نظريات الثقافة
يعتبر موضوع الثقافة من أكثر الموضوعات تعقيدا وتشابكا وتنوعا، لذا نجد طرق دراساته ومناهجها مختلفة ومتنوعة و النتائج التي خلصت إليها الدراسات كذلك متنوعة ومتعددة لهذا نجد أن النظريات التي تطرقت إلى هذا الموضوع عديدة وكثيرة وربما لا يمكن حصرها بشكل جيد نظرا لتعدد المداخل النظرية وخضوعها في أغلب الأحيان لرؤى وتصورات إيديولوجية وهكذا يصبح موضوع الثقافة كغيره من المواضيع الإنسانية تتقاذفه الأيديولوجيات و المذاهب الفكرية المختلفة، إلا أن هذا لا يعني الاستسلام لهذا الأمر واعتباره قدرا محتوما. فرغم الخصائص السابقة التي ذكرناها لهذه النظريات إلا إنها لا تخلو من جوانب موضوعية لبعض جوانب الموضوع في تصوراتها وفي ما وصلت إليه من حقائق حول موضوع الثقافة. ولهذا سنحاول أن نتعرض ما وسعنا الجهد لأهم النظريات التي تناولت موضوع الثقافة ولجهود بعض العلماء الكبار، وسوف نتناول بعض النظريات الكلاسيكية الكبرى مثل النظرية التطورية والنظرية الانتشارية والنظرية الوظيفية ثم نتعرض لبعض النظريات المحدثة والتي هي في الحقيقة تطوير للنظريات السابقة مثل النظرية التطورية المحدثة ونظرية الانتخاب الثقافي، والقابلية الاجتماعية والثقافية للنمو والنظرية الإيكولوجية. وهي كلها نظريات حاولت معالجة موضوع الثقافة من وجهات نظر مختلفة و بتناولنا لها كلها ربما يتضح لنا الموضوع أكثر ونستوعب كل جوانبه على الأقل الظاهرة منها .
9. خلاصة
من كل ما سبق يمكن أن نستنتج بأنه يمكن دراسة الثقافة وفق مقاربات متنوعة ، ولكل منها محددات وتداعيات . المقاربة الأولى : المقارية الانثروبولوجية : وفيها يمكن الاستنتاج أن التعريفات ومنذ محاولة الانجليزي ادوارد تايلور(1823-1917) كانت تتطور تبعا لتطور الاتجاهات والمناهج والنظريات ، ويمكن في هذا المجال رصد اربعة اتجاهات:
الاول : يقدم مقاربته من زاوية التاريخ الثقافي رسمه بواز وهرسكو فيتش الذي الح على الاستمرارية التاريخية ودرس خصوصا عملية المثاقفة.
الثاني : يقوم بمقاربة الثقافة من خلال علاقتها بالشخصية ، وهو اتجاه رسمه سابير ، وتتصل أعمال روث بنديكت ومارغريت ميد ولينتون بهذا الاتجاه الذي يعنى بمجموعة القيم التي يتوق مجتمع حصين إلى ترسيخها في الأفراد المنتمين إليه .
الثالث : يعمد إلى مقاربة الثقافة إلى نظريات الاتصال الحديثة منطلقا أساسا من النموذج اللساني ، وأحسن تعبير عنه هي أعمال كولد ليفي شتراوس.
الرابع: استند الى التحليل الوظيفي في مقاربة الثقافة والذي برز على يد رائده مالينو فسكي.
أما المقاربة الانثروبولوجية الجديدة يشكل عام فتركز على ظاهرة التثاقف ، والتي شغلت العديد من الانثروبولوجيين ، ومهدت أفكارهم إلى نشوء الإيثنولوجيا الثقافية التي تفسر التباين بين الثقافات في إطار التنوع البيئي ، كذلك فتحت الطريق نحو الانثروبولوجيا الرمزية مع غيلفورد غيرتز الذي يقول إنه بدلا من الاهتمام بما يقوله الأفراد عن ثقافتهم ، يجب الاهتمام بالمعنى أو الرمز المصاحب للممارسات الثقافية ، لأنها منفصلة عن القواعد والعواطف والمعتقدات التي يتناقض بعضها مع بعض في كثير من الأحيان.
المقاربة الثانية : المقاربة الايديولوجية : ولا شك في أن مفهوم الايديولوجيا من أكثر المفاهيم شيوعا ، وهو من أقل المفاهيم ثباتا ، فهو عند البعض مفهوم علمي ، وعند آخرين مبهم. منذ ماركس تطور مفهوم الايديولوجيات حتى وسط الماركسيين ، وبخاصة مع لويس ألتوسير الذي حاول التمييز بين الايديولوجيات الكلية والايديولوجيات الجزئية ، وقدم أيضا الإيطالي أنطونيو غرامشي آراء تجديدية هامة ، ويعتبر صاحب مساهمة طليعية في التنظير الماركسي للبنى الفوقية وآليات اشتغالها .
ويذهب الكتاب إلى تفكيك مفهوم الإيديولوجيا إلى ثلاثة معان ومجالات :
- مجال الطرح السياسي .
- مجال الاجتماعيات .
- مجال الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة.
والهدف من هذا التمييز هو التخفيف من حدة الغموض والالتباس والتي يعمل عليها أيضا غي روشيه ، حيث خلص إلى أن الإيديولوجيات ليست كل الثقافة بقدر ماهي عنصر من عناصرها ، وهي ليست بالضرورة مرتبطة بالمجتمع الشامل ، كما أراد ذلك ماركس جاعلا من الإيديولوجيا نتاج الطبقة الاجتماعية المسيطرة ، بل أصبح بالإمكان الحديث عن إيديولوجية جماعة جزئية ، وبهذا شاعت كتابة " النهايات" والتي أول ما طالت مفهوم الإيديولوجيات.
المقاربة الثالثة : هي المقاربة السوسيولوجية : وقد قام العديد من السوسيولوجيين بتفتيت الكليات الكبرى للثقافة إلى وحدات أطلق عليها " السمات الثقافية " وهي تعمل ككليات متشكلة من اعتمادات كبرى متفاعلة فيما بينها يطلق عليها " الأنماط الثقافية " ، فالسمات لا توجد في حالة عزلة بعضها عن بعض ، بل تتحدد مع غيرها لتشكل نمطا يعمل ككل متضامن . ويرى مالينوفسكي أن أحسن وصف لأي ثقافة يجب أن يقوم على معرفة نظمها الاجتماعية ، ويمكن تحديدها بتسعة نظم (الأسرية – التربوية – الدينية – الأخلاقية – الجمالية – اللغوية – الاقتصادية – القانونية – السياسية ) ، وفي كل مجتمع هناك نظم اجتماعية أساسية وفرعية ، تشكل مجتمعة ما يمكن أن نسميه التكامل الثقافي ، وفقدان هذا التكامل يؤدي إلى الاضطراب والفوضى .
وبارسونز ترك بصمات واضحة في سوسيولوجيا الثقافة ، جراء تحليلاته حول الفعل وأنساقه .
وتبقى الاختلافات بين الأمم كما هي الاختلافات داخل الأمة الواحدة ، لا تزال البؤرة المركزية لإشكالية الثقافة وعموما يمكن أن نخلص إلى ما يلي :
- إن النسبية الثقافية هي إحدى أبرز السمات التي تميز الثقافات .
- إن التنوع الثقافي هو حقيقة سوسيولوجية سواء كان بين مجال ثقافي وآخر ، أو بين الثقافات الفرعية.
- إن مفهوم التثاقف الذي استخدمته المدرسة الثقافية الأمريكية على نطاق واسع أصبح من الحقائق والديناميات الثابتة في المجالات الثقافية .
لذلك يعمد التحليل السوسيوثقافي إلى تفكيك الموقف وإعادته إلى جذوره من جهة ، وتبيان آلية اشتغال العناصر الثقافية المتعددة وتفاعلها ، والمفضية إلى كشف العناصر المستورة ، وعلى أهمية إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي ، إلا أن الأهم هو تحليل أشكال هذه العلاقة وآليات اشتغالها ، فضلا عن إبراز الوظيفة الاجتماعية لهذا الانتاج .