4. النظريات الإقتصادية
النظريات الاقتصادية في علم السكان :
1- المسألة السكانية في المذهبين التجاري والطبيعي: كان للمذهب التجاري الفضل الأول في ظهور مفاهيم ومقولات علم الاقتصاد السياسي، ولكن هذا المذهب الذي كان يمثل أولى مراحل تطور رأس المال التجاري، ويؤيد على دور الربح التجاري في تكوين الثروة الاجتماعية، لم يعطي أهمية تذكر للعنصر البشري، ومن ثمة لم يهتم بالمسألة السكانية، كما لم يتعرض أنصاره من أمثال:توماس مان، وجون لوك، وجيمس ستيوارت لهذا الموضوع وفي منتصف القرن 18 ظهرت في فرنسا مدرسة الطبيعيين، والتي كان معظم منظريها من ملاك الأراضي الواسعة، والذين عملوا على إعلاء شأن الزراعة وبيان أهميتها في التقدم الاقتصادي، حيث كانت تمثل حسب وجهة نظرهم العمل الإنتاجي الوحيد، لأنها تدر ناتجا أكبر من المواد التي استخدمت في الإنتاج، ومن هنا اهتموا بعنصر العمل وعلى رأسه العنصر البشري، والذي أصبح يمارس دورا مؤكدا في الحياة الاقتصادية لا يمكن نكرانه، حيث أبدوا اهتما كبيرا به في عدد من كتاباتهم، من ذلك ما ذهب إليه مثلا ريتشارد كانتيون والذي فرق بين معدلي النمو السكاني لدى الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، أي طبقة ملاك الأراضي والطبقة المنتجة، في حين تطرق فرانسوا كيناي أحد مؤسسي هذه المدرسة، إلى العلاقة بين الإيراد الفردي ومستوى المعيشة من جهة والنمو السكاني من جهة أخرى .
2- النظرية الاقتصادية الكلاسيكية: شكلت المدرسة الكلاسيكية النظرية الاقتصادية الأبرز، وذلك على مدار الفترة الممتدة ما بين القرنين 18 ومطلع القرن 20، وهي التي تلخص فحواها في الدعوة إلى عدم تدخل الدولة في أي وجه من أوجه النشاط الاقتصادي، باعتبار أن نشاط الأفراد أفضل بكثير من نشاط الدول، نظرا لما يمتازون به من فعالية ومقدرة على استغلال الموارد، لذا جاء تعرضها للمسألة السكانية من حيث ارتباطها بالحالة الاقتصادية، وذلك من منطلق تركيزهم على دور الأفراد في استغلال الموارد المتاحة، وهو التعرض الذي سمح بطرح عدد كبير من الرؤى النظرية التي سنخوض في تفاصيل بعضها كما يلي:
- نظرية مستوى الكفاف: وترى أن استمرار النمو السكاني، سيؤدي إلى زيادة المعروض من الأيدي العاملة في المجتمع، وبتالي سيؤدي ذلك بعد فترة طويلة قدرها 25 عاما، إلى هبوط الأجر الذي يحصل عليه العامل إلى دون مستوى الكفاف. ونتيجة لذلك سترتفع معدلات الوفيات بين العمال مما يسبب إنقاص المعروض من الأيدي العاملة في المجتمع، فيرتفع مستوى الأجور مرة أخرى إلى فوق مستوى الكفاف، وهو الذي تفترض فيه هذه النظرية انه سوف يؤدي تشجيع الزواج وتزيد بذلك معدلات الولادة، وعندئذ سيزداد المعروض من الأيدي العاملة على المدى البعيد مرة أخرى، وعندئذ سيتكرر ما حدث سابقا من هبوط مستوى الأجور ثم التوازن مرة أخرى وهكذا. وأهم المنتسبين إلى هذه النظرية نذكر جون ستيوارت ميل، والذي سلم بأن مستوى الأجر الذي يحصل عليه العامل يعتمد على معدل السكان المتزايد مقسوما على رأس المال المتزايد والمستخدم في العملية الإنتاجية، فإن زاد هذا الأخير وأصبح أكثر كفاية أمكن عندئذ رفع مستوى الأجور، وعلى العكس من ذلك إذا زاد عدد السكان فقط، وبالتالي زاد عرض الأيدي العاملة دون زيادة رأس المال المستخدم، فإن الأجور العمالية المدفوعة مالت نحو الانخفاض.
- نظرية الوضع الساكن: وأهم روادها ساي، فون، سبنيور ... و تنص على أن الزيادة المستمرة في رأس المال والعمال ستؤدي لهبوط عائد رأس المال المستخدم في العملية الإنتاجية، مما يصبح فيه المخزون من رأس المال ثابتا، بينما تصل مستويات الأجور إلى نقطة تتعادل عندها مع مستوى المعيشة السائد في المجتمع، وهذا سيخلف أثار خطيرة على الأوضاع اقتصادية أهمها:
- توقف الثروة القومية ورأس المال المستخدم.
- انخفاض الطلب على العمال.
- انخفاض أجورهم.
- نظرية الغلة المتناقصة: يعد العالم الاقتصادي ديفيد ريكاردو، أول من بحث في مشكلة الغلة المتناقصة وأثرها على التنمية الاقتصادية،مشيرا بأن هذه القانون يبرز إلى الوجود بسبب زيادة السكان، دون أن يقابل ذلك زيادة في الأراضي الصالحة للزراعة.
وقد شهدت السنوات العشر التي تلت وفاة ريكاردو (1823-1833)،هجوما ضاريا على أفكاره من قبل عدد من الاقتصاديين ، والذين يأتي على رأسهم هنري كاريه (1739-1879) وريتشارد جونز(1790-1855) ، والذين طرحوا ﻋﻠﻰ ﺒﺴﺎط اﻟﺒﺤث ﻗﻀﻴﺔ ﻤﺎ إذا ﻛﺎﻨت اﻟﻤﺒﺎدئ اﻟﺘﻲ أﺸﺎر إليها ريكاردو صحيحة، حيث يعتقد الأول أن السكان قاموا بزراعة الأراضي الأقل خصوبة وليست الخصبة كما افترض ريكاردو، وبهذا فإن التزايد السكاني لا يشكل أية مشكلة في الأجل الطويل على النمو الاقتصادي. أما الثاني فلا يؤمن بالصفة الأبدية لقانون الغلة المتناقصة، فالإنسان حسبه من خلال زيادة معارفه وعلومه وتطوير التكنولوجيا، يستطيع ابتكار أدوات وأساليب إنتاجية تخفف من مفعول هذا القانون، ولاسيما أنه يتسم -أي الإنسان- ببعد النظر، والميل إلى تجديد حاجاته الضرورية والكمالية، مما يدفعه إلى الحد من تكاثره طواعية .
3- النظريات الاقتصادية الحديثة: أحدثت الثورة التكنولوجية التي شهدتها أوربا مطلع القرن19 ، نموا هائلا في الفنون الإنتاجية والصناعات الثقيلة والتوزيع في زراعة الأراضي، وهو ما تجلى في ارتفاع مستوى الإنتاجية وزيادة المساحات المزروعة، وارتفع معدل الربح مسببا تزايدا في تراكم المال والناتج المحلي وفرص التوظيف، الأمر الذي أنعكس سريعا على الفكر السكاني السائد آنذاك، حيث لم يعد ينظر إلى تأثير التزايد السكاني على حجم الإنتاج، من قبل رواد الفكر الكلاسيكي الجدد حينها نظرة مطلقة، بمعنى أن الزيادة السكانية يمكن تحت تأثير شروط معينة، أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، كما يمكن لها أن تؤدي إلى تدهورها في ظل سيادة شروط أخرى حيث طرحت في هذا الإطار عدد من النظريات، اخترنا منهم العينة التالية :
- نظرية الحد الأمثل: طرح مفهوم الحجم الأمثل للسكان في كتابات علماء الاقتصاد لأول مرة على يد "أدم سميث"، ثم تجدد العهد معه مرة أخرى في سنة 1833 في كتاب "مبادئ الاقتصاد السياسي" لــ: سيد جويك، ومن بعده جاء الدور على كل من ادوين كانان في سنة 1888 في كتابه "أساسيات الاقتصاد السياسي"، والاقتصادي السويدي كنوت فيكسل وذلك في عام 1901 ، في سلسلة محاراته عن الاقتصاد القومي، قبل أن يستقر مفهومه كمصطلح شائع لدى الاقتصاديين الرأسماليين آنذاك، بعد أن أماط اللثام عنه بوضوح تام المفكر الاقتصادي الانجليزي ألكسندر كارسوندر، والذي تناوله في كتابيه "المشكلة السكانية" و"سكان العالم" والذي حاول من خلاله الربط ما بين الزيادة السكانية وموارد الثروة، معتبرا أن الإنسان جاهد دائما للوصول إلى العدد الأمثل، والذي معناه العدد الذي يتيح الحصول على أعلى متوسط للعائد بالنسبة إلى الفرد الواحد، وذلك بمراعاة كل من طبيعة البيئة، درجة المهارة المستخدمة من قبل الأفراد، وكذا طبيعة وعادات الناس الذين يعنيهم الأمر وتقاليدهم، وجميع الحقائق الأخرى ذات الصلة بالمسألة، وعندئذ يتحكم الإنسان بشكل عام في عدد أفراده بقصد الوصول إلى الحد الأمثل ، والذي يتسم بكونه غير ثابت حيث يتباين بين زمان وأخر، وذلك تبعا لتغير الظروف السابق ذكرها، حيث أنه كلما كانت المهارة عند أفراد المجتمع كبيرة، كلما زاد احتمال أن يصبح هذا المجتمع كثير السكان، في حين أن هناك مجتمعات غنية بموارد الثروة (أراضي زراعية، ثروة معدنية أو غيرها من الموارد التي توفر الإنتاج...) لكن عدد سكانها بقي قليل، كما هو الأمر بالنسبة لكل من: السودان، أستراليا، العراق وأعتقد كارسوندز أن نمو السكان يخضع لسيطرة الإنسان نفسه، نظرا لأنه محكوم بتفاعله مع بيئته الفيزيقية والاجتماعية، وعدده على هذا الأساس يتغير من وقت لأخر تبعا لتغير هذا التفاعل، فكلما ازداد التفاعل اتجه الإنسان إلى زيادة العدد والعكس صحيح أيضا، وهو هنا يخالف مالتوس يزداد بمعدلات لا تتناسب مع موارده، مؤيدا بذلك الرأي القائل بأن الزيادة في أعداد السكان، تحددها إلى حد كبير أفكارهم عن الأعداد المرغوب فيها والمتناسبة مع ظروف الحياة، وأن الإنسان أضطر لابتداع أساليب كالإجهاض، ووأد البنات، وعزل النساء...كي يسيطر ويتحكم بأعداد أ فراده مبتدعا في ذلك مقياسا يحدد به ذلك الحجم وهو متوسط الدخل الفردي، فإذا كان هذا الدخل أخذ في الزيادة دل ذلك على أن هذا المجتمع بحاجة إلى المزيد من السكان، وأنه لم يصل إلى الحد الأمثل بعد.
- نظرية الفجوة السكانية: يرى روبرت بولدوين صاحب هذه النظرية، أنه إذا كان السكان يزيدون بمعدل أعلى من زيادة متوسط دخل الفرد، فإن الاقتصاد القومي كله سيقع في المصيدة، حيث تسوء الأوضاع الاقتصادية كلها ويتدهور الوضع المعيشي، ولا تسير عملية التنمية بالمعدل المرغوب فيه. وعلى العكس من ذلك، إذا زاد دخل الفرد في المتوسط بمعدل يفوق معدل نمو السكان، فإن الاقتصاد القومي سينتعش وعندئذ تتعزز عملية التنمية ويزداد التكوين الرأسمالي .
- نظرية عرض العمل غير المحدود: ظهرت هذه النظرية في سنة 1954 في شكل مقالة هامة نشرها آرثر لويس في مجلة "الدراسات الاقتصادية والاجتماعية" لمدرسة مانشستر، معتمدا على بعض الحقائق التي تسود في البلاد المتخلفة مثل ارتفاع معدلات النمو السكاني، بطالة حادة، ازدواجية اقتصادية بفعل وجود قطاع صناعي فتي، يتسم بارتفاع مستوى الإنتاجية عنصر العمل البشري، ارتفاع معدلات الأجور، تكنولوجيا متقدمة وقدرة محدودة على خلق فرص توظيف واستيعاب العمالة بسبب ضآلة حجم الفائض الاقتصادي، والذي يمكن أن يتحول إلى تراكم رأسمالي في مقابل قطاع زراعي تقليدي –قطاع الكفاف- يتسم بوجود بطالة مقنعة، وتكنولوجيا محدودة، وضعف الأجور... إلخ. حيث يرى في هذا الصدد آرثر لويس، أنه من الممكن الاستفادة من هذا الوضع السكاني لدفع عجلة التنمية الاقتصادية حينها، إذا أمكن سحب عدد من العمال الزراعيين الزائدين عن حاجة هذا القطاع، لكي يعملوا في القطاع الصناعي، مشترطا لنجاح ذلك 03 ضوابط أساسية وهي:
أ. الاستثمار في القطاع الصناعي يتوقف على الفائض الذي يتحقق بداخله.
ب . أجور العاملين في القطاع الصناعي، يجب أن تعلو مستوى الإنتاجية الحدية لعنصر العمل بالقطاع الزراعي.
ت . تكلفة تدريب العمال الفائضين في القطاع الزراعي، للالتحاق بالقطاع الصناعي، يجب أن تكون ضئيلة وثابتة عبر الزمن.
وانطلاقا من هذه الشروط يمكن أن تبدأ عملية التنمية، بالسحب من عرض العمل غير المحدود في القطاع الزراعي وتغذية القطاع الصناعي بهؤلاء العمال، مع ضرورة المحافظة على انخفاض أجورهم، حتى يتحقق الرأسماليين فائض اقتصادي في نهاية العملية الإنتاجية يوجه للاستثمار، وحينما يزداد الاستثمار تزيد قدرة الرأسماليين على إلحاق المزيد من المزارعين بالقطاع الصناعي، وتستمر العملية هكذا، فتقل البطالة ويزداد تراكم رأس المال وتنمو الإنتاجية، ويرتفع الدخل ومعه معدل النمو الاقتصادي .
- نظرية الطلب على العمل: يعتقد سدني كونتز بأن الطلب على العمال على المدى البعيد يؤثر في نمو السكان وفي محاولته تطبيق هذه النظرية على الدول النامية، لاحظ بأن دخول الصناعة إلى اقتصاديات الدول النامية لأول مرة، يعمل على زيادة الطلب من كافة الفئات، ونتيجة لذلك يميل عدد السكان إلى الزيادة بسبب عاملين، وهما هبوط معدلات الوفيات من جهة، و زيادة معدلات الخصوبة من جهة أخرى.
وأفترض كونتز أن الوفيات ترتبط مباشرة بالخصوبة، فبينما ترتبط الخصوبة ارتباطا عكسيا بالتنمية الاقتصادية أو الدخل، موضحا بان معدلات الولادة العالية بين الأغنياء تبدأ بالانخفاض في مرحلة مبكرة من التنمية، وذلك لأن عمل الأطفال والنساء أصبح قليل الأهمية نسبيا، وطالما استمر الطلب على العمل الأبناء بين العوائل الفقيرة، فإنهم يميلون إلى زيادة عدد الأطفال.