقد الآخر، لأن النائب لم يقصد الزام نفسه بالعقد كما أن آثار هذا العقد لا تنصرف الى ذمة الأصيل لأن المتعاقد الآخر تعاقد مع النائب بصفته اصيلاً عن نفسه لا نائباً عن غيره(غير انه هناك من الفقهاء من يرى بأن العقد هنا ينعقد وتنصرف اثاره الى ذمة النائب شخصياً لا إلى ذمة الأصيل).
واستثناء مما تقدم تنصرف آثار العقد الى ذمة الأصيل على الرغم من عدم اعلام النائب للمتعاقد الآخر انه نائباً عن غيره في حالتين طبقا للمادة 75 من القانون المدني:
الحالة الأولى: إذا كانت ظروف الحال تفترض حتماً علم المتعاقد الآخر بوجود النيابة رغم عدم إعلان النائب ذلك، فمن يشتري سلعة ما من الأسواق والمحلات الكبرى يُفترض علمه بأنه يتعامل مع صاحب السوق أو المحل وليس مع المستخدم، فما هذا الاخير الا نائبا عن الأصيل صاحب السوق.
الحالة الثانية: إذا كان يستوي عند المتعاقد الآخر وقت التعاقد أن يتعامل ويتعاقد مع النائب او مع الأصيل، فمن يشتري سلعة ما من أحد المحلات فإنه يستوي عند البائع أن يكون مشتريها قد اشتراها لنفسه او لغيره فيحق لهذا الغير الرجوع على البائع مباشرةً بدعوى ضمان العيوب الخفية إذا وجد بالشيء المبيع عيبا خفيا وقت التعاقد والعكس بالعكس، أين يستوي لدى المشتري أن يكون البائع هو صاحب المحل او مجرد مستخدم لدى غيره.
الشرط الثالث: يجب أن يلتزم النائب في إبرام التصرف حدود النيابة
طبقا للمادة 74 والمادة 575 من القانون المدني وحتى يحتفظ النائب بصفته كنائب وحتى تنصرف آثار التصرف الذي يجريه الى ذمة الأصيل فيلزمه، يجب على هذا النائب أن يلتزم حدود نيابته، فإذا تجاوز حدود نيابته زالت صفة النائب عنه وأصبح تصرفه قاصراً عن إنتاج آثاره في ذمة الأصيل إلا إذا اقره، كما لا يُلزم هذا التصرف النائب لأنه لم يقصد إلزام نفسه به، وعليه لا يكون أمام المتعاقد الآخر إلا الرجوع على النائب بالتعويض عن الضرر الذي اصابه نتيجة عدم انصراف أثر العقد إلى ذمة الأصيل بخطأ النائب.
غير أنه ترد حالات استثنائية تَنفذ فيها تصرفات النائب في حق الأصيل على الرغم من تجاوز النائب لحدود نيابته الاتفاقية نذكر منها ما يلي:
1- إذا كان النائب ومن تعاقد معه يجهلان معاً وقت التعاقد انقضاء النيابة، طبقاً للمادة 76 من القانون المدني، وهذا حمايةً للتعامل والثقة بين الناس كما لو كان المتعاقدان يجهلان وقت التعاقد موت الأصيل او عزله للوكيل النائب، فتصرف النائب بعد انتهاء النيابة يعتبر تجاوزاً لها.
2-إذا كان الغير بسبب خطأ الأصيل او اهماله اعتقد بحسن نية ان تصرف النائب كان في حدود سلطته كنائب.
3- إقرار الأصيل لتصرف النائب طبقا للمادة 77 من القانون المدني
4- إذا كان تصرف النائب يعود بالنفع المؤكد على الأصيل، أي متى استحال على النائب إخبار الأصيل سلفا وكانت الظروف القائمة يغلب معها الظن بأن الأصيل ما كان إلا ليوافق على هذا التصرف، وهنا يجب على النائب إبلاغ الأصيل بخروجه ومجاوزته لحدود نيابته فوراً طبقا للمادة 575الفقرة 02 من القانون المدني.
رابعا: آثار النيابة
يترتب على النيابة آثار قانونية هامة نذكرها تباعا:
1- فيما يتعلق بالعلاقة التي تربط النائب والأصيل، فإن هذه العلاقة يحكمها المصدر المنشأ للنيابة أي القانون أو الاتفاق، ففي النيابة القانونية يتولى القانون تحديد حقوق والتزامات كل من النائب والأصيل، وان كانت النيابة اتفاقية فان عقد الوكالة هو الذي يتولى تحديد هذه الحقوق والالتزامات طبقا لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين.
2-آثار النيابة بالنسبة للأصيل: إذا تصرف النائب باسم الأصيل وفي حدود نيابته فإن هذا التصرف ينفذ مباشرة في حق الأصيل حيث يضاف كل ما ينشأ عنه من حقوق والتزامات إلى ذمة الأصيل وحده مباشره دون ان تمر بذمة النائب طبقا للمادة 74 ق م.
3- آثار النيابة بالنسبة للغير: إن التصرف المبرم بين النائب والغير ينشأ علاقة مباشرة بين هذا الأخير أي الغير والأصيل حيث يكتسب المتعاقد معه في مواجهة الأصيل ما ينشأ عن العقد من حقوق ويسأل عن تنفيذ ما ينشأ في ذمته من الالتزامات.
والجدير بالملاحظة أنه لا يملك هذا الغير الرجوع على النائب عند عدم تنفيذ الأصيل لإلتزاماته إلا إذا كان هذا النائب قد كفل الأصيل في ذلك فيرجع عليه بصفته كفيلا لا بصفته نائباً.
4-آثار النيابة بالنسبة للنائب: لا أثر للعقد المبرم في مواجهة النائب فلا يحمله اي التزام ولا يكسبه اي حق، وعليه لا يملك هذا النائب مطالبة المتعاقد معه بتنفيذ العقد الا إذا كان نائبا كذلك عن الأصيل في التنفيذ، كما لا يُسأل عن عدم تنفيذ الأصيل لالتزاماته التي رتبها العقد في ذمته.
خامسا: حكم تعاقد الشخص مع نفسه
يمكن أن يتعاقد الشخص مع نفسه في فرضين لا ثالث لهما وهما:
الاول: ان يبرم الشخص العقد بصفته أصيلا عن نفسه ونائبا عن غيره، كما لو اشترى لنفسه الشيء الذي وكل لبيعه، فهو أصيلا عن نفسه بصفته مشترى ونائبا عن البائع، وكذلك الأب الذي يهب جزءًا من ماله لولده القاصر ثم يقبل الهبة باعتباره وليا عن ولده أي نائب عنه نيابة قانونية.
الثاني: أن يبرم الشخص العقد باعتباره نائباً عن كلا المتعاقدين، كما لو أناب شخص شخصاً آخر في أن يبيعه منزله فيشتريه لشخص ثالث أنابه ووكله في شرائه، وكمن وكل شخص يختار له زوجة فزوجه ممن في ولايته بنته مثلا.
موقف المشرع الجزائري من تعاقد الشخص مع نفسه.
الأصل أنه لا يجوز تعاقد الشخص مع نفسه، وعلة هذا المنع والتحريم تكمن في أن العقد يمثل تقابل لمصلحتين متعارضتين، يعجز النائب عن التوفيق بينها في حال التعاقد مع النفس، وهو ما يؤدي به الى التضحية بمصلحة أحد المتعاقدين على حساب مصلحة المتعاقد الآخر، حيث أن مصلحة البائع في البيع بأعلى ثمن ومصلحة المشتري في الشراء بأقل ثمن، وتزداد خطورة التعاقد مع النفس عندما يكون النائب أصيلا عن نفسه ونائباً عن غيره حيث في الغالب يقدم مصلحته الشخصية على حساب مصلحة الأصيل وهذا ما يخالف مبدأ حسن النية في تنفيذ العقد طبقا للمادة 170 من ق م.
لأجل ما تقدم لا يجيز المشرع تعاقد الشخص مع نفسه بموجب المادة 77 والمواد 410 411 412 من القانون المدني.
غير أنه واستثناء من القاعدة السابقة يجوز تعاقد الشخص مع نفسه في الأحوال التالية طبقا للمادة 77 من القانون المدني.
1- إذا وجد في القانون نص صريح يجيز ذلك: كما في حالة الولاية على المال، بحيث يجوز للأب أن يتعاقد مع نفسه باسم القاصر سواء كان ذلك لحسابه هو أو لحساب شخص آخر طبقاً للمواد 87 الى 90 من قانون الأسرة، وطبقا للمادة 90 منه إذا تعارضت مصلحة الولي مع مصلحة القاصر يعين القاضي متصرفا خاصاً تلقائياً او بناءً على طلب من له مصلحة.
2-إذا رخص الأصيل للنائب التعاقد مع نفسه.
3- إذا أقر الأصيل التعاقد مع النفس، الإقرار اللاحق كالإذن السابق.
4-إذا اقتضت قواعد التجارة جواز تعاقد الشخص مع النفس، كما هو الحال بالنسبة للوكيل بالعمولة حيث يعد وكيل عن البائع والمشتري مقابل عمولة معينة ووفق لقواعد القانون التجاري.
-
-
Leçon
الفرع الاول
شرط الأهلية م 78-80 ق م
1-تعريف الأهلية: يقصد بالأهلية صلاحية الشخص لكسب الحقوق والتحمل بالالتزامات، وصلاحيته لإبرام التصرفات القانونية على الوجه الذي يعتد به قانوناً، وبهذا تنقسم الأهلية وتتنوع الى نوعان: أهلية وجوب وأهلية أداء.
أهلية الوجوب: وهي صلاحية الشخص لكسب الحقوق التحمل بالالتزامات التي يقرها ويرتبها القانون، وبهذا ترتبط أهلية الوجوب بالشخصية القانونية طبيعية كانت أو معنوية دون الإرادة، بحيث تثبت لكل شخص من اللحظة التي يكون فيها حملا الى تاريخ تصفية تركته وسداد ديونه بعد موته (نفس الحكم تقريبا بالنسبة للشخص المعنوي).
أما أهلية الأداء: فهي صلاحية الشخص لإعمال إرادته في مباشرة التصرفات القانونية بالعقد أو الإرادة المنفردة، والتي تكسبه حقوقاً وتحمله بالالتزامات، وذلك على وجه يعتد به قانوناً وهي بهذا متعلقة بالإرادة خلافا لأهلية الوجوب.
ولما كانت أهلية الأداء متعلقة بالإرادة فإنها تنعدم بانعدام الإرادة، وتكون وناقصة بنقصانها، وتكتمل بكمالها، وبهذا لا تثبت أهلية الأداء مطلقاً لمن كان عديم الارادة، وتكون أهلية أداء ناقصة بالنسبة لمن كان مميزا فقط وتثبت اهلية أداء كاملةً لمن كان راشدا، لهذا يقصد بأهلية التعاقد أهلية الأداء لا أهلية الوجوب.
2-تدرج الأهلية مع السن: تمر أهلية الأداء بحسب السن بثلاث مراحل وهي:
مرحلة الصبي غير المميز: الصبي عديم التمييز هو الشخص الذي لم يبلغ بعد سن التمييز المحددة قانونا بالمادة 40 من القانون المدني وهي 13 سنة كاملة، ويأخذ حكم الصبي غير المميز كل من بلغ سن التمييز أي 13 سنة فما فوق وكان مجنونا أو معتوها.
ولما كان مناط أهلية الأداء هو التمييز والإدراك يعتبر الصبي غير المميز عديم الأهلية أي ليست له القدرة على إبرام التصرفات القانونية بشكل يعتد قانونا، فتكون جميع تصرفاته باطلة بطلاناً مطلقاً لانعدام الإرادة لديه المعدم للأهلية (ينوب عن هذا الشخص في إبرام التصرفات القانونية الولي او الوصي او المقدم على حسب الأحوال طبقاً للمادة 81 من قانون الأسرة) حتى ولو كانت نافعة له طبقاً للمادة 42 من القانون المدني والمادة 82 من قانون الأسرة.
مرحلة الصبي المميز: المميز هو كل شخص بلغ سن التمييز 13 سنة كاملة دون أن يبلغ سن الرشد الذي هو 19 سنة ولم يكن مجنونا او معتوها، أو من بلغ سن الرشد وكان سفيها او ذا غفلة، وتثبت للصبي المميز اهلية اداء ناقصة لعدم اكتمال ارادته بعد.
وفي شأن حكم تصرفات المميز ناقص الأهلية يميز المشرع بموجب المادة 83 من قانون الأسرة بين ثلاث حالات (مع ملاحظة أن القانون المدني لم يتعرض لحكم تصرفات ناقص الأهلية):
الحالة الاولى: إذا كانت التصرفات التي يجريها الصبي المميز ضارة به ضرراً محضاً ومؤكدا بحيث تتسبب في خروج مال من ذمته دون مقابل كالتبرع، فإنها تعتبر باطلة بطلاناً مطلقاً وعليه ليس لعديم التمييز أهلية التبرع طبقا للمادة 83 من قانون الأسرة.
الحالة الثانية: إذا كانت تصرفات الصبي المميز نافعةً له نفعاً محضاً ومؤكدا بحيث يترتب عنها دخول مال في ذمته المالية دون مقابل كقبول الهبة، فإنها تعتبر تصرفات صحيحة ومنه نقول تثبت له أهلية الاغتنام بمجرد بلوغه مرحلة التمييز.
الحالة الثالثة: إذا كانت تصرفات الصبي المميز دائرة بين النفع والضرر بحيث تحتمل بحسب طبيعتها الربح والخسارة، أي يأخذ فيها كل متعاقد مقابلا لما يعطيه للمتعاقد الآخر وهذا ما يكون في عقود المعاوضة فإن حكمها مختلف فيه بين القانون المدني وقانون الأسرة كما يلي:
- بالرجوع الى القانون المدني فإنه وطبقا للمادة 101 فقرة الثانية منه تعتبر تصرفات المميز الدائرة بين النفع والضرر قابلة للأبطال لمصلحة ناقص الأهلية المميز، اي انها صحيحة ومنتجه لجميع آثارها إلا أنها مهددة بالبطلان إذا تمسك به ناقص الأهلية بعد بلوغه سن الرشد او عن طريق وليه.
- وبالرجوع الى قانون الأسرة وطبقا للمادة 83 منه تعتبر تصرفات الصبي المميز الدائرة بين النفع والضرر موقوفة وليست قابلة للإبطال، فهي تصرفات صحيحة إلا أنها موقوفة النفاذ والسريان، بحيث يتوقف نفاذ آثارها على إقرارها من قبل ولي ناقص الأهلية او ناقص الأهلية نفسه بعد ان يصبح كامل الأهلية ببلوغه مرحلة الرشد.
ويختلف العقد القابل للإبطال عن العقد الموقوف في أن العقد القابل للإبطال عقد صحيح ونافذ بين المتعاقدين غير أنه مهدد بالإبطال مستقبلا إذا تمسك بالإبطال من تقرر البطلان لمصلحته وهو ناقص الأهلية المميز او من يقوم مقامه، أما العقد الموقوف فهو عقد صحيح مثله مثل العقد القابل للإبطال إلا أنه غير النافذ حيث يتوقف نفاذه على اقراره من قبل ناقص الأهلية اوليه، وبهذا الوصف الاخير اخذت الشريعة الإسلامية والقانون المدني العراقي.
وفي هذا الشأن الأولى بالترجيح اعتبار العقد موقوفا اعتمادا على قانون الأسرة لأنه قانون لاحق بالنسبة الى القانون المدني والقاعدة تقضي بان اللاحق يقيد السابق، كما أن قانون الأسرة يعتبر القانون الخاص والمختص بمسائل الأحوال الشخصية ومنها الأهلية بالمقارنة مع القانون المدني الذي يعتبر الشريعة العامة، والقاعدة تقضي بأن الخاص يقيد العام وبالتالي لا يجوز طلب إبطال العقد لنقص الأهلية ولا يكون نافذا الا بعد اقراره من قبل ولي ناقص الاهلية او من هذا الاخير بعد ان يصبح كامل الأهلية.
مرحلة الرشد: يعتبر راشدا طبقاً للمادة 40 من القانون المدني كل من بلغ 19 سنة كاملة وكان متمتعا بكامل قواعد العقلية فلم يكن لا مجنونا او معتوها ولا سفيها ولا به غفلة وهو بهذا يعتبر كامل الأهلية باعتباره كامل الإرادة، وهو ما ينتج عنه أن تعتبر جميع تصرفاته صحيحة سواءً كانت ضارة به أو نافعة له او تدور بين النفع والضرر وذلك لأن إدراكه لمصالحه أصبح كاملاً فلم يعد في حاجة للحماية القانونية.
ويلاحظ اخيرا انه يمكن ان يُلحق الصبي المميز بالشخص الراشد ويأخذ حكم كامل الأهلية بناء على ما يصطلح عليه بالترشيد حيث يمكن للقاضي أن يأذن لمن بلغ سن التميز في التصرف جزئيا او كليا (اذن مقيد او مطلق) في امواله بناء على طلب من له مصلحة، وللقاضي الرجوع في هذا الاذن إذا ثبت له ما يبرر ذلك طبقا للمادة 84 من القانون الاسرة.
وبموجب هذا الترشيد يصبح المرشد في حكم كامل الأهلية وتعتبر جميع تصرفاته صحيحة حتى ولو كانت ضارة به، هذا ويلاحظ أن القانون المدني لم يأذن للقاضي بالترشيد إلا بالنسبة لمن بلغ سن 18 سنة طبقا للمادة 38 الفقرة الثانية خلافا لقانون الأسرة الأولى بالاعتبار هو حكم قانون الأسرة(والجدير بالذكر هنا أن المشرع المدني قد تدارك هذا الخلل بموجب التعديل الأخير للقانون المدني بالقانون 05-10 المؤرخ في 20 ماي 2005 المتضمن تعديل القانون المدني حيث ربط الترشيد بسن التمييز وبهذا يتناغم القانون المدني مع قانون الأسرة).
وأساس الترشيد هو اقتناع القاضي بعدم صحة الافتراض القانوني القائل بأن الشخص لا يصبح كامل الإدراك والتمييز إلا ببلوغه سن 19 سنه كاملةً، فله أن يرشد كل مميز اقتنع بأنه أصبح راشدا على الرغم من عدم بلوغه هذا السن.
3- عوارض الأهلية: عوارض الأهلية أمور يتعرض لها شخص فتحد من قدرة التمييز لديه أو تعدمها وتجعله عديم الأهلية كما في حالة الجنون والعته أو نقص الأهلية كما في حالة السفه والغفلة.
أ- الجنون: مرض عقلي يصيب الشخص يؤدي الى زوال إدراكه وتمييزه، وعليه يعتبر المجنون عديم التمييز حتى ولو كان قد بلغ سن الرشد، وقد يكون هذا الجنون دائم يستوعب كل اوقات المريض به، وهذا ما يسمى بالجنون المطبق وقد يكون مؤقت فيجن المريض فترة من الزمن ثم يفيق في أخرى وهذا ما يسمى بـ الجنون المتقطع.
والأصل بطلان جميع تصرفات المجنون لانعدام الإدراك والأهلية لديه، إلا إذا وقعت منه في فترة الإفاقة فتعتبر صحيحة إذا كان بالغ سن الرشد، غير أن القانون المدني سوى بين الجنون المطبق والجنون المتقطع في الحكم.
ب- العته: هو مرض عقلي يصيب الشخص فيجعله قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير (لا يضرب ولا يشتم) ينتج عادة بسبب التقدم في السن أو المرض كتصلب الشرايين مثلا.
والعته كما في الفقه الاسلامي اما ان يؤدي الى إنقاص الإدراك والتمييز فيأخذ المصاب به حكم الصبي المميز، وإما ان يؤدي الى انعدام الإدراك والتمييز كما في الجنون، فيأخذ المصاب به حكم عديم التمييز غير أن القانون المدني قد جعل حكمه واحد وهو حكم عديم التمييز.
حكم تصرفات المجنون والمعتوه: طبقا للمادة 42 من القانون المدني تعتبر جميع تصرفات المجنون والمعتوه باطلة بطلاناً مطلقاً لانعدام الإدراك لديهما حتى قبل الحكم عليهما بالحجر، غير انه بالرجوع الى قانون الأسرة نجد المشرع يميز في الحكم بين ما اذا كانت قبل صدور الحكم بالحجر أو بعده، حيث وطبقا للمادة 101 و 107 منه تعتبر تصرفات المجنون و المعتوه باطلة بطلاناً مطلقاً إذا صدرت عنه بعد الحكم عليه بالحجر، اما اذا كانت قبل الحكم عليه بالحجر فإنها تعتبر صحيحة إن كان راشدا، إلا إذا كانت حالة الجنون او العته ظاهره و فاشية فيه وقت صدورها فتكون حينئذ باطلة بطلاناً مطلقاً.
ج- السفه: وهو من يبذر المال في غير ما يقضي به العقل والشرع، وبالتالي يأخذ حكم ناقص الأهلية لنقصان إدراكه وعدم اكتماله.
د- الغفلة: هي عاهة نفسية وليست عقلية تتمثل في نقص في الملكات النفسية تجعل المصاب بها سيئ التقدير بحيث لا يهتدي إلى التصرفات المربحة فيغبن في تصرفاته غبنا فاحشاً وهو بهذا يعتبر ناقص الاهلية.
حكم تصرفات السفيه وذو الغفلة: طبقاً للمادة 43 من القانون المدني يعتبر السفيه وذو الغفلة ناقص الأهلية، وبالتالي تأخذ تصرفاتهم حكم تصرفات ناقص الأهلية المميز، فتعتبر صحيحة إذن كانت نافعة له نفعاً محضاً وتكون باطلة بطلاناً مطلقاً إذا كانت ضارةً به ضرراً محضاً وتكون موقوفة إذا كانت دائرة بين النفع والضرر.
أما قانون الأسرة فنجده قد ألحق السفيه بالمجنون والمعتوه وجعل تصرفاته باطلة طبقا للمادة 85 منه دون أن يتعرض لحكم ذو الغفلة وبهذا تختلف أحكام قانون الأسرة مع القانون المدني والقوانين الأجنبية الأخرى التي تجعل السفيه وذو الغفلة في حكم الصبي المميز بعد تسجيل قرار الحجر وليس في حكم الصبي عديم التمييز.
متى يحجر على الشخص؟ طبقا للمادة 101 من قانون الأسرة يحجر على الشخص متى بلغ سن الرشد وهو مجنون او معتوه او سفيها أو طرأت عليه احدى الحالات المذكورة بعد رشده، وهذا بموجب حكم قضائي بناءً على طلب أحد الأقارب أو من كانت له مصلحة أو من النيابة العامة طبقا للمادة 102 من قانون الأسرة.
وان لم يكن لهذا المحجور عليه ولي الوصي وجب على القاضي أن يعين في حكم الحجر مقدماً او قيماً لرعايته والقيام بشؤونه، وللقاضي أن يستعين بأهل الخبرة لإثبات السبب الموجب للحجر، ويجب نشر الحكم بالحجر للإعلام (نظم المشرع الجزائري أحكام الحجر بموجب المواد من 101 إلى 108 من قانون الأسرة).
ملاحظة: تبعا لما تقدم ترتبط أهلية الأداء -أهلية التعاقد-التي هي شرط لصحة التراضي ومن ثم صحة العقد بالإرادة والإدراك والتمييز، فلا تتأثر إلا بالسن، وبعوارض الجنون، العته، السفه والغفلة، إلا أنه قد يمنع الشخص من التعاقد قانونا رغم أنه يتمتع بأهلية أداء كاملة وهذا لاعتبارات معينة (حالات الحد من الأهلية بحكم القانون طبقا للمادة 78 من القانون المدني) ومن ذلك:
ü لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة يمنع القانون التعاقد حول بعض الأموال وإخراجها من دائرة التعامل منها الأملاك الوطنية، الأملاك الوقفية، الأشياء والأموال المخالفة للنظام العام.
ü طبقاً المادة 402 يمنع المشرع القضاة من شراء الحقوق المتنازع فيها إذا كان النظر في النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشرون فيها أعمالهم وإلا كان البيع باطلا وهذا لأجل الضمان حياد القاضي.
ü طبقاً للمادة 403 يمنع المشرع المحامين من التعامل في الحقوق المتنازع فيها والتي تولوا الدفاع عنها وإلا كان هذا التعامل باطلا، وهذا لحماية حقوق الأصيل وشرف مهنة المحاماة.
ü لا يجوز طبقاً لـلمادة 411 المدني للسماسرة ولا للخبراء ان يشتروا الاموال المعهود بها إليهم لبيعها او تقدير قيمتها، سواء بأنفسهم او باسم مستعار وإلا كان البيع باطلا وهذا حمايةً لحقوق صاحب هذه الأموال.
4- موانع الأهلية: قد يكون الشخص كامل الأهلية لكن ومع ذلك قد توجد موانع تحول دون قدرته على مباشرة التصرفات القانونية بالعقد والإرادة المنفردة بنفسه، أو تحول دون قدرته على مباشرته لها منفردا، فيتدخل القانون ليقرر ضرورة تعيين شخص آخر يباشر عنه هذه التصرفات أو يساعده في ذلك، ومن هذه الموانع العاهة المزدوجة، الغيبة، الحكم بعقوبة جنائية.
أ-العاهة المزدوجة: طبقا للمادة 80 من القانون المدني إذا كان الشخص أصم أبكم أو أعمى أصم أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب هاتين العاهتين التعبير عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً (ليس وصي) يُعينه ويساعده في إبرام التصرفات التي تقتضيها مصلحته، ويكون قابلاً للإبطال كل تصرف عُين لأجله مساعداً قضائياً إذا صدر عن الشخص الذي تقررت مساعدته دون حضور هذا المساعد بعد تسجيل قرار المساعدة.
وما يلاحظ بداية انا نص المادة 80 من القانون المدني يسري على شخص الذي اجتمعت فيه عاهتان من العاهات الثلاث العمى البكم والصم، وتعذر عليه بسبب هاته العاهات الجسمانية (ليست العقلية) التعبير عن إرادته، وبهذا يعتبر هذا الشخص كامل الأهلية والإرادة إن كان راشدا لأن تأثير العاهات السابقة يتوقف عند التعبير عن الإرادة فلا ينقص ولا يعدم الإدراك والتمييز خلاف لعوارض الأهلية سالفة الذكر.
وحتى يتمكن ذو العاهتين من التعبير عن الإرادة ومن ثمة التعاقد في الحالات التي يتعذر فيها عليه ذلك، أجاز المشرع للقاضي أن يعين له مساعدا قضائيا وليس وصيا لان الوصي يعين لناقص الأهلية إن لم يكن له ولي، وعندها لا يجوز له القيام بهذه التصرفات وحده والا كانت قابلة للإبطال كما لا يجوز للمساعد القيام بهذه التصرفات وحده إلا إذا أذنت له المحكمة يذلك.
وتبعا لما تقدم وحتى يقع باطلا تصرف ذو العاهتين يجب ما يلي:
- ان تجتمع لدى المتصرف عاهتين من العاهات الثلاث العمي، البكم، الصم.
- أن يتعذر على ذي العاهتين التعبير عن إرادته بسببهما.
- أن يكون التصرف من التصرفات التي عينتها المحكمة عند تعيين المساعد القضائي.
- أن يقوم ذو العاهتين بالتصرف لوحده دون حضور المساعد القضائي وبعد تسجيل حكم المساعدة.
ب-الغيبة والفقد: الغائب هو من منعته ظروف قاهرة من الرجوع الى محل إقامته وتعذر عليه بسبب ذلك إدارة شؤونه بنفسه أو بواسطة شخص معين لمدة سنة، وتسبب غيابه في ضرر للغير، وطبقا للمادة 110 من قانون الأسرة يأخذ هذا الغائب حكم المفقود.
أما المفقود فهو الشخص الغائب الذي لا يُعرف مكان تواجده ولا يعرف حياته من موته بعد صدور الحكم بفقده، طبقا للمادة 109 من قانون الأسرة.
وطبقا للمادة 111 من قانون الأسرة على القاضي عندما يصدر الحكم بالفقد أن يعين مقدما (يسمى أيضا بالقيم أو وكيل الغائب) من الاقارب أو غيرهم لتسيير أموال المفقود وإدارتها.
فالغيبة مانع مادي يحول دون قدرة الشخص على التعاقد على الرغم من كون الغائب والمفقود كامل الأهلية فيعين القانون عن طريق القاضي من ينوبهما في ذلك.
ج- الحكم بعقوبة جزائية (سلب الأهلية طبقا للمادة 78 من القانون المدني): استنادا الى نص المادتين 09 و09 مكرر ومكرر01 من قانون العقوبات لا يجوز لمن يحكم عليه بعقوبة جنائية أن يتولى بنفسه ادارة امواله والتصرف فيها مدة اعتقاله، حيث يسلب القانون منه اهلية التعاقد كعقوبة تبعية للعقوبة الأصلية (السجن او الحبس) رغم كونه كامل الأهلية (أهلية الأداء)، وتعتبر كل تصرفاته في فترة سجنه باطلة بطلاناً مطلقاً وينوب عنه في ابراها وليه أو وصيه أو مقدم تعينه المحكمة.
5- اثبات انعدام الأهلية أو نقصها: طبقا للمادة 78 من القانون المدني يعتبر كل شخص أهلا للتعاقد ما لم تسلب أهليته أو يحد منها بحكم القانون، لهذا يقع عبء اثبات نقص الأهلية أو انعدامها حتى يكون العقد قابلاً للإبطال أو باطلا بطلاناً مطلقاً على من يدعي ذلك، وبهذا إذا أراد شخص إبطال العقد الذي أبرمه عليه اثبات نقص أهليته أو انعدامها وقت التعاقد وبالضبط وقت صدور التعبير عن الإرادة عنه بالإيجاب او القبول.
وإذا ثبت أنه أخفى نقص أهليته بطرق إحتيالية عن المتعاقد الآخر ثم تمسك بذلك لطلب إبطال العقد فإنه يجوز للمتعاقد الآخر المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه بسبب إبطال العقد (يكون من مصلحة ناقص طلب الإبطال لنقص أهليته طبقا لما هو وارد بنص المادة 103 من القانون المدني الذي لا يلزم ناقص الأهلية في حالة إبطال العقد برد إلا ما عاد عليه من نفع).
-
الفرع الثاني
خلو الإرادة من العيوب المواد من 81 الى 91 ق م
أولا: الغلط المواد 81 الى 85 من القانون المدني.
تنص المادة 81 من القانون المدني على أنه يجوز للمتعاقد الذي وقع في غلط جوهري وقت إبرام العقد أن يطلب إبطاله.
1- تعريف الغلط: يعرف الغلط على أنه وهم ذاتي يقوم في نفس وذهن المتعاقد يصور له الأمر على خلاف حقيقته ويدفعه إلى التعاقد كمن يشتري خاتما على أنه من ذهب فإذا به من معدن آخر، وكمن يؤجر منزله الأخر معتقدا بأنه متزوج فإذا به أعزب.
نتعرض لدراسة الغلط من منظور النظرية التقليدية، ومن منظور النظرية الحديثة، ثم لأحكام الغلط في القانون المدني الجزائري.
2- النظرية التقليدية في الغلط: يقسم الفقه التقليدي في ظل القانون الفرنسي القديم الغلط الى ثلاث مراتب غلط مانع، غلط مؤثر وغلط غير مؤثر.
أ- الغلط المانع: هو الغلط المعدم للتراضي بحيث لا يعيب الارادة فحسب بل يعدمها تماما وهو ما يجعل العقد باطلا بطلاناً مطلقاً لانعدام ركن التراضي، ويكون الغلط مانعا في الحالات الثلاث التالية:
الحالة الأولى: إذا وقع الغلط في طبيعة العقد كمن يدفع مبلغ من المال على أنه قرض ويعتقد متلقيه أنه هبة…...الخ.
الحالة الثانية: إذا وقع الغلط في ذاتية محل العقد كمن يبيع منزلاً معيناً من بين منزلين يملكهما ويعتقد المشتري أنه يشتري المنزل الآخر.
الحالة الثالثة: إذا وقع الغلط في سبب العقد كما لو تعهد الورثة بدفع مبلغ من المال اعتقادا منهم بأن مورثهم قد أوصى بذلك المبلغ في حين أنه لم يوص بذلك أو كانت الوصية باطلة أو رجع عنها.
ب- الغلط المؤثر (الذي يؤثر في صحة التراضي)
هذا النوع من الغلط على عكس سابقه، فهو لا يعدم التراضي إنمـا يعيبه بالتأثير في صحته. ومن ثم فانه لا يجعل العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً، بل يجعله قابل للإبطال لمصلحة الشخص الذي وقع فيه سواء أكان في صفة جوهرية في الشيء، أم كان في شخص المتعاقد الآخر ومن حالاته.
الحالة الأولى: الغلط في الصفة الجوهرية للشيء، ويقع الشخص في هذا الغلط، عندما يقوم بالتعاقد على شيء ظناً منه أن هذا الشيء تتوافر فيه الصفات الجوهرية التي يريدها، والدافعة له على التعاقد عليه. كمن يشتري تحفة على أنها أثرية وأصلية، ثم يتضح له أنها مقلدة وحديثة ليست أثرية. او كمن يشتري خاتماً على انه من ذهب ثم يتضح انه من معدن آخر مطليا فقط باللون الأصفر.
الحالة الثانية: الغلط في شخص المتعاقد أو في صفة من صفاته: ويقع الشخص في هذا الغلط عندما تكون شخصية المتعاقد أو أحد صفاتها، محل اعتبار في التعاقد. ومثال الغلط في الشخصية كمن يهب مالاً لشخص اعتقاداً منه إنه ابن صديقه، لاشتراكهما في اللقب ثم يتبين له عكس ذلك، ومثال الغلط في الصفة، كمن يهب كتابا لشخص يعتقد انه طالب فإذا به غير ذلك
الحالة الثالثة: الغلط الذي لا يعدم التراضي ولا يؤثر في صحته، هو ذلك الغلط الذي لا يعدم التراضي ولا يؤثر في صحته، وبالتالي لا يبطل العقد ولا يجعله قابلاً للإبطال، ومن أمثلته:
-الغلط في صفة غير جوهرية في الشيء محل العقد
-الغلط في شخصية المتعاقد أو صفة فيه عندما تكون شخصية المتعاقد الآخر ليست محل اعتبار عنده
نقد النظرية التقليدية في الغلط، وجه الفقه المعاصر النقد إلى هذه النظرية من ناحيتين هما:
- الغلط المانع: ليس من عيوب الارادة، لان الغلط المراد دراسته هو الذي يلحق التراضي بعد وجوده، فالحديث هنا عن العيوب التي أصابت التراضي وقت إنشاء العقد، ثم ظهرت بعد انعقاده، أما فكرة الغلط المانع، فهو معدم للتراضي لذا الواجب بحثه عند الحديث عن تطابق الارادتين.
- معيار الغلط المؤثر وغير المؤثر: أقامته هذه النظرية أسس مادية حسابية بين حالات الغلط، وجعلته مناط هذه التفرقة حيث أنها تنظر إلى الغلط في ذاته، دون النظر إلى الأثر المترتب عليه، والذي يحدثه في إرادة المتعاقد.
3- النظرية الحديثة في الغلط: هذه النظرية أهملت فكرة الغلط المانع للانتقادات السابقة، واتخذت من الغلط الجوهري والغلط غير الجوهري، معياراً للتفرقة بين الغلط المؤثر، وبين الغلط غير المؤثر. حيث أن الأول يترتب على التمسك به إمكانية إبطال العقد، وأن الثاني لا يؤثر في صحة العقد.
الغلط الجوهري أو الدافع للتعاقد، هو ذاك التوهم الذي يدفع المتعاقد إلى قبول التعاقد، بحيث لولاه ما كان ليقدم عليه.
الغلط غير الجوهري أو غير الدافع، هو الذي يقع فيه المتعاقد دون أن يكون هو الدافع إلى التعاقد، بمعنى أنه كان ليرضى العقد وبذات الشروط، حتى ولو لم يقع في الغلط.
فإذا ثبت أن الغلط كان هو الدافع إلى التعاقد، بحيث ما كان المتعاقد ليرضى العقد لو أنه لم يقع فيه، كان هذا الغلط جوهرياً، وجعل العقد قابلاً للإبطال مهما كانت نوع الغلط
أما إذا ثبت أن الغلط ليس هو الدافع للتعاقد، بأن كان المتعاقد سوف يقدم على التعاقد حتى ولو لم يقع فيه. فإن هذا الغلط غير جوهري وعليه يكون غير مؤثر على صحة العقد الذي تم.
وقد أخذ المشرع الجزائري بالنظرية الحديثة في الغلط وقسم الغلط الى جوهري وغير جوهري، ولا يجعل من العقد قابلا للإبطال الا إذا كان الغلط جوهريا بحيث بلغ حداً من الجسامة لولاه ما قبل المتعاقد الدخول في العقد او ما كان ليتعاقد بتلك الشروط، وفي هذا أخذُ بالمعيار الذاتي.
4 – شروط اعتبار الغلط عيب من عيوب الإرادة. حتى ينتج الغلط أثره القانوني، بأن يعطى للمتعاقد الواقع فيه الحق في طلب إبطال العقد، يجب أن يتوافر فيه شرطان هما:
1 -أن يكون الغلط جوهرياً.
2- أن يكون الغلط متصلاً بالمتعاقد الآخر.
الشرط الأول - أن يكون الغلط جوهرياً: ليس كل غلط يقع فيه المتعاقد، يعطيه الحق في طلب إبطال العقد، بل يجب أن يكون هذا الغلط جوهرياً. بأن يكون هو الذي دفع المتعاقد الغالب إلى التعاقد، بحيث إنه لولا وقوعه فيه لما أقدم على التعاقد، طبقا للمادة 82 من القانون المدني.
والعبرة فيما يعتبر غلطا جوهريا وما لا يعتبر كذلك، بما يراه المتعاقد الواقع في الغلط، وفي هذا يأخذ المشرع بالمعيار الذاتي، على أساس ان الغلط عيب يصيب الإرادة وهي مسألة ذاتية فلا يصح قياس صحتها من عدم ذلك إلا بمعيار ذاتي غير موضوعي.
كما ان المشرع لم يلجأ إلى التحديد المسبق للحالات التي يكون فيها الغلط جوهرياً وبالتالي يكون مؤثراً. واكتفي فقط بإعطاء أمثلة لما يعتبر غلطا جوهريا (على سبيل المثال لا الحصر)، طبقا للمادة 82الفقرة 02 03 من ق م ومن ذلك
الغلط في صفة جوهرية في الشيء محل التعاقد: فإذا أنصب الغلط على صفة في الشيء، وكانت هذه الصفة جوهرية بالنسبة إلى المتعاقدين أو أحدهما. بمعنى أن الاعتقاد في وجودها هو الدافع لهما أو لأيهما في إبرام العقد، كان هذا الخطأ جوهرياً، يعطى للمتعاقد الذي وقع فيه الحق في طلب إبطال هذا العقد، إذا توافر له شرطه الثاني.
الغلط في شخص المتعاقد: الغلط في شخص المتعاقد، لا يؤثر في صحة العقد، إلا إذا وقع في ذات المتعاقد أو في إحدى صفاته، وكانت تلك الذات أو الصفة هي الدافعة إلى التعاقد، بأن كانت محل اعتبار أساسي لدى المتعاقد الواقع في الغلط، وهذا يكون في عقود التبرع بوجه عام، وفي بعض عقود المعاوضة، كمن يهب مالا لمن يعتقد انه مسلم فاذا به غير ذلك او كمن يؤجر منزلا لمن يعتقد انه متزوج فاذا به غير ذلك وكانت هذه الصفة جوهرية
الغلط في القيمة: الغلط في القيمة لا يجعل العقد قابلا للإبطال الا إذا كان هو الدافع إلى التعاقد.
الشرط الثاني: أن يكون الغلط متصلاً بالمتعاقد الآخر
لا يكفي اعتبار الغلط جوهريا ليكون العقد قابلا للإبطال لأن هذا يؤدي إلى زعزعة الثقة في التعامل بين الناس وفيه أيضا حماية للمتعاقد الواقع في الغلط على حساب المتعاقد معه، لذلك اشترط المشرع أن يكون هذا الغلط الجوهري متصلاً بالمتعاقد الآخر حماية لكلا الطرفين ورغبة منه في استقرار التعامل بين الناس طبقا للمادة 85 ق م.
ويكون الغلط الجوهري متصلا بالمتعاقد الآخر في حالتين:
الحالة الأولى: الغلط المشترك، وهو الحالة التي يشترك فيها كل من العاقدين في الوقوع في نفس الغلط، كما لو اشترى شخص خاتما معتقداً انه من ذهب، وكان البائع يعتقد أيضا انه من ذهب، فكل من المتعاقدين قد وقع في الغلط، وهنا لكل من المشتري والبائع الحق في طلب ابطال البيع على شرط اثبات ان غلطه جوهري ما دام ان غلطه متصل بالمتعاقد الآخر.
الحالة الثانية: الغلط الفردي مع العلم به: يكون الغلط فردياً بأن يقع فيه أحد العاقدين دون الآخر، ولا يجعل من العقد قابلا للإبطال حتى ولو كان جوهريا، الا إذا كان المتعاقد الآخر يعلم بذلك، أي يعلم أن هذا الغلط هو الذي دفعه إلى التعاقد او كان من الفروض عليه حتما ان يعلم بذلك وفق مقتضيات حسن النية.
خلاصة: لا يُشترط في الغلط المشترك الا أن يكون جوهرياً
الغلط الفردي يشترط فيه ان يكون جوهريا وان يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر (اتصال علم)
5- انواع الغلط: ينقسم الغلط من حيث مدى جسامته الى غلط جوهري وغلط غير جوهري وقد بيناه من قبل، ومن حيث محل الغلط ينقسم الغلط الى غلط في الواقع وعلط في القانون.
الغلط في الواقع: هو الغلط الذي ينصب على أمر من أمور التعاقد ذاتها، كمادة الشيء محل التعاقد أو صفة من صفاته، وكشخص المتعاقد أو صفة من صفاته إذا كان محل اعتبار في التعاقد، والقيمة في التعاقد، والباعث عليه... الخ.
والغلط في الواقع يعطي الحق للواقع فيه في التمسك بإبطال العقد متى كان جوهرياً ومتصلاً بالمتعاقد الآخر.
الغلط في القانون: هو توهم قاعدة قانونية على خلاف حقيقتها او هو الغلط الذي ينصب على حكم القانون بالنسبة إلى أمر من أمور التعاقد، بأن يعتقد الطرفان أو أحدهما، أن القانون يقضى في ذاك الأمر بحكم معين، في حين أنه يقضى فيه بحكم مخالف. كمن يبيع نصيبه في التركة على انه يرث الثمن في حين انه يرث النصف.
والغلط في القانون كالغلط في الواقع يعطي للواقع فيه الحق في التمسك بإبطال العقد متى كان جوهرياً ومتصلاً بالمتعاقد الآخر ما لم يقضي القانون بغير ذلك ومن ذلك لا يجوز ابطال عقد الصلح للغلط في القانون حتى ولو كان جوهريا ومتصلاً بالمتعاقد الاخر طبق للمادة 465 ق م.
6- آثار الغلط
إذا توافر في الغلط شرطيه (الجوهرية والاتصال) أنتج أثره بإعطاء المتعاقد الواقع في الغلط إمكانية إبطال العقد، دون حقه في طلب التعويض عن الضرر الذي أصابه على أساس انه وقع في الغلط من تلقاء نفسه دون تدخل من المتعاقد الآخر.
غير أنه لا يجوز التمسك بإبطال العقد على وجه يتعارض مع مقتضيات حسن النية، فإذا عرض المتعاقد الآخر إصلاح الغلط وكان ذلك ممكناً، فليس للمتعاقد الواقع في الغلط الإصرار على التمسك بإبطال العقد فهو مقيد بعدم التعسف في استعمال الحق طبقا للمادة 85 من القانون المدني.
ثانيا: التـدلـيـس المادتان 86-87 من القانون المدني
1- تعريفه: التدليس هو "استعمال طرق احتيالية قصد إيقـاع المتعاقد الآخر في غلط جوهري يدفعه إلى التعاقد "
وعليه فالتدليس يتطلب أن يلجأ أحد المتعاقدين أو نائبه، إلى استعمال طرق احتيالية، بقصد إيقاع المتعاقد الآخر في غلط يدفعه إلى التعاقد. بحيث تكون هذه الطرق من الجسامة التي لولاها ما كان ليرضى إبرام العقد، وهو بهذا يشترك مع الغلط كونه جوهري يجعل العقد قابلاً للإبطال ويختلف عنه كونه بفعل المتعاقد معه او الغير خلافا للغلط الذي هو وهم ذاتي. لهذا يسمى التدليس أيضا بالتغليط
2-عنـاصـر التـدليـس: لقيام التدليس باعتباره أحد عيوب التراضي التي تؤثر في صحة العقد وتؤدي إلى إمكانية طلب إبطاله لمصلحة صاحب الإرادة المعيبة، يلزم أن يتوافر فيه عنصران هما:
الأول: عنصر المادي، وهو استعمال طرق احتيالية.
الثاني: العنصر المعنوي (القصد) وهو التغليط.
العنصر المادي: ويتمثل في استعمال طرق احتيالية، من طرف المُدلِس (المتعاقد أو نائبه)، فإذا استعمل أيهما طرق احتيالية بقصد التضليل للوصول إلى دفع المتعاقد الأخر (المُدلَس عليه) إلى التعاقد، كنا أمام تدليس
وهذه الطرق والوسائل الاحتيالية التي يلجأ إليها المدلِس للتأثير في ارادة المتعاقد المدلَس عليه. لا تقتصر عادة على الكذب، بل كثيراً ما يصاحب الكذب أعمال مادية تدعمه لإخفاء الحقيقة عن المتعاقد الآخر. ويشترط في هذه الأعمال، أن تكون كافية للتضليل حسب حالة كل متعاقد، لأن المعيار هنا ذاتي ينظر إليه من حيث تأثير التدليس على شخص المتعاقد المدلس عليه. ومثال ذلك، تقديم شهادة تثبت صلاحية المنتوج للاستهلاك البشري فاذا به غير ذلك.
هل يكفي السكوت لقيام التدليس؟
القاعدة حيث يلزم القانون أو الاتفاق أو طبيعة التعامل أو حتى ظروف التعاقد (وفقاً لمقتضيات حسن النية ونزاهة التعامل) الإفصاح وعدم السكوت، فإن سكوت المتعاقد عمدا عما يعد مؤثرا في العقد يعد تدليساً. كمن يخفي على شركة التأمين، خطراً يهدد أمواله المؤمَن عليها، وكمن لم يصرح بالمرض المزمن الذي يعاني منه في التامين على الحياة.
وعليه يعد السكوت تدليساً إذا توافرت الشروط الآتية:
1- أن يكون السكوت والكتمان هو الدافع للتعاقد.
2- أن يكون السكوت والكتمان عمديا، بأن تعمد وقصد إخفاء امر ما، وألا يكون المتعاقد الآخر قد علم بالأمر عن طريق آخر.
الثاني: العنصر المعنوي (القصد) وهو التغليط.
لاعتبار الفعل تدليس يلزم أن تقترن الطرق المادية بنية التضليل من المدلس أو نائبه. بأن تكون ممارسته للحيل غير المشروعة قانوناً لدفع المدلس عليه إلى قبول التعاقد الذي كان لا يقدم عليه لو علم حقيقة الأمر الذي تم إخفاءه عنه بواسطة هذه الحيل.
فإذا انعدمت نية التضليل بالرغم من توافر الطرق المادية، فلا يكون هناك تدليساً، كالتاجر الذي يبرز ما يعرضه في أحسن صورة، وهو لا يقصد التضليل بل يرغب في جلب الزبائن لا غير.
كما يجب ان يكون الفصد من استعمال الطرق الاحتيالية الحصول على مصلحة غير مشروعة وهي حصول الدلس على ما هو ليس من حقه بالتدليس.
3-شروط اعتبار التدليس عيب من عيوب الإرادة
لكي ينتج التدليس أثره، باعتباره عيب من عيوب الإرادة، يؤدى إلى إمكانية طلب إبطال العقد لمصلحة المتعاقد المدلس عليه، يشترط في التدليس بعد قيامه بعنصريه المادي والمعنوي ما يلي:
- أن يكون التدليس جوهريا دافعا للتعاقد (نفس ما قيل بالنسبة للغلط الجوهري)
- أن يكون متصلا بالمتعاقد الاخر، ويتحقق هذا إذا كان التدليس صادراً من أحد المتعاقدين أو نائبه فإن كان كذلك أنتج أثره بإعطاء المتعاقد المدلس عليه إمكانية طلب إبطال العقد.
أما التدليس الصادر من الغير، أي أن الذي قام بالتدليس ليس هو أحد المتعاقدين ولا نائباً لأحدهما. ففي هذه الحالة يجب التفرقة بين فرضين هما:
الفرض الأول: علم المتعاقد الذي وقع التدليس لصالحه، بما قام به الغير من تدليس، أو كان من المفروض أن يعلم به. ففي هذا الفرض، ينتج التدليس أثره، ويعطى صاحب الإرادة المعيبة (المدلس عليه) إمكانية طلب إبطال العقد طبقا للمادة 87 من القانون المدني.
الفرض الثاني: عدم علم المتعاقد الذي وقع التدليس لمصلحته بقيام الغير به على المتعاقد معه لدفعه إلى التعاقد، ولم يكن بوسعه العلم بذلك. أي انتفي بالنسبة إليه العلم الحقيقي والعلم المفترض. ففي هذا الفرض، بالرغم من عدم صحة تراضى أحد المتعاقدين، لعيب أصاب إرادته، ناجماً عن تدليساً دفعه إلى التعاقد، إلا أن هذا التدليس لا ينتج أثره. أي لا يعطى الطرف المدلس عليه إمكانية طلب إبطال العقد، لعدم اتصال التدليس بالمتعاقد الآخر، ولا يكون للمتعاقد الذي وقع ضحية تدليس الغير له إلا الرجوع على هذا الغير بدعوى التعويض، طبقاً لأحكام المسئولية التقصيرية، بإثبات الخطأ والضرر الناجم عنه.
4-أثر التدليس: يترتب على قيام التدليس بعنصريه المادي والمعنوي متى كان جوهريا ومتصلا بالمتعاقد الآخر، قابلية العقد للإبطال لمصلحة المتعاقد الذي تقرر البطلان لمصلحته وهو المدلس عليه، مع حقه في المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر وفقا لقواعد المسؤولية التقصيرية، ممن كان سببا في التدليس على اعتبار فعل التدليس عملا ًغير مشروع.
ثالثا: الإكــــــراه المادتان 88 و89 ق م
1- تعريفه: الاكراه ضغط وتهديد يسلط على الشخص فيبعث في نفسه رهبة تدفعه إلى التعاقد ".
وعلى ضوء هذا التعريف يتضح أن الإكراه ضغط نفسي تتأثر به إرادة الشخص، فيندفع إلى التعاقد مسلوباً منه حرية الاختيار. ومن ثم فإن الذي يفسد التراضي هنا، ليست هي الوسائل التي تستعمل في الإكراه، بل هي الرهبة التي تقع في نفس المتعاقد.
والإكراه يؤثر على حرية الشخص في الاختيار، لأنه إما أن يقبل التعاقد، وإما أن يتحمل الخطر الذي يهدده. ومن ثم فهو يختار أهون الضررين، إبرام العقد الذي لا يريده، أو تحمل نتائج الخطر المحدق به، كالتهديد بالضرب والقتل أو الاعتداء على العرض أو إفشاء السر أو اختطاف ...الخ
والإكراه بالمفهوم السابق يفسد التراضي لا يعدمه، فان ترتب عليه اعدام التراضي وقع العقد باطلا بطلانا مطلقا لانعدام التراضي وليس لوجود عيوب الإرادة كما لو تم الإمساك بيد المكرَه وبها القلم لإجباره على التوقيع على مستند يثبت التزامه بشيء للمكِره. ففي ذلك انتزاع الرضاء عنوةً لا رهبةً، مما يعدم التراضي، الذي هو ركن العقد الركين فيجعله معدوماً.
2- عناصر الاكراه: يقوم الاكراه على عنصرين أحدهما مادي يتمثل في استعمال وسائل الاكراه المختلفة والأخر معنوي يتمثل في القصد من استعمال وسائل الاكراه.
أ- العنصر المادي: ويتمثل في استعمال وسائل الضغط والتهديد التي من شأنها ان تزرع الرهبة في نفس المتعاقد فتدفعه للتعاقد، كالتهديد بالقتل والسرقة ...الخ. وكما يكون الاكراه بوسائل إيجابية قد يأتي بسلوك سلبي طالما ولد رهبة في نفس المتعاقد الآخر، كالزوجة التي تمتنع عن ارضاع ولدها حتى يعطيها زوجها مبلغ من المال خوفا على حياة ولده.
وعليه كل وسليه من شأنها زرع الرهبة والخوف في نفس المتعاقد الآخر تصلح لاعتبارها اكراها سواء كانت الوسيلة سلبية او ايجابية وسواء كانت الوسيلة مشروعة او غير مشروعة ...
ب- العنصر المعنوي: ويتمثل وجوب ان يكون القصد من استعمال وسائل الاكراه المختلفة هو بعث الرهبة والخوف في نفس المكره لدفعه الى التعاقد للحصول على مصلحة غير مشروعة (حصوله على ما هو ليس من حقه)، وعليه لا يعتبر اكراه تهديد الدائن للمدين بإعطائه اقراراً بالدين تحت طائلة الحجز على ممتلكاته لأن الهدف من هذا التهديد هو حصول الدائن على حقه (مصلحة مشروعة)، ومنه فالعبرة بمشروعية او عدم مشروعية النتيجة الوسيلة وليس بمشروعية او عدم مشروعية النتيجة.
3 - شـــروط الإكـــــراه: لاعتبار الاكراه القائم على عنصريه المادي والمعنوي عيباً من عيوب الإرادة يجعل العقد القائم بناءً عليه قابلا للإبطال يجب توافر الشرطيين التاليين.
1- أن يكون الإكراه جوهرياً دافعاً للتعاقد.
2- أن يكون الإكراه متصلاً بالمتعاقد الآخر.
الشرط الأول: أن يكون الإكراه جوهرياً دافعاً للتعاقد:
لا يقوم الاكراه الا بإثبات تولد من وسائل الاكراه الرهبة في نفس المتعاقد، وأن تكون هذه الرهبة هي الدافعة إلى التعاقد، بحث تصور له خطراً جسيماً يهدده أي تجعله يعتقد في وجوده. وليس من الضروري أن يكون هذا الخطـر موجـوداً في محققاً، طالما كانت الرهبة محققة.
والعبرة في تحديد ما إن كانت الرهبة بينة ام لا، أي ما ان كان الاكراه جوهرياً او غير ذلك بالمعيار الذاتي، وذلك بالنظر إلى حالة المتعاقد الشخصية، للتعرف إلى أي حد هو يتأثر بالرهبة والخوف، وتدخل في الاعتبار كل العوامل التي تكون من شأنها التأثير في نفسيته، من حيث الجنس والسن والحالة الاجتماعية والصحية، وكل ظرف أو حالة أخرى تؤدى إلى زيادة درجة الإحساس بالخطر الذي يهدده وهذا طبقا للمادة 88 الفقرة 03 من القانون المدني.
وخلاصة القول فيما سبق، فإنه يلزم، لكي يتوافر الإكراه، أن يتم التعاقد تحت سلطان رهبة قائمة حقيقة في نفس المتعاقد وأن تكون هذه الرهبة هي التي دفعته إلى التعاقد بحيث لولاها ما كان ليقدم على مثل ذلك، وتقوم الرهبة كلما كان من شأن الظروف المحيطة، أن تصور له بالفعل خطراً جسيماً، لا قبل له بدفعه، ولا سبيل له بتحمله، يهدده هـو أو غيـره في النفس أو العرض أو الشرف أو المال أو أي شيء آخـر طبقا للمادة 88 ق م.
الشرط الثاني - اتصال الإكراه بالمتعاقد الآخر: يلزم لكي يكون الإكراه منتجاً لأثره، بالإضافة إلى وجوب أن يكون جوهرياً أن يكون متصلا بالمتعاقد الآخر. ويعتبر الإكراه متصلاً به إذا وقع منه شخصياً أو وقع من الغير، متى كان على علم به أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بذلك طبقا للمادة 89ق م.
وبناءً على ذلك فإنه إذا وقع الإكراه من الغير بدون علم المتعاقد الآخر الذي تم الإكراه لصالحه، أو لم يكن من المفروض حتما أن يعلم به. فإن هذا الإكراه بالرغم من أنه قد أفسد التراضي لدى المتعاقد المكرَه، حيث حرمه من حرية الاختيار، إلا أنه لا يعطيه الحق في طلب إبطال العقد، لعدم اتصاله بالمتعاقد الآخر. وفي ذلك مراعاة لهذا الأخير حسن النية.
غير أن هذا الإكراه وإن كان لا يعطى من وقع فيه الحق في طلب إبطال العقد. إلا أنه يعطيه الحق في الرجوع على الغير، الذي مارس ضده وسائل الإكراه، بالتعويض طبقا لأحكام المسئولية التقصيرية، متى كان قد أصابه ضرر، سواء أكان هذا الضرر قد لحق به من وسائل الإكراه ذاتها، أم كان من إبرامه تعاقد لا يريده، أم كان يريده بشروط أفضل مما تم بها، أم كان قد أصابه ضرر من كل هذا.
4 - أثر الإكـــــــراه: متى توافرت الشروط سالفة الذكر، بأن كان التعاقد قد تم تحت سلطان الرهبة، وكانت هذه الرهبة هي الدافعة إلى التعاقد، مع اتصال ذلك بالمتعاقد الآخر. كنا بصدد إكراهاً منتجاً لآثاره، باعتباره أحد عيوب الإرادة، التي تعطى المتعاقد المكرَه إمكانية إبطال العقد. مع حقه في المطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر ممن كان سببا في الاكراه وفقا لقواعد المسؤولية التقصيرية على أساس ان الاكراه عملا غير مشروع.
تطبيقا لما تقدم هل يصح اعتبار النفوذ الأدبي وسيلة من وسائل الاكراه تجعل العقد القائم بناءً عليه قابلا للإبطال أم لا؟ كمن يتعاقد مع الاب او الامام او المعلم تحت تأثير نفوذ هؤلاء عليه.
إذا دخل الشخص في العقد تحت تأثير النفوذ الادبي الذي ولد في نفسه الشعور بالاحترام والتقدير كان العقد صحيحا لعدم وجود الرهبة والاكراه، اما إذا استغل الاب والامام والمعلم نفوذه الادبي على الآخر ليولد في نفسه رهبة تدفعه للتعاقد فان قبل الأخير التعاقد من باب الخوف من العقاب او التشهير اعتبر عندها النفوذ الادبي اكراها يجعل العقد القائم بناءً عليه قابلا للإبطال.
رابعاً: الاستغلال المادة 90 من القانون المدني
2- تعريفه: هو أن ينتهز شخص في شخص آخر ما غلب عليه من طيش بين او هوى جامح ليدفع للتعاقد بعقد يحوي غبناً فاحشاً.
يقوم الاستغلال على حالات الضعف النفسي التي تعتري الشخص (الطيش البين أو الهوى الجامح) والتي قد يستغلها فيه أحد المتعاقدين لدفعه للتعاقد بعقد يلحق به غبناً فاحشا، كمن يستغل حب الآخر الشديد له (هوى جامح) لدفعه لان يهب له مبلغ من المال.
والملاحظ أن المشرع في إدخاله الاستغلال كعيب من عيوب الإرادة طبقا للمادة 90 من القانون المدني، قد حصر حالة الضعف في نفس أحد العاقدين والتي استغلها العاقد الآخر في الطيش البين والهوى الجامح فقط دون الأسباب الأخرى كنقص الخبرة واستغلال الحاجة ...الخ
2 - شــــروط الاستغلال: يشترط في الاستغلال حتى يكون منتجاً لآثاره، بأن يجعل العقد قابلاً للإبطال لمصلحة صاحب الإرادة المعيبة، أن يقوم الاستغلال بعنصريه المادي والمعنوي:
العنصر المعنوي: الطيش البين او الهوى الجامح (أن يتم استغلال لضعف في نفس المتعاقد).
العنصر المادي: الغبن الفاحش (أن يترتب على الاستغلال اختلال التعادل المالي اختلالاً مفرطاً).
العنصر المعنوي: الطيش البين او الهوى الجامح
قوام الاستغلال وأساسه هو أن يعمد أحد المتعاقدين إلى الإفادة من مظاهر الضعف والنقص النفسي الذي يعتري المتعاقد الآخر، سواء أكانت طيشاً بيّناً، أم كان هوىً جامحاً، ليحصل منه على غنم باهظ، أو ليحمله بخسارة كبيرة.
والطيش البيّن، هو عدم الخبرة والاستهتار والاستهانة الشديدة بعواقب ما يقوم به، ومثاله الشاب الوارث الذي يعميه كثرة المال ويدفعه إلى التصرف فيه من غير حرص ولا تدقيق ولا وزن لعواقب هذا التصرف، فهو أقرب في ذلك من السفيه.
أما الهوى الجامح، فهو تلك الرغبة الجامحة نحو شخص معين أو شيء محدد، ومثاله الرجل الطاعن في السن الذي يتزوج بفتاة جميلة تسلب منه عقله وقلبه لتدفعه ليتصرف لها في بعض ماله أو كله في شكل هبة أو غيرها.
ولا يكفي لتوافر حالة الاستغلال، وجود الطيش البين أو الهوى الجامح بل يجب فوق ذلك أن يستغل أحد العاقدين ذلك في المتعاقد الآخر، وأن يكون هذا الاستغلال هو الدافع إلى التعاقد. بمعنى أن يكون هو الذي حمل الضحية على ارتضاء التعاقد، بحيث ما كان لا يرتضيه على هذا النحو لولاه.
العنصر المادي: الغبن الفاحش
ويتمثل في عدم التعادل الفاحش بين ما يتحمله الطرف المغبون من التزامات وبين ما يحصل عليه من حقوق، بحيث لا يتناسب غرمه مع غنمه طبقا للمادة 90 من القانون المدني.
ومن ثم فإن عدم التناسب بين الحقوق وبين الالتزامات، هو الغبن الذي يعد المظهر المادي للاستغلال. وعندئذ فإنه يكون أكثر وضوحاً في المعاوضات وبصفة خاصة في العقود المحددة غير الاحتمالية ففي عقد البيع مثلا، يكون عدم التناسب بين قيمة المبيع وبين الثمن الذي حصل عليه البائع، كما إذا استغل شخص طيشاً بيّناً في آخر وحمله على أن يبيع له سيارته التي تبلغ قيمتها 100مليون سنتيم 50 مليون سنتيم فقط.
والملاحظ طبقا للمادة 90 ق م ان المشرع لم يحدد مقدار ما يعتبر غبناً فاحشاً وما لا يعتبر كذلك وتركه للسلطة التقديرية للقاضي.
والعبرة في تقدير وجود الغبن من عدمه بالنظر في قيمة ما يلتزم به وما يحصل عليه كل متعاقد خاصة المغبون ضحية الاستغلال وقت انعقاد العقد لا قبل ذلك ولا بعده.
3- أثـر الاستغلال: متى قام الاستغلال بعنصريه المادي والمعنوي أنتج أثـره باعتباره أحد عيوب التراضي، فيجعل من العقد القائم بناءً عليه قابلا للإبطال لمصلحة من كان ضحية الاستغلال،
وقد اعطى المشرع للقاضي بناءً على طلب المتعاقد المغبون ضحية الاستغلال ان يحكم بالإنقاص من الالتزامات إلى الحد المعقول، أو إبطال العقد المادة 90 ق م.
تبعا لما تقدم نجد أن الاستغلال يمنح المغبون، الخيار بين أمرين:
الأمر الأول: المطالبة بإنقاص الالتزامات، للمتعاقد المغبون الحق في المطالبة بإنقاص التزاماته إذا كان الاستغلال هو الذي دفعه إلى قبول التعاقد بشروط مجحفة قاسية ما كان ليقبل بها لولا استغلال المتعاقد الآخر له. ويجوز للقاضي الحكم بإنقاص التزاماته، متى كان ذلك كافياً لرفع الغبن الفاحش دون ان يكون له الحق في الحكم بالبطلان حتى لا يحكم بأكثر مما يطلبه الخصوم.
الأمر الثاني: المطالبة بإبطال العقد، للمتعاقد المغبون -أيضاً- أن يطلب من القاضي، إبطال العقد، إذا رأي أن في ذلك ما يحقق مصلحته، وبذلك يتخلص نهائياً من هذا العقد، وفي هذه الحالة يجوز للقاضي أن يستجيب لطلبه ويحكم بالبطلان، وله ألا يستجيب له ويحكم بإنقاص التزاماته، إذا رأي أن في ذلك ما يكفي لرفع الغبن عنه (أي ان للقاضي هنا سلطة تقديرية بين الحكم بالبطلان او الحكم بالإنقاص).
يمكن للمتعاقد معه توقي وتحاشي الابطال خاصة في عقود المعاوضة إذا أبدى استعداه لتقديم ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن، عندها تزول عن القاضي سلطة الحكم بالإبطال.
4 - سقوط دعوى الاستغلال: طبقا للمادة 90 الفقرة 02 من القانون المدني تسقط دعوى الاستغلال بمرور سنة كاملة من تاريخ إبرام العقد، ومدة السنة هنا تعد مهلة سقوط وليست مدة تقادم فلا تقبل الوقف ولا الانقطاع.
ملاحظة: يجب التمييز بين دعوى الاستغلال ودعوى الغبن كما يلي:
1 دعوى الاستغلال تقوم على عنصرين هما الطيش البين أو الهوى الجامح والغبن الفاحش
دعوى الغبن لا يشترط فيها الا وجود الغبن الفاحش.
2 دعوى الاستغلال دعوى ابطال للعقد، بينما دعوى الغبن فهي دعوى نقض القسمة بالنسبة لعقد القسمة، ودعوى تكملة الثمن الى أربع اخماس ثمن المثل في عقد بيع العقار.
3 مقدار الغبن الفاحش غير محدد في دعوى الاستغلال ومتروك للسلطة التقديرية للقاضي، ومقداره في دعوى الغبن بما زاد عن الخمس.
4 الغبن عيب في العقد لا في الإرادة بينما الاستغلال عيب في الإرادة.
5 تسقط دعوى الاستغلال بمرور سنة من تاريخ ابرام العقد اما دعوى الغبن فتسقط بمرور ثلاث سنوات في بيع العقار طبقا للمادة 359 ق م، وبمرور سنة في عقد القسمة م 732/02 ق م.
6 دعوى الاستغلال دعوى عامة يطعن بها في جميع العقود ولمصلحة كل من وقع ضحية الاستغلال.
دعوى الغبن دعوى خاصة لا يطعن بها الا في عقود خاصة وبنص خاص ولحماية أحد المتعادين دون الآخر، فهي مقررة قي بيع العقار (لمصلحة البائع فقط) م 357 ق م، وفي عقد القسمة م 732 ق م.
-
-
المبحث الثاني
المحــــل المواد من 91 الى 96 من القانون المدني
سبق القول بأن للعقد ثلاثة أركان، لا وجود له بدونها، وهي التراضي والمحل والسبب. وبعد دراسة ركن التراضي نشرع في البحث في ركن المحل.
وإذا قام التراضي وكان صحيحاً، قام معه العقد كأحد مصادر الالتزام. ولما كان العقد ينشئ التزامات في ذمة كل من طرفيـه أو في ذمة أحدهما، وكان الالتزام يرد على أمر معين يلتزم المدين بأدائه للدائن. فإن هذا الأمر هو الذي يطلق عليه محـل الالـتزام الناشئ عن العقد. فعقد البيع، مثلاً، ينشئ التزامات في ذمة كل من البائع والمشترى، فالبائع يلتزم بنقل ملكية الشيء المبيع إلى المشتري الذي يلتزم -بدوره- بدفع الثمن، فالتزام البائع محله نقل الملكية المبيع، والتزام المشتري محله الوفاء بالثمن.
ولقد اختلف الفقه في ركنية المحل، هل هو ركن في الالتزام؟ أم أنه ركن في العقد المنشئ للالتزام؟ فالبعض يرى أنه ركن في الالتزام، والبعض الآخر يرى أن لكل من الالتزام والعقد محل يختلف عن الآخر. والملاحظ بشأن موقف المشرع الجزائري انه تحدث في تبويب القانون المدني عن محل العقد، غير انه في ثنايا المواد المنضمة للمحل لم يتكلم الا على محل الالتزام.
وحسب الأستاذ صبري السعدي فان محل العقد يتمثل في العملية القانونية التي يسعى المتعاقدان الى تحقيقها من وراء ابرام العقد (عملية بيع أو ايجار أو هبة...الخ)، اما محل الالتزام فيتمثل في ذلك الأداء الذي يلتزم به المدين اتجاه الدائن.
تعريفه: يعرف المحل على انه، ذلك الأداء الذي يلتزم به المدين اتجاه الدائن. وعلى هذا يتنوع محل الالتزام تبعاً لنوع الالتزام الناشئ عن التصرف القانوني على ثلاث أنواع:
- الالتزام بالإعطاء: وهو الالتزام بإنشاء أو نقل الحق العيني على المنقول أو على العقار من شخص (المدين) إلى آخر (الدائن). كالتزام البائع في عقد البيع بنقل ملكية الشيء المبيع إلى المشترى هو التزام بنقل الحق العيني المتمثل في حق الملكية.
- الالتزام بالأداء (عمل): هو التزام المدين بأداء عمل معين لحساب الدائن. كالتزام المقاول في عقد المقاولة، بإقامة بناء أو تعبيد طريق وهو هنا عمل مادي. وكالتزام العامل في عقد العمل بأداء العمل المكلف به من قبل رب العمل وتحت إشرافه. والتزام المحامي محله القيام بعمل قانوني يتمثل قي رفع دعوى وتقديم طعن.
- الالتزام بالامتناع: هو امتناع المدين عن القيام بعمل محدد، كالتزام العامل والطبيب والمحامي بعدم إفـشاء سر المهنة، وكالتزام العامل بعدم منافـسة صاحب العمل.
شروطه: يشترط فيما يلتزم به المدين، لكي يكون محلاً للالتزام فيكون العقد الناشئ عنه صحيحا، أن تتوافر فيه الشروط الآتية:
- أن يكون المحل ممكناً (موجوداً أو قابلاً للوجود مستقبلاً).
- أن يكون المحل معيناً أو قابلاً للتعيين مستقبلاً.
- أن يكون المحل مشروعاً قابلا للتعامل فيه.
الشرط الأول: يجب ان يكون المحل ممكناً (موجودً أو القابل للوجود مستقبلاً)، أول ما يشترط في محل الالتزام ان يكون الوفاء به ممكنا، ولا يكون هذا الوفاء ممكنا إذا تعلق المحل بشيء من الأشياء إلا إذا كان موجوداً عند قيام الالتزام او كان قابلا للوجود مستقيلاً، وعليه نميز بين المحل الممكن والمحل الموجود او القابل للوجود مستقبلا.
1-المحل الممكن: إذا كان الأمر الذي يلتزم به المدين هـو أداءً لعمل معين أو امتناعاً عنه، فيجب أن يكون هذا الأداء أو الامتناع ممكناً، وألا يكون مستحيلاً. لأنه لا التزام بمستحيل، والاستحالة التي تحول دون قيام الالتزام، هي الاستحالة المطلقة وليست الاستحالة النسبية.
الاستحالة المطلقة: هي تلك التي تلحق الالتزام ذاته، فتجعل الوفاء به مستحيلاً.
ويقصد بالاستحالة التي من شأنها أن تحول دون وجود الالتزام، الاستحالة الموضوعية، أي استحالة محـل الالتزام في ذاتـه فتجعل من الوفاء بالالتزام مستحيلا بالنسبة للمدين وغيره من الناس، وليست الاستحالة الشخصية أو الذاتية، أي التي تتعلق بشخص المدين ذاته.
والاستحالة مطلقة، إما طبيعية أو قانونية:
- الاستحالة الطبيعية أو المادية: هي التي ترجع إلى طبيعة المحل التي تأبى أن تكون محلاً للالتزام، كالتزام شخص بالامتناع عن عمل هو قد قام به فعلاً، وكالتزام شخص بنقل ملكية منزلاً صالحاً للسكنى، في حين أنه كان قد تهدم وزال.
- الاستحالة القانونية هي التي ترجع إلى حكم القانون، كالتزام محام باستئناف حكم قضائي لا يجوز الاستئناف فيه، أو انقضت مواعيد ذلك.
ويشترط في الاستحالة المطلقة التي تحول دون قيام الالتزام، وبالتالي تجعل العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً، أن تكون قائمة وقت إبرام العقـد، (بأن تكون سابقة أو معاصرة لانعقاد العقد وليست لاحقة له)، فإن قامت بعد انعقاد العقد، فإن ذلك لا يمنع من وجود الالتزام الذي ينعقد به العقد صحيحاً، غير أن الأمر ينتقل من استحالة قيام الالتزام إلى استحالة تنفيذ الالتزام، مما يترتب عنه انفساخ العقد.
تبعا لما تقدم نميز بين استحالة قيام الالتزام واستحالة تنفيذه:
- استحالة قيام الالتزام، سابقة أو معاصرة لوقت إبرام العقد، وتحول دون قيام العقد ووجود الالتزام. وبناء على ذلك فإن العقد يقع باطلاً بطلاناً مطلقاً.
- استحالة تنفيذ الالتزام، وهي لاحقة لانعقاد العقـد ونشـوء الالتزام، ولكنها أصابت تنفيذ الالتزام لا وجوده. ومن ثم فإن ذمة المدين قد شغلت به ولا تبرأ إلا إذا استطاع إثبات أنه لا يد له في استحالة التنفيذ، فإذا تمكن من إقامة الدليل على ذلك، انقضى الالتزام وانفسخ العقد من تلقاء نفسه، وإذا فشل في الإثبات انفسخ العقد والتزم المدين بالتعويض.
الاستحالة النسبية: هذه الاستحالة هي التي ترجع إلى شخص المدين لا إلى الالتزام في ذاته، فهي التي تقوم بالنسبة إلى المدين نفسه بمراعاة ظروفه الخاصة. فإذا استحال على المدين الوفاء بالأمر الذي التزم به، مـع وجود شخص آخر يمكنه الوفاء به كانت هذه الاستحالة نسبية تتعلق بشخص المدين لا بغيره. ومثال ذلك أن يلتزم شخص بعلاج مريض، مع كونه ليس بطبيب، أو أن يلتزم شخص بنقل ملكية الشيء المبيع مع كونه ليس مالكاً له. فهنا يستحيل على المدين الوفاء بالتزامه مع وجود شخص آخر يستطيع القيام به، ولذلك تكون الاستحالة - هنا - ذاتية نسبية، وليست موضوعية مطلقة.
والاستحالة النسبية سواء أكانت سابقة على انعقاد العقد أو لاحقة له لا تمنع من قيـام العقد ووجود الالتزام. فإذا امتنع المدين عن الوفاء كان للدائن أن يلجأ إلى التنفيذ العيني، أو أن يلجأ إلى التنفيذ بمقابل عن طريق التعويض، مع عدم الإخلال بحقه في طلب فسخ العقد.
2 - المحل الموجود:
إذا كان الأمر الذي يلتزم به المدين هو نقل حق عيني أو شخصي، أو كان عملاً يتعلق بشيء معين، وجب أن يكون الشيء محل الحق أو الذي يتعلق به العمل موجوداً. ويتحقق هذا الوجود إذا كان الشيء موجوداً وقت انعقاد العقد ونشوء الالتزام، أو كان قابلاً للوجود في المستقبل.
أ- الشيء الموجود: إذا تعاقد الطرفان على اعتبار أن الشيء محل الالتزام موجوداً في وقت التعاقد، فإن عدم وجوده في هذا الوقت، يترتب عليه عدم قيام الالتزام. حتى لو أمكن وجوده في المستقبل، فالعبرة -هنا- بما قصده العاقدان فإذا كانا قد قصدا وجوده عند إبرام العقد، فيجب لانعقاد العقد صحيحاً وجوده في هذا الوقت لا في وقت آخر.
وقد يوجد الشيء محل الالتزام لحظة انعقاد العقد، ولكنه هلك بعد ذلك، فهذا الهلاك لا يحول دون قيام الالتزام صحيحاً وينعقد به العقد لأن الهلاك لاحقـاً على انعقاد العقد ونشأة الالتزام. غير انه يؤدي الى زوال العقد ومن ثم الالتزام بالفسخ او الانفساخ مع او دون تعويض بحسب سبب الاستحالة ومدى مساهمة المدين في ذلك. ومن ذلك لا يلتزم المدين بالتعويض إذا أثبت أنه لا يد له في استحالة التنفيذ وأن هناك سبباً أجنبياً هو الذي أدى إلى هذه الاستحالة. وإذا فشل في إقامة الدليل على ذلك وقع على كاهله الالتزام بالتعويض.
ب - الشيء القابل للوجود في المستقبل: إذا أتفق العاقدان على اعتبار أن الشيء محل الالتزام ليس موجوداً وقت إبرام العقد، ولكنه قابلاً للوجود في المستقبل. فإن قابلية الشيء للوجود كافية لقيام العقد صحيحاً ومنشئة للالتزام في ذمة المدين. ومن ذلك بيع مسكن قبل الإنجاز او ما يسمى بالبيع بناءً على التصاميم وبيع المحصول قبل ان يكتمل نموه. [المادة (131) مدنى ].
ويشترط في الشيء محل الالتزام، القابل للوجود في المستقبل، أن يكون محقق الوجود في الأجل الذي ضربه الطرفان عند التعاقد صراحة أو ضمناً، فإذا لم يتحقق وجود الشيء محل الالتزام في الأجل المحدد له صراحة أو ضمنياً انقضى التزام المـدين وانفسخ العقد إن كان ملزماً للجانبين. ويستثنى من ذلك العقود الاحتمالية، كعقد التأمـين، مثلاً، فإن هذا العقد صحيح سواء وجد الشيء في المستقبل أو لم يوجد لأن جوهر العقد الرهان على وجود محل الالتزام كماً وكيفاً.
حكم التعامل في التركة المستقبلة ؟
إذا كان الأصل وجوب وجود محل الالتزام وقت نشوء الالتزام وقيام العقد والاستثناء جواز التعامل في الاشياء المستقبلية بإباحة ان يكون محل الالتزام قابل للوجود في المستقبل، فإن المشرع استثنى أموال التركة من الأشياء المستقبلية وافردها بحكم خاص طبقا للمادة 92 الفقرة 02 من القانون المدني.
فالمشرع يمنع التعامل في أموال التركة المستقبلة. ومفاد هذا التحريم أنه لا يجوز للوارث أو الموصى له بنصيب في التركة أن يجرى أي نوع من التصرفات في شأن هذه التركة طالما أن المورث أو الموصى لازال على قيد الحياة. والتعامل المحظور هو الذي يجرى قبل الوفاة، على أن يتم تنفيذه بعد الوفاة. كما لو كان تصرف مقترن بشرط واقف هو وفاة المورث أو الموصى.
وعليه لا يجوز التعامل في التركة إلا باعتبارها أموال حاضرة (هذا رجوع للأصل) عند وفاة صاحبها وممن لهم الحق فيها.
ولفظ التركة يطلق على مجموع ما يتركه الإنسان عند وفاته من حقوق وديون، وهذه التركة لا يكون لها وجود إلا من لحظة وفاة صاحبها (المورث أو الموصى) أما قبل ذلك فتعد تركة مستقبلة يحظر التعامل فيها من غير صاحبها. كتصرف الابن فيما يعتقد أنه سيؤول اليه بالميراث.
وعلة تحريم التعامل في التركة واستثنائها في الحكم من الأموال المستقبلية تكمن فيما يلي:
ü التعامل في هذه التركة فيه مضاربة على حياة صاحبها (المورث أو الموصى). فقد يدفع إباحة هذا النوع من التعامل، إلى قتل صاحبها تعجيلا بحصول المورث او الموصى له على حقه.
ü منع المتعامل في التركة المستقبلة وهو الوارث أو الموصى له، من استغلال الغير له نظراً لحاجته للمال وعدم تقديره له خاصة وأنه لم يقع بيده بعد مما قد يدفعه للتضحية والتهاون والتصرف برعونة وعدم التدبر.
ولا ريب أن تحريم التعامل في التركة المستقبلة، حكماً عاماً، سواء كانت أموال التركة ستؤول إلى المتعامل فيها، عن طريق الميراث، أم كانت ستؤول بواسطة الوصية. وسواء كان التعامل فيها بالبيع، أم كان بأي نوع من التصرفات الأخرى. فأي تعامل في تركة مستقبلة، يقع باطلاً لتعلق هذا الحكم بالنظام العام. ومن ثم فإنه يجوز لكل ذي مصلحة التمسك بهذا البطلان، كما يجوز للمحكمة أن تقضى به من تلقاء نفسها.
الشرط الثاني: يجب أن يكوم محل الإلتزام معيناً أو قابلاً للتعيين: إذا كان يشترط في المحل أن يكون ممكناً أو موجوداً أو قابلاً للوجود، حتى يكون قابلا للتنفيذ، فإن هذا لا يتحقق ولا يمنع التنازع بين الدائن والمدين، إلا إذا كان هذا المحل معيناً أو قابلاً للتعيين طبقا للمادة 93 من القانون المدني التي تنص.
وكيفية تعيين محل الالتزام تختلف باختلاف محل الالتزام كما يلي:
1- تعيين محل الالتزام إذا كان أداءً لعمل معين أو امتناعاً عنه
إذا كان محل التزام المدين هو القيام بعمل أو الامتناع عنه، وجب أن يكون هذا الأداء أو الامتناع معيناً أو -على الأقل- أن يكون قابلاً للتعيين وفقاً لأسس متفق عليها بين طرفي العقد، حتى يتسنى للمدين معرفة ما يجب عليه الوفاء به، ويتسنى للدائن التحقق من حصول هذا الوفاء، وفقاً لما تم الاتفاق عليه. فإذا تعهد مقاول ببناء مستشفى أو مدرسة فالتزامه يتعين محله بالمخططات وبالمواصفات والتصاميم المتفق عليها.
وإذا لم يكن محل الالتزام معيناً وقت التعاقد، وجب على الأقل أن يكون قابلاً للتعيين مستقبلا من خلال الظروف الملابسة للتعاقد والتي يمكن استخلاصها من نية طرفي العقد. كالاتفاق على انجاز ملعب وفق المخطط الذي سيحدده مستقيلا المهندس الفلاني، وأما إذا كان هذا المحل غير محدد تحديداً كافياً ونافياً للجهالة الفاحشة. وليس قابلاً للتحديد، وقع هذا العقد باطلا.
2- تعيين محل الالتزام إذا كان إعطاءً لحق عيني على شيء
إذا كان محل التزام المدين، هو نقل حق عيني على شيء، وجب أن يكون الشيء معيناً أو قابلاً للتعيين. وهنا يجب التفرقة بين الأشياء المعينة بذاتها (الأشياء القيمية) وبين الأشياء المعينة بنوعها (الأشياء المثلية).
أ- الأشياء القيمية (المعينة بالذات): وهي الأشياء التي تتفاوت آحادها في القيمة تفاوتاً يعتد به، فلا يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء، كالعقارات والحيوانات، الخضر والفواكه وكل شيء ينظر فيه إلى صفته الذاتية التي تميزه عن غيره، كالحيوانات، والمنازل، والسيارات.
ومن ثم فإنه يجب تعيين مثل هذه الأشياء باعتبارها محلاً للالتزام والعقد بتحديد جميع بصفاتها الذاتية المميزة لها عن غيرها، تعييناً كافياً ونافياً للجهالة الفاحشة. بشكل يحول دون الخلط بينها وبين غيرها، لذلك تسمى بالأشياء المعينة بالذات بالنظر لطريقة وكيفية تعيينها.
ب - الأشياء المثلية (المعينة بالنوع): وهي الأشياء التي - في الغالب - لا تتفاوت آحادها في القيمة تفاوتاً يعتد به، فهي متماثلة في القيمة فيقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء، كالنقود والذهب والفضة والقمح والأرز، فهذه الأشياء يجب أن تعين بنوعها ومقدارها ودرجة جودتها (ان كانت متعددة درجات الجودة).
وتعين الأشياء المثلية يكون بــــتعيين جنسها ونوعها ومقدار ودرجة جودتها، مثل بيع 100 قنطار من القمح اللين، فالقمح جنس واللين نوع و100 قنطار مقدار.
وطبقا للمادة 94 من ق م يجب وجوبا بالنسبة للأشياء المثلية تعيين الجنس والنوع والمقدار وإلا تخلف شرط التعيين، مما يجعل من العقد باطلا بطلانا مطلقا، إلا إذا تضمن العقد ما يستطاع به تعيين المقدار، اما بالنسبة لدرجة الجودة فان عدم تحديدها لا يترتب عليه تخلف شرط التعيين حيث يتم تعيينه إنطلافا من العرف وظروف التعاقد أو أي ظرف آخر، وإذا تعذر ذلك تم إلزام المدين بالصنف المتوسط لا الأجود ولا الأقل جودة.
وإذا لم يحدد في العقد مقدار الشيء من حيث العدد او الوزن او المساحة وجب على الأقل ان يتضمن العقد ما يستطاع به تعيين هذا المقدار، والا وقع العقد باطلا بطلانا مطلقا، كما في بيع الاسمنت اللازم لبناء منزل بأربع غرف، فمقدار المبيع (الاسمنت) وان لم يكن محدد في العقد وقت التعاقد فهو قابل للتعيين بناءً على معيار معين وقت التعاقد.
3 - تعيين محل الالتزام إذا كان نقوداً: إذا كان محل التزام المدين هو الوفاء بمبلغ من النقود وجب أن يكون هذا المبلغ المطلوب الوفاء به، معيناً بنوعه ومقداره. فيلتزم المدين، مثلاً، أن يؤدي للدائن مبلغاً محدداً من نوع العملة الملتزم الوفاء به، كالدينار الجزائري أو الدولار الأمريكي....... الخ
والملاحظ ان المشرع الجزائري اشترط
الشرط الثالث: يجب ان يكون المحل مشروعاً قابلا للتعامل فيه: إذا توافرت فيما يلتزم به المدين الشرطين السابقين، فإنه لا يصبح زيادة عن ذلك ان يكون محلاً للالتزام إلا إذا كان قابلاً للتعامل فيه، بأن يكون مشروعاً، أي جائزاً قانوناً.
ويكون محل الالتزام مشروعاً إذا لم يكن مخالفاً للنظام العام والآداب المادة 93 من القانون المدني
ويعتبر المحل غير مشروع، إذا كان محل التزام المدين هو نقل حق عيني على شيء خارج عن دائرة التعامل بطبيعته، أو بحكم القانون
والأشياء الخارجة عن دائرة التعامل بطبيعتها: هي الأشياء التي تأبى طبيعتها أن يستأثر شخص بحيازتها دون غيره. ومن أمثلة الأشياء التي لا يستطيع الشخص أن يستأثر بحيازتها - في الغالب - كأشعة الشمس والهواء وماء البحر، هذا ما لم يتم حيازة جزء منها.
والأشياء الخارجة عن دائرة التعامل بحكم القانون: هي الأشياء التي لا تأبى طبيعتها الاستئثار بحيازتها، فمثل هذه الأشياء يمكن حيازتها. غير أن القانون أخرجها من دائرة التعامل مراعاة للغرض الذي خصصت من أجله، كالأشياء والأموال العامة المملوكة للدولة والتي لا يجوز لأي شخص التصرف فيها أو الحجز عليها أو تملكها بالتقادم وكذلك الأملاك الوقفية[1]
أو أن التعامل فيها يؤدى إلى الإضرار بالمجتمع، كالأشياء التي اخرجها المشرع من دائرة التعامل لخطورتها ولما تمثله من تهديد للنظام العام كالمخدرات والأسلحة، فهذه الأشياء تكون غير قابلة للتعامل فيها، إلا في حالات محددة بنص القانون.
وإذا كان محل التزام المدين هو أداءً لعمل، أو امتناعاً عنه، يكون هذا المحل غير مشروع إذا كان أداؤه أو الامتناع عنه يخالف النظام العام أو الآداب كالقتل والضرب والجرح وإتلاف أموال الغير...الخ.
ومناط مشروعية محل الالتزام، أو عدم مشروعيته، هو موافقته للقانون والنظام العام وحسن الآداب، أو مخالفته لهما أو لأيهما. لأن محل الالتزام الذي لا يتعارض مع القانون ولا مع النظام العام وحسن الآداب في المجتمع، يكون مشروعاً، وينعقد عليه العقد صحيحاً. أما إذا كان المحل مخالفاً للقانون أو متعارضاً مع النظام العام الآداب العامة، وقع غير مشروع، وبطل العقد الذي انعقد عليه.
[1] - إخراجها من دائرة التعامل لا يمنع من أن ترخص الدولة للأفراد باستعمال هذه الأشياء بشكل لا يتعارض مع الغرض المخصصة له.
-
المبحث الثالث
الســبب (المادتان 97 و98 من القانون المدني)
إذا كان يلزم لقيام العقد، باعتباره أحد مصادر الالتزام، أن يتم تطابق الارادتين وهو ما يعرف بالتراضي، وأن يرد هذا التراضي على محل تتوافر فيه شروطه سالفة الذكر. فإن هذا العقد لا يتأكد قيامه إلا إذا استند إلى سبب وركن مشروع، وعندئذ فقط تكتمل الأركان العامة للعقد.
تعريف السبب: يعرف السبب بانه “الباعث الدافع للمدين للتعاقد وقبول التحمل بالالتزام " أو هو " الغاية التي ابتغاها المدين من التزامه " أو هـو الإجابة على سؤال " لما التزم المدين؟ ".
فالمدين عندما يقبل أن يثقل كاهله بالتزام معين فإنه يستجيب بذلك لباعث يدفعه، أو لغاية يرجوها، أو لغرض يحدوه. ويطلق على هذا أو ذاك لفظ ومصطلح " السبب ". فالمؤجر، مثلاً، يلتزم بتسليم العين المؤجرة للمستأجر الذي يلتزم بدوره بدفع الأجرة، رغبة من الأول في الحصول على الأجرة، ورغبة من الثاني في تحصيل منفعة العين المؤجرة، والبائع ينقل الملكية رغبةً قي الثمن والمشتري يدفع الثمن رغبة في الشيء المبيع.
ويختلف المحل عن السبب فيما يلي:
فالأول (المحل) هو الأمر الذي يلتزم به المدين، أي الأمر الذي إن أداه إلى الدائن برأت ذمته، أو هو الإجابة عن السؤال: بماذا التزم المدين؟
والثاني (السبب) هو الغاية التي يسعى المدين إلى تحقيقها من التزامه أو هو الإجابة عن السؤال: لماذا التزم المدين؟
وتجدر الإشارة أن لكل التزام محل أياً كان مصدره، سواء أكان تصرفاً قانونياً (العقد أو الإرادة المنفردة)، أم كان واقعة قانونية (القانون، العمل غير المشروع والاثراء بلاسبب). في حين أن السبب لا يكون إلا في التصرف القانوني، أي في الالتزامات الإرادية دون الالتزامات اللاإرادية.
وعليه فالسبب كركن في التصرف القانوني دون سواه، ذا صلة وثيقة بالإرادة، فهو الغاية أو الغرض الذي تتجه الإرادة إلى تحقيقه من تحملها للالتزام، حتى قيل إنه حيث توجد الإرادة يوجد السبب. ولا تتصور إرادة لا تتجه إلى سبب، إلا إذا صدرت عن غير وعى، كحالة الجنون.
تطور فكرة السبب: رأينا أن هناك علاقة وثيقة بين الإرادة والسبب، فمتى وجدت الأولى وجد الثاني تبعاً لها. وقد عرفت فكرة السبب تطورا ملازما لتطور الإرادة وهذا ما نبينه تباعاً:
النظرية التقليدية في السبب
تميز هذه النظرية بين ثلاثة أنواع من السبب كالآتي:
أ- السبب المنشئ: هو المصدر القانوني المنشئ للالتزام، أي مصدر وجود الالتزام وقيامه، كالعقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع، الإثراء بلاسبب والقانون. والسبب بهذا المفهوم ليس هو المقصود في دراستنا للسبب كركن في الالتزام
ب - السبب القصدي (المباشر): هو الغاية المباشرة التي يرغب المدين الوصول إليها من التزامه. والسبب بهذا المعنى هو محور النظرية التقليدية، وهو في حقيقته ركن في الالتزام، أي سبب الالتزام. فسبب التزام البائع بنقل حق ملكية الشيء المبيع للمشترى هو الحصول منه على الثمن، وسبب التزام المشترى بالوفاء بالثمن هو الحصول على الشيء المبيع. لأن سبب التزام كل منهما هو محل التزام الآخر، وهو بهذا لا يتغير في كل عقود البيع في نظر هذه النظرية.
ج - السبب الدافع (غير المباشر): هو الغرض البعيد أو غير المباشر، الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد، وهذا الذي يطلق عليه سبب العقد للتفريق بينه وبين سبب الالتزام. فمثلا يكون السبب القصدي للبائع في عقد البيع هو الحصول على الثمن والسبب القصدي للمشترى هو الحصول على المبيع، فهذا النوع من السبب لا يتغير في كل عقود البيع.
أما السبب الدافع للبائع، فقد يكون إنفاق الثمن في أغراض معيشته أو شراء شيء آخر. والسبب الدافع للمشترى هو استعمال الشيء أو استغلاله أو التصرف فيه لآخر. فمثلاً لو كان هذا الشيء سيارة فقد يستعملها لنفسه أو يؤجرها أو يبيعها لشخص آخر. فهذا النوع من السبب يتغير من عقد بيع لآخر تبعاً لتغير الدافع لدى المتعاقد.
والفرق بين السبب القصدي وبين السبب الدافع يتبين لنا في الآتي:
ü السبب القصدي المباشر عنصر موضوعي ويدخل في صميم التعاقد. بينما السبب الدافع غير المباشر فهو عنصر ذاتي أو شخصي، ويتعلق بنوايا المتعاقد الملتزم، وخارج عن العقد.
ü السبب القصدي المباشر لا يتغير في النوع الواحد من العقود (كعقد البيع مثلاً) في حين أن السبب الدافع يتغير من عقد لآخر في العقود ذات الطابع الواحد، ومن متعاقد لآخر.
الشروط الواجب توافرها في السبب وفقاً للنظرية التقليدية: يشترط في السبب وفقا لهذه النظرية أن تتوافر في سبب الالتزام ثلاث شروط هي:
أ - يجب أن يكون السبب موجوداً.
ب- يجب أن يكون السبب صحيحاً.
ج - يجب أن يكون السبب مشروعاً.
الشرط الأول - وجود السبب: يلزم لقيام العقد صحيحاً، أن يكون له سبب موجود، فإذا إنعدم وجوده، كان العقد باطلاً. وعدم الوجود هنا، هو أن يتعاقد المتعاقدان وهما على بينة من أن السبب غير موجود عند التعاقد، ويتحقق عدم وجود السبب عن التعاقد في صور مختلفة كما في حالة الإكراه المادي وفي سندات المجاملة.
الشرط الثاني - صحة السبب: يلزم لكي يكون العقد صحيحاً، فوق كون السبب موجوداً، أن يكون صحيحاً، لا موهوماً ولا كاذباً. وترجع عدم صحة السبب إلى أحد أمرين الأول: السبب الموهوم أو المغلوط. والثاني: السبب الصوري.
1- السبب الموهوم: وهو أن يتوهم أحد المتعاقدين سبباً لا وجود له، مثل عقد قسمة الإرث، فقد يعتقد شخص من وضع ظاهر أن آخر وارث معه، وهو ليس كذلك فيعطيه فيبرم معه عقد لقسمة التركة. فهذه القسمة تقع باطلة.
2- السبب الصوري: الصورية لا تعتبر في ذاتها سبباً للبطلان، لأن العبرة -دائماً- بالسبب الحقيقي الذي يختفي خلف هذه الصورة. فإذا كانت الصورة مطلقة، بأن كان السبب الصوري الظاهر، لا يخفي وراءه سبباً آخر حقيقياً، فإن الالتزام لا يقوم لانعدام السبب وبذلك يقع العقد باطلاً.
أما إذا كانت الصورية نسبية أي أن السبب الصوري الظاهر يخفي وراءه سبباً آخر حقيقياً، كان المعول عليه هو السبب الحقيقي المستتر، مثال ذلك عقد الهبة يخفيه المتعاقدان في شكل عقد بيع، فالبحث عن وجود السبب وصحته في عقد الهبة، فإذا كان مشروعاً، قام الالتزام وصح العقد بالرغم من صورية السبب.
الشرط الثالث - مشروعية السبب:
وأخيراً يشترط في سبب الالتزام، فضلاً عن كونه موجوداً وصحيحاً، أن يكون مشروعاً. ويكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب العامة.
النظرية الحديثة في السبب
إن العيب الذي يشوب النظرية التقليدية ليس هو كونها غير صحيحة أو غير مفيدة، كما زعم منتقدوها. بل يتركز في قصـورها، حيث أنها كانت تعتد بسبب الالتزام وتهمل سبب العقـد. فقد يكون العقد صحيحاً بالنظر إلى سبب الالتزام، وباطلاً بالنظر إلى سبب العقد. فعقد إيجار دار - مثلاً - فطبقـاً للنظرية التقليدية، يكون سبب التزام كل من المؤجر والمستأجر صحيحاً، طالما أن محل التزام الأول تسليم العين المؤجرة ومحل التزام المستأجر هو دفع الأجر- وأن محل التزام أيهما هو سبب التزام الآخر- حتى ولو كان الباعث الدافع لدى المستأجر، هو استخدام العين المؤجرة في غرض غير مشروع للعب القمار والميسر أو ممارسة الاجرام. الخ.
فإذا كان مؤدى نظرية السبب هو البحث عن الغرض الذي دفع المتعاقد إلى ارتضاء الالتزام الذي يقع على عاتقه. فلماذا نقف عند الغرض المباشر (سبب الالتزام) ولا نتعداه إلى غيره من الأغراض الأخرى التي تكون مثله دافعة إلى التعاقد وخاصة الباعث على التعاقد (سبب العقد). ففي المثال السابق، يقع العقد صحيحاً بالنظر إلى سبب الالتزام، ويقع باطلاً بالنظر إلى سبب العقد غير المشروع.
وعمد الفقهاء في إنشاء النظرية الحديثة للسبب، الى الجمع بين فكرة سبب الالتزام وهو الغرض المباشر والقريب في التعاقد، وبين سبب العقد وهو الباعث الدافع إلى التعاقد. واشترطت هذه النظرية في كليهما (سبب الالتزام وسبب العقد) أن يكون كلاً منهما مشروعاً.
السبب هو الباعث الدافع إلى التعاقد: السبب في رأي النظرية الحديثة هو الباعث الدافع للملتزم إلى ارتضاء الالتزام. ومادامت الإرادة، في ظل القانون، قد تحررت من قيود الشكلية، أطلق لها العنان في أن تنشئ ما تشاء من الالتزامات، وطالما أنه لابد للإرادة من باعث يدفعها إلى التعاقد، فلا أقل من أن يشترط القانون أن يكون هذا الباعث مشروعاً، وأن يكون الغرض، الذي ترمى إلى تحقيقه، غرضاً لا يحرمه القانون ولا يتعارض مع النظام العام والآداب. وفي ذلك صيانة للمجتمع من انحرافات الإرادة.
ولما كانت بواعث الإرادة كثيرة ومتنوعة، فمنها الدافع وغير الدافـع ومنها الرئيسي وغير الرئيسي. فمن ثم فإنه يجب الوقوف عند الباعث الرئيسي الذي يكون هو الدافع إلى التعاقد وذلك ضمان لاستقرار المعاملات.
وعليه فإنه يشترط في الباعث لكي يكون عنصر في السبب الآتي:
ü أن يكون هو الدافع إلى التعاقد. أي أنه هو الذي أدى بالمدين إلى أن يرتضي التحمل بالالتزام.
ü أن يكون متصلاً بالمتعاقد الآخر. بأن كان على بينة منه، أو كان يستطيع - على الأقل - العلم به.
ü أن يكون الباعث مشروعاً. أي أنه لا ينطوي على مخالفة للقانون ولا معارضة للنظام العام ولا مخالفاً للآداب العامة.
نظرية السبب في القانون المدني الجزائري: أخذ المشرع الجزائري بوجهة نظر النظرية الحديثة في السبب، فاعتد بسبب الالتزام كأصل عام ورتب على وجوده أو مخالفته للنظام العام والآداب بطلان العقد طبقا للمادة 97 من القانون المدني. وافترض أن للعقد سبباً مشروعاً وعلى من يدعى عكس ذلك إقامة الدليل على عدم وجوده أو عدم مشروعيته المادة 98 ق م.
ونتناول دراسة ذلك من خلال ما هو آتٍ من نقاط.
أولاً - وجود السبب: يشترط المشرع وجوب أن يكون سبب الالتزام موجوداً، في الالتزام الناشئ عن العقد، وإلا وقع العقد باطلاً. فمثلاً إذا التزم الورثة بدفع مبلغ من النقود لشخص، اعتقاداً منهم أن مورثهم قد أوصى له بنصيب في التركة، ثم تبين لهم أن مورثهم قد رجع عن هذه الوصية أو أنها قد جاءت باطلة لتخلف أحد أركانها، في هذه الحالة ينعدم سبب الالتزام ويقع العقد باطلاً.
ثانياً - مشروعية السبب: يلزم لكي يكون العقد صحيحاً ومنتجاً لآثاره - فوق وجود سببه - أن يكون هذا السبب مشروعاً. بأن يكون غير مخالف للقانون أو متعارض مع النظام العام والآداب العامة. ومثال عدم مشروعية السبب، التزام شخص بارتكاب جريمة مقابل مبلغ من المال. فالعقد يبطل هنا لعدم مشروعية السبب.
ثالثا- إثبات السبب: نعلم أنه من المسلم به في نطاق القواعد العامة، أن عبء إثبات وجود السبب ومشروعيته يقع على عاتق الدائن. لأنه هو الذي يدعى ذلك، ومن ثم فعليه إثباته، غير أن القانون قد افترض لمصلحة الدائن أن السبب موجود ومشروع، في حالة خلو العقد من ذكر السبب، وافترض - أيضاً - أن السبب الوارد في العقد سبباً حقيقياً طبقا للمادة 98 من القانون المدني وعلى من يدعى عكس هذين الفرضين (وجود السبب ومشروعيته وحقيقته) أن يقيم الدليل على ما يدعيه.
ü خلاصة: لا يشترط المشرع الجزائري في السبب كركن في العقد والالتزام إلا أن يكون مشروعاً
ü ويفترض المشرع الجزائري في السبب ما يلي:
ü ان لكل التزام سبب (افتراض وجود السبب فلا حاجة لاشتراطه كما في ركن المحل)
ü ان السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي
ü من يدعي عدم وجود السبب او صوريته بأن له سبباً آخر غير مشروع أن يقيم الدليل على ذلك (افتراض الوجود وعدم الصورية قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس)
-
-
-
-
-
-
-