قادت عمليات التنقيب الأثري في بقايا المواقع و المدن العراقية القديمة لاكتشاف عدد من المواد الأثرية المصنوعة من مواد لا توجد أصلا في الأرض العراقية، و منها أنواع من الأصداف البحرية و الحجارة و المعادن، فكان ذلك الدليل الأكيد الأول على قيام المبادلات التجارية بين المواقع و المستوطنات العراقية، و بين المناطق التي تتوفر فيها هذه المواد الأولية، مما يمنح موضوع التجارة في العراق أهمية متزايدة، أن بعض مواد التجارة المكتشفة وجدت بين بقايا مواقع العصور الحجرية الحديثة، و يقدر تاريخها بحدود الألف الثامن قبل الميلاد،     و دلالة هذا الأمر أن اهتمام سكان العراق القديم بالتجارة يضرب في أعماق التاريخ القديم، و أنه اكتسب خلال مسيرته التاريخية الطويلة مزيدا من الخبرات و التجارب في مضمار العمل التجاري، فتعددت مناطق المتاجرة    و تنوعت مواد التجارة و ازداد عدد العاملين في أوجه نشاطاتها المختلفة و الأكثر خطورة من ذلك، انعكاسات العمل التجاري الواسعة و مع مناطق مختلفة على تجربة العراقيين الحياتية.و لقد احتلت التجارة في حياة العراقيين القدماء أهمية كبيرة إذ تحول هذا الاهتمام من الطابع الفردي إلى الطابع الجماعي المنظم الذي تشرف عليه الدولة و يلقى رعاية و اهتمام الزعماء و الملوك، فلم يخف الملوك العراقيون عنايتهم بالتجارة إلى الحد الذي دفعهم لإرسال حملات عسكرية لضمان سلامة طرق التجارة و تهيئة أسباب تدفق المواد الأولية من المنشآت المختلفة.

و ليس صعبا معرفة أسباب ازدهار التجارة في تاريخ العراق القديم حيث يأتي في مقدمتها عدم توفر المعادن     و الحجارة و الأخشاب التي تعد مواد ضرورية لمجتمعات الصيد و الزراعة فهي تدخل في صناعة العديد من أدوات الإنتاج، مثلما تعد مواد بناء ضرورية و هذا ما سعت التجارة الخارجية في العراق القديم إلى توفيره للأسواق المحلية، فكانت تجارة النحاس و الذهب و الفضة و الأحجار الصلبة الجيدة و أنواع الأخشاب في مقدمة المواد التي استوردها العراقيون.

و أن بعض مواد التجارة العراقية المستوردة أو المصدرة هي من المواد رخيصة الأثمان مثل الأحجار أو الأخشاب أو الشعير أو النحاس، لذلك كانت تتحقق في العملية التجارية الواحدة كميات كبيرة من هذه المواد و ذلك لتغطية نفقات الرحلة التجارية أولا، و لتحقيق الفائدة المرجوة من التجارة ثانيا، و أن أنسب وسائط النقل لمثل هذه السلع هي وسائط النقل المائية التي تتميز باستيعابها الكبير و رخص تكاليف انتقالها، و قد وجدت هذه الوسائط في أنهار العراق و فروعها، و شبكة القنوات التي خدمت أغراض الري و الملاحة النهرية، أفضل الطرق التي انتقلت عليها مواد التجارة المختلفة و وصلت إلى جميع المدن و القرى و القصبات العراقية القديمة. و هكذا تضافرت مجموعة من العوامل على تشجيع العمل التجاري و تنشيطه و تطويره حتى غدا في بعض مراحل تطوره و ازدهاره وجها بارزا من أوجه النشاط الاقتصادي في بلاد ما بين النهرين، و قد انقسمت التجارة في بلاد ما بين النهرين إلى قسمين هما:

أ - التجارة الداخلية: كانت التجارة الداخلية نشطة بين المدن، و في البداية قامت عمليات التبادل التجاري على المقايضة ثم استخدمت سبائك الفضة في العمليات التجارية، و كثيرا ما كانت تدون عقود البيع و الشراء و المعاملات التجارية المختلفة و في العصر البابلي كان رئيس التجار موظفا كبيرا في البلاد الملكي، و قد سمح لموظفي الديوان الملكي بالاشتغال في التجارة لزيادة ثرواتهم

ب- التجارة الخارجية:

كانت القوافل التجارية تتجه إلى المناطق الواقعة حول الخليج العربي وآسيا الصغرى، وإلى بلاد الشام، كما يستدل من أطلال المدن السومرية على قيام صلات تجارية بينها وبين مصر والهند، وكان التجار في العصر الأشوري لهم حرية التنقل والاتصال وقد استوطن كثير منهم في مدينة كانيش بالأناضول واتخذوا مستوطنات في أماكن أخرى بتلك المنطقة، وكانوا يصدرون الأنسجة المصنوعة في مدينة آشور، ويقومون بدور الوسطاء في تجارة النحاس والحديد من مراكز التعدين في آسيا الصغرى ، وكانت تعقد المعاهدات لحماية التجار في الخارج، وتحديد مهامهم. وبوجه عام كانت تصدر منتوجات زراعية وصناعية مختلفة وتستورد المعادن والأخشاب والتوابل والعطور والأحجار الكريمة، وفي بادئ الأمر كانت السلع تنقل بالطريق النهري ثم صارت تنقل بالطريق البري باستخدام عربات تجري على عجلات وتجرها الخيول، وكان ذلك أقدم وسيلة للنقل من هذا النوع عرفها العالم،وفي عهد بختنصر أصلحت الطرق الرئيسية التي تستخدمها القوافل التجارية التي كانت تحمل إلى بابل منتجات الهند ومصر والشام وآسيا الصغرى

 

Modifié le: Thursday 23 February 2017, 11:34