تمهيد:

     لقد تناولنا في القسم السابق من الدراسة تطور مفهوم جودة الحياة عبر مختلف العصور والحقب التاريخية. في هذا القسم سنتناول مفهوم جودة الحياة بنوع من التدقيق في الاختصاص مع وضع الخطوط الفاصلة بينه وبين بعض المفاهيم التي غالباً ما نعتقد أنها مرادفات لهذا المصطلح أو يمكن أن تنوب عنه في القياس، في حين أنه التسميات قد لا تعني كلها مرادفات، بل العديد منها مترابطة مع المفهوم بحكم تداخل الظواهر أو قريبة من المفهوم وتأخذ جانباً معين من الظاهرة.

1- مفهوم جودة الحياة:

      جودة الحياة مفهوم يقابله باللغة الفرنسية مصطلح (Qualité de vie) وباللغة الانجليزية يستعمل الباحثين مصطلح (Quality of Lif) أما باللغة العربية فغالباً ما نستعمل لفظ جودة الحياة، في حين نجد أيضا من يستعمل مصطلح نوعية الحياة مثل مخبر علم النفس الصحة، بجامعة الجزائر 2.

       قد نجد العديد من الباحثين من حاولوا وضع تعريف لهذا المفهوم الذي بات معقد إلى غاية 1993، أين قدمت منظمة الصحة العالمية له تعريفاً يمكن للأخصائيين في المجالات الصحية أن يعودوا إليه كمرجع في الاختصاص. فإذا عدنا إلى أدبيات البحث في مجال جودة الحياة نجد أن الباحثين باختلاف تخصصاتهم (في العلوم الاقتصادية، العلوم الاجتماعية والنفسية، العلوم الطبية، العلوم السياسية...) يعطون تعريفاً أحادي البعد وينظرون إليه من زاوية تخصصهم فقط. في حين أن منظمة الصحة وفقت إلى درجة ما لجعل جودة الحياة مصطلح يقترب من الموضوعية دون إهمال الجانب الذاتي. وتعرف منظمة الصحة العالمية جودة الحياة على أنها "إدراك الفرد لمكانته في الوجود، وفي السياق الثقافي الذي يعيش فيه ونظام القيم الذي ينتمي إليه وعلاقته بأهدافه، توقعاته، معاييره، وانشغالاته، ويتضمن هذا الإدراك مجال واسع ومعقد من المفاهيم المتعلقة بالصحة الجسمية للفرد وحالته النفسية، درجة استقلاليته، علاقاته الاجتماعية، معتقداته الشخصية، وعلاقته بخصائص بيئته" (Formarier, M., 2012).

2- مؤشرات جودة الحياة:

إذا قمنا بتحليل تعريف المنظمة الصحة العالمية لجودة الحياة سوف نجده يبدء بعملية إدراك، وهذا يعني أن جودة الحياة تعتمد على تقييم الفرد لحياته تقييماً ذاتياً كما يراها ويعيشها هو وليس كما يراه الآخرون، مع ذلك فهو مبني على مؤشرات موضوعية طبعاً.

2. 1- المؤشرات الموضوعية لجودة الحياة:

     تعتمد جودة الحياة موضوعياً على مجموعة من المؤشرات التي يمكن أن نعتمد عليها للتنبؤ بجودة الحياة كالصحة، التغذية، الأمن، الانتماء، السكن، النقل، الدخل، الحقوق المدنية والمواطنة، القدرة الشرائية، حرية التعبير وتعدد الاختيار، توفر المعلومة، الحقوق، العدالة... إذ تبين في العديد من الدراسات أقيمت على عينات مابين البلدان (Eg : Veenhoven, 1994 ; Haring, Stock & Okun, 1984)، أن البلدان التي تتمتع بمستوى مرتفع من جودة الحياة هي البلدان التي يكون فيها الدخل والقدرة الشرائية متوازنان وتتمتع بأكثر قدر من العدالة وحرية الاختيار. كما أكدت دراسات على عينات داخل نفس البلد أجريت على شرائح اجتماعية مختلفة (موظف بسيط، إطار، إطار سامي) وتبين أن المكانة تلعب دوراً مهماً في ارتفاع مستوى جودة الحياة ويعود ذلك حسب نفس الدراسة إلى التباين الكبير في كمية الأملاك (Deiner, Sandvick & Seidlitz, 1993)، في حين قدمت دراسات تتبعية على بلدان تعيش تقلبات اقتصادية أن الحالات التي تم قياس جودة الحياة الخاصة بها كانت تتأثر بهذه التقلبات فترتفع تارة وتنخفض في أحيان أخرى (Clark & Oswald, 1994). وفي دراسات تتبعية أخرى قدمها (Deiner, Horwitz & Emmons, 1985) على أفراد طرأت عليهم تغيرات على وضعهم الاجتماعي والاقتصادي تبين أن جودة الحياة تتأثر بالانتقال من مستوى معيشي لآخر (Diener, E., & al, 1999).

2. 2- المؤشرات الذاتية:

       إذ كانت جودة الحياة تعتمد على التقدير الموضوعي لكل العوامل الاجتماعية، الثقافية، الصِّحية، الاقتصادية، السياسية... التي تلعب دورا مباشرا أو غير مباشر في رفع مستوى الرّفاهية للفرد والجماعة وتحقيق حاجاته، فان الرّفاهية الذّاتية هي الجانب الذاتي من جودة الحياة والتي تتوقف على طبيعة إدراك الفرد على هذه الموارد وإمكانية الاستفادة منها ومدى قدرته على تسخيرها لصالح تحقيق أهدافه وطموحاته والتمتع بها أو الرضا عنها وكذلك الجهد المبذول للحصول عليها والخيارات المتاحة وإدراكها، تقييمها وتوقع النتائج في المستقبل. فإذا افترضنا أن الشخص (أ) يتمتع بمؤشرات موضوعية عالية ولنفترض أن كل مؤشر نعطيه درجة في جودة الحياة (مثلاً عمل 3 نقاط، دخل مرتفع 5 نقاط، سيارة 3 نقاط، سكن خاص به 6 نقاط ....) إذ يحصل هذا الفرد على الدرجة 80 من 100 نقطة ولكن إدراكه لهذه الموارد المتاحة منخفض (ولنفترض أن الإدراك يعمل عمل المعامل من 0 الى 10) وليكن إدراكه 2 من 10، هذا يعني أن مؤشرات الموضوعية 80 x 2 = 160 درجة، في حين أن الشخص (ب) قد يتحصل على درجة أقل من حيث المؤشرات الموضوعية لتكن درجته 25 ولكن إدراكه مرتفع لما 8 من 10 وهذا يعني أن 25 x 8 = 200 وبالتالي جودة الحياة لدى الشخص (ب) أحسن من جودة الحياة عند الشخص (أ) رغم أن المؤشرات الموضوعية مرتفعة عند الشخص (أ) أكثر.

تفسير: فعلاً يتمتع الشخص (أ) بموارد مادية وموضوعية أعلى من الشخص (ب) ولكنه لا يدرك ما لديه من إمكانيات وبالتالي لا يستعملها أحسن استعمال لتطوير ذاته وتحقيق أهدافه في الحياة بما يتماشى مع معايير النسق الاجتماعي الذي ينتمي إليه. أما الشخص (ب) فيمكنه أن يخطوا إلى الأمام نحو تحقيق ذاته وانجازاته وأهدافه في الحياة انطلاقاً من موارد بسيطة.

    بالنسبة للمؤشرات الموضوعية فإننا غير قادرين على التحكم فيها بطريقة مباشرة، وكذلك الأخصائي الممارس غير قادر على التدخل فيها ولكن الشق الذاتي هي الجانب الذي يمكننا أن نعدل فيه ونغير من اتجاهنا ولهذا كان موضوع اهتمام الباحثين والممارسين لأنه جزء من الأهداف العلاجية إذا ما تم استغلال الموارد المتاحة لصالح تنمية قدرات المفحوص، وهي نفسها أهداف منضمة الصحة العالمية. فقد ورد في ميثاق أوتاوا (La charte de Ottawa, 1986) حول ترقية الصِّحة أن الصِّحة حالة من الرّفاهية الجسمية، العقلية والاجتماعية للفرد أو الجماعة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحالة إلا بإشباع الحاجات الأولية والنمو السليم والتكيف مع المحيط." وقد أكدت منظمة الصِّحة العالمية في هذا الميثاق على خمسة دعائم أساسية لتعزيز الصِّحة، وهي: تبني سياسة حول الصِّحة، جعل البيئة الذي يعيش فيها المواطن محيط يليق بنوعية حياة طيبة، تعزيز العلاقات الاجتماعية، تدعيم أنظمة الرعاية الصِّحية وتطوير القدرات الشّخصية (J-P, Deschamps, 2003). 

خلاصة:

         قد نجد ما يفوق 100 تعريف لجودة الحياة، إلا أن تعريف منظمة الصحة العالمية هي الأقرب إلى الشمولية، إذ تشير على أنها عملية "إدراك الفرد لمكانته في الوجود، وفي السياق الثقافي الذي يعيش فيه ونظام القيم الذي ينتمي إليه وعلاقته بأهدافه، توقعاته، معاييره، وانشغالاته، ويتضمن هذا الإدراك مجال واسع ومعقد من المفاهيم المتعلقة بالصحة الجسمية للفرد وحالته النفسية، درجة استقلاليته، علاقاته الاجتماعية، معتقداته الشخصية، وعلاقته بخصائص بيئته. وبالرغم من أن جودة الحياة تعتمد على مؤشرات موضوعية مهمة إلا أن الجانب الذاتي لا يقل أهمية في تقييم الفرد لحياته. كما أن نوعية الحياة مفهوم متعدد التخصصات يمكن دراسته من الجوانب الاقتصادية، السياسية، حقوقية، صحية...

Modifié le: Sunday 21 May 2023, 14:47