تمهيد:

إذا كانت السعادة تعني الحظ السعيد والوفير في وقت هوميروس (Homère)، فإنها أصبحت تفهم على أنها تلك العادات الحميدة والأخلاق العالية التي تجعل من الفرد يبدو أنه من الطبقة الارستقراطية في العصور الكلاسيكية. وتحولت نظرت السعادة في القرون الوسطى إلى التدين والتعصب لأجل الدين من أجل الحصول على مكان في الجنة. أما عصر الأنوار فقد عارض الناس أفكار دور العبادة وتخلصوا منها واتجهوا إلى التمتع والتلذذ بما طاب لهم من رغد العيش والرّفاهية. وأخيرا في عصرنا الحديث، فان السعادة قد تكون امتلاك كلب وتتجول في الحديقة فهو دليل على أن الفرد على قدر من الرّفاهية.

1- ما قبل الميلاد:

       في هذه الحقبة من الزمن تطرق مجموعة من الفلاسفة الإغريق إلى مفهوم السعادة، وكانوا يجمعون في ذلك الوقت على أن السعادة هي الهدف الأساسي الذي يسعى إليه الإنسان، وكان المفهوم ذو طبيعة فلسفية، وقد ظهر تيارين فلسفيين مختلفين في مقاربتهم للسعادة. المذهب الأول يرى السعادة في الفضائل ويطلق عليه تسمية (Eudémonisme) وقد ظهر في القرن السابع قبل الميلاد ثم تبناه أرسطو (Aristote). بالنسبة لهذا التوجه فان السعادة هو شعور نابع عن تفكير ومبادئ لها توجه واضح، ولكي نصل إليه وجب علينا أن نفعل كل ما نستطيع. إنه عبقرية دوافعنا والوجود الإنساني ومبدأ يتجه إليه كل إنسان بتوجيه أفعاله إليه. أما المذهب الثاني مذهب المتعة (hédonique) فقد تأسس عام 306 قبل الميلاد من قبل أبيقور (Epicure) وتعرف السعادة عند أصحاب هذا المذهب على أنها البحث عن المتعة وإشباع الرغبات التي تشكل هدف الوجود البشري (Nathalie Bernard, 2019).

        هذه التوجهات الفلسفية لازالت تؤطر النظريات العلمية ليومنا هذا مع تعديلات بما يتناسب مع الواقع الحالي والاختصاص.

2- القرون الوسطى (Le moyen âge):

       في هذه الحقبة من الزمن، التي تمتد من نهاية القرن الخامس إلى غاية القرن الخامس عشر. ولعل أهم ما يميز هذه المرحلة هو سيطرة الكنيسة على الفكر والمعتقدات والقوة والسلطة والنفوذ. وكانت الكنيسة تسوق على لسان البابوات على أن السعادة الحقيقية هي أن يفتك الفرد مكانة في الجنة، وعليه فان كل سلوكاته توجه نحو التدين والخضوع الكلي لتعاليم الكنيسة، وكذلك التضحية بالنفس والدم والمال من أجل الحصول على الجنة. ومن بين أشهر رواد هذا المفهوم للسعادة نجد الملق البابا أيربان الثاني واسمه الحقيقي (Ondon de Lagery 1088-1099) وهو صاحب فكرة صكوك الغفران وقائد الحروب الصليبية، وكانت السعادة في هذه الحقبة مفهوم ديني محض يتوجه من يبحث عنها إلى التعصب والتضحية بكل ما لديه في سبيل الحصول على مكانه في الجنة، في حين أن البحث عن المتعة واللذة في الحياة أو البحث عن المعرفة من مصادر غير دينية من دون تجسيد تعاليم الكنيسة هي خطيئة يؤثم عليها الفرد وتمنع ضميره من الارتياح   (Tarquinio, C., et al, 2011).

3- عصر الأنوار:

        عصر الأنوار (L’âge des lumières) هي حقبة من الزمن مهدت لخروج العصور الوسطى وحاربت أفكاره بطرق أكثر واقعية، لهذا تسمى أيضا بعصر المنطق. إذ عاد العديد من الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين إلى مصطلح السعادة واللذة. تطور فكر التنوير حول موضوعين رئيسيين هما: العودة إلى الطبيعة، والسعي لتحقيق السعادة. حيث ندد الفلاسفة بالأديان والقوى الاستبدادية المسئولة عن ظهور الشر في العالم [...] حيث أن السعي لتحقيق السعادة الفردية أصبح بديلاً على الأرض عوض المحاولة للحصول على رضا الكنيسة في الدنيا والآخرة، شريطة ألا تتعارض سعادة الفرد مع سعادة الآخرين، وهي الربط بين النظري والممارسة والنزعة الإنسانية وتأكيد دور العقل ومكانته في المجتمع (ديما عيسى محمد، 2017، ص 12). ومن أبرزهم ايمانويل كانت (Emmanuel Kant 1724-1804)  والمفكر صاحب مقهى المثقفين بألمانيا هولباخ (Paul Thiry, Baron d’Holbach 1723-1798). وقد نلاحظ أن المفهوم أخذ بعداً اجتماعياً عندما دعا هؤلاء المفكرين لتحقيق السعادة الفردية دون أن تتعارض مع سعادة الآخرين، كما أن الجانب الديني والروحي غير مستبعد إذا كان اختيار وميل شخصي بعيداً عن التوجيه والاستغلال.

4- ما بعد الحرب العالمية الثانية:

        مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الحياة إلى المجرى الطبيعي، كانت مخلفات الحرب على صحة الناس وخيمة، وهذا لا يقتصر فقط على المشاركين فيها بل حتى من عاشها من قريب أو بعيد، وفي سنة 1946 قدمت منظمة الصحة العالمية مفهوماً أوسع وأشمل للصحة.وتعرفها على أنها "حالة من الرفاهية الجسدية والعقلية والاجتماعية الكاملة وليس مجرد غياب المرض أو العجز". ولم يتغير التعريف هذا منذ ذلك الحين، ويعد وضع الجوانب النفسية والاجتماعية في نفس المستوى مع الشكاوي الجسدية تقدماً كبيراً حققته منظمة الصحة العالمية (Stadler, H., 2014). وعلى اثر هذا التعريف تقدم الرئيس الأمريكي بمبادرة لتحسين ظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية عامة ونظام الرعاية الصحية خاصة، واستخدم مصطلح جودة الحياة (Quality of lif) لأول مرة سنة 1964 في خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون (Lyndon B. Johnson) بهدف تحسين جودة حياة المجتمع الأمريكي (Missotten, P., Squelard, G., & Ylieff, M., 2010). بعد ذلك ، تم تداوله من قبل الدوائر العلمية، وكانت نوعية الحياة ترتبط بتقييم جودة البيئة ومؤشرات مادية (اقتصادية) واجتماعية بطرق إحصائية (Carlisle, 1972 ; Duncan, 1969 ; Hoffenberg, 1970 ; Sawhill, 1969 ; USDHEW; 1969) كما ظهر تيار جودة الحياة المهنية في نفس الفترة (Davis et Cherns, 1975) ومن هنا بدء اهتمام الاختصاصات بجودة الحياة (Céline Mercier et Jocelyne Filion, 2021).

            لقد أصبح كل من مفهوم جودة الحياة والصحة متداخلان من حيث الاستعمال سواء من قبل منظمة الصحة العالمية أو من قبل الباحثين في الاختصاص، كما أن جودة الحياة انطلاقاً من هذه الحقبة محطة اهتمام العديد من الاختصاصات هدفها صحي في آخر المطاف.

5- مع ظهور علم النفس الايجابي:

ذكر السيكولوجي الأمريكي ادوارد دينر (Edward Diener, 1984) أنه في عقد السبعينات من القرن العشرين، غير علماء علم النفس الاجتماعي اتجاههم نحو دراسة السلوك الايجابي فقدموا أعمالا نظرية وامبريقية ظهرت بخطى سريعة وبدأ الاهتمام بموضوع السعادة (بشير معمرية (C)، 2012) وبدء التركيز على الشعور بالرّفاهية الذّاتية مع بداية الدراسات في علم النفس الايجابي على الوجدان الايجابي والوجدان السلبي والرضا عن الحياة. وللحصول على مقاييس للرفاهية الذّاتية قام باحثين بتسجيل الحالات المزاجية والأفكار المصاحبة لها لمبحوثين أربعة مرات في اليوم لمدة واحد وعشرين يوماً متتابعة. أطلق على هذi الطريقة أسم "عينة الخبرة" (Experience sampling method ESM) وهي عينة تتكون من أفراد لدى كل واحد منهم جهاز يقوم باستقبال رسالة من الباحثين في لحظات عشوائية خلال ساعات يقظتهم لتسجيل خبرتهم الشعورية المباشرة. إنها طريقة تحافظ على دراسة الخبرة الخاصة في أوقات مختلفة ومتقلبة في ظروف طبيعية قدر الإمكان (لورانس برافين، 2010). وفي 1967 قدم وارنر ويلسون (W. Wilson, 1967) أول دراسة امبريقية في علم النفس حول مفهوم الرّفاهية الذّاتية (SWB) ضمن سلسلة من الدراسات في علاقة السعادة بمجموعة من المتغيرات (الصِّحة، المستوى التعليمي والثقافي، الدخل الفردي، الانبساط، التفاؤل، الاستقلالية والحرية، التدين، تقدير الايجابي للذات، الزواج والذكاء الوجداني)، وتتوسط علاقة هذه المتغيرات بالرّفاهية الذّاتية متغيرات معرفية أخرى مثل استراتيجيات المواجهة، التقييم، تحقيق الأهداف. وكخطوة أخرى اِقتَرَحَ الباحث أن تركز دراسة الرّفاهية الذّاتية على النموذج التفاعلي بين العوامل الداخلية (كسمات الشّخصية) والعوامل الخارجية (كالظروف البيئية) (ED Diener & al, 1999, p 277).

حالياً تستعمل مفاهيم عديدة للتعبير عن جودة الحياة أهمها الرفاهية الذاتية، السعادة والرضا عن الحياة. وسنتطرق في الأقسام التالية من الدرس إلى تحديد هذه المفاهيم والتمييز بينها.

الجدول (01): ملخص حول تطور مفهوم جودة الحياة

الحقبة الزمنية

طبيعة المفهوم

المفهوم المستعمل

أهم رواده

ما قبل الميلاد

 

فلسفي

(Philosophique)

الحياة الجيدة

(La bonne vie)

Homère, Aristote

Platon, Epicure

القرون الوسطى

 

ديني

(religieux)

السعادة

(bonheur)

Otho de Lagery

(Le pape Urban II)

عصر الأنوار

 

اجتماعي

(Social)

السعادة واللذة

(bonheur hédonique)

Emanuel Kant

 Hollbach

بعد الحرب العالمية II

(1946-1980)

اجتماعي سياسي اقتصادي

(Socio-économico politique)

جودة الحياة

(qualité de vie)

Lyndon B. Johnson

 Eric trist

علم النفس الايجابي

(1981- 2022)

صحي واسع وشامل

(Santé générale)

جودة الحياة (الرفاهية الذاتية)

Qualité de vie (Bien-être)

OMS, Warner Wilson

Ed Diner

 

خلاصة الدرس:

من الملاحظ في هذا القسم من الدرس أن البحوث التي تهتم  في بدراسة جودة الحياة في الجانب النفسي انطلقت من مفهوم السعادة والبحث عن اللذة، مروراً بالعصور الوسطى أين كان بعض الناس يجد لذته وسعادته في التدين. ومع بداية عصر الأنوار تغلب المنطق على المعتقدات ذات طابع ديني (غير قابلة آنذاك للنقاش) وعاد الإنسان إلى مفهوم السعادة الفردية والبحث عن اللذة شريطة ألا تتعارض مع سعادة الآخرين (البعد الاجتماعي). ولعل نهاية الحرب العالمية وعودة الجنود إلى مواطنها ساهم في البحث عن سبل أفضل تساهم في تحسين جودة الحياة، وقد تجلى ذلك بوضوح في خطاب الرئيس الأمريكي جونسن (1964) ومن هنا تبدأ رحلة مفهوم جودة الحياة بصورته الامبريقية لتتبناه لاحقاً منظمة الصحة العالمية وتضعه كمحك للصحة العامة. كما لا حظنا عدة تداخلات في المفاهيم، بين الصحة وجودة الحياة، جودة الحياة والرفاهية الذاتية، جودة الحياة والسعادة والرضا عن الحياة.

Modifié le: Sunday 21 May 2023, 14:48