النظريات السكانية
Site: | Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2 |
Cours: | مدخل الى الديموغرافيا |
Livre: | النظريات السكانية |
Imprimé par: | Visiteur anonyme |
Date: | Friday 22 November 2024, 18:06 |
Description
يحتوي هذا الكتاب على النظريات السكانية الأربعة
1. النظريات السكانية عند مالتوس
1- النظرية السكانية عند مالتوس:
يعتبر مالتوس من المهتمين بالمسألة السكانية وهو المؤسس الحقيقي لهذا الحقل من الدراسات ، وذلك بفعل التجائه لاستخدم الأسلوب العلمي والإحصاء لدعم أفكاره حول حركة السكان، قدم مالتوس أفكاره الأولى في ميدان الديموغرافيا، في كتابه والذي نشره سنة 1789 An Essay on the principle of population أصل المشكلة السكانية بدون توقيع، وذلك نظرا لما أنطوى عليه من أفكار متناقضة مع نشاط مؤلفه، باعتباره كان قسا ومدرسا في جامعة دينية بكامبريدج، قبل أن يعيد نشره مرة أخرى منقحا ومذيلا ، وهو العمل الذي أكسبه شهرة واسعة وصيت ذائع بعدها، وذلك إلى جانب عدد أخر من الأعمال أبرزها: "رسالة في الاقتصاد السياسي" في سنة 1803 ، و"ملاحظات عن أثار القوانين الغلال" في عام 1814 ، ومن بعدهما "بحوث في طبيعة وتطور الريع" الصادر في سنة 1815 ، وهي الأعمال التي لم يركز فيها جهده فقط على وصف الزيادة السكانية أو نقصانها، بل ضمن إياها أيضا رد ودحض لأراء بعض الفلاسفة في ذلك العصر، من أمثال: جودوين، ديفيد ريكاردو، ساي، كوندرسيه … والذين كانوا يرون أن جميع مشاكل المجتمع سوف تنتهي، بمجرد ما يتم القضاء على النظام الاجتماعي القائم، وهو ما كان يرفضه مالتوس جملة وتفصيلا، معتبرا أن مبدأ السكان يلعب دورا هاما في هذه القضية، مخضعا تطور السكان وتزايدهم لقانون عام، قام فيه بالمقارنة ما بين الزيادة الطبيعية والموارد المعيشية، محذرا من مغبة المخاطر الناجمة عن كثرة النسل، وذلك في قوله "إني أؤمن بمسلمتين أساسيتين، الأولى أن الطعام الضروري لوجود الإنسان، والثانية أن الهوى والعاطفة بين الجنسين أمر ضروري وسيبقى على حالته الراهنة وقد خلصت هذه الدراسة إلى اعتماد مجموعة من النتائج، أهمها:
أ. هناك تناسب طردي بين حجم السكان والموارد الغذائية، وٕأن الزيادة في عدد السكان لا بد أن تكون مصاحبة للزيادة في الموارد الطبيعية.
ب . سبب الفقر في المجتمع هو أن عدد السكان أكثر من العدد الكافي لإشباع حاجات السكان.
ت . إن قدرة الإنسان على التناسل أكبر من قدرة الأرض على الإنتاج ما يتطلبه البقاء الإنساني من غذاء، حيث تبين أن الزيادة السكانية تتضاعف في كل 25 سنة ما لم تواجه صعوبات، وأن سكان العالم يزدادون عامة على أساس متتالية هندسية 2- 4-8-16-32 ، بينما الزيادة في الموارد الغذائية على أساس متتالية عددية وحسابية 1-2-3-4-....وسكان العالم سيواجهون آجلا أم عاجلا مشكلة نقص الغذاء.
ث . من أجل التهوين من الآثار المخيفة لزيادة السكان، حدد مالتوس نوعين من الموانع والتي من شأنها أن تساعد على الحد من الزيادة السكانية، أولاها وسميت بالموانع الوقائية، وهي التي تعرقل نمو السكان بأسلوب غير مباشر، من خلال إسهامها في خفض نسبة المواليد، وهي تعتمد على إرادة الإنسان في منع الشر قبل وقوعه، فإذا كان قادرا ماديا على الزواج فعليه أن يتزوج، أما إذا كان غير قادر على إطعام الأسرة التي يزمع تكوينها، فعليه تأخير سن الزواج، أو اللجوء لإهمال العلاقات الجنسية، كما تتضمن كذلك الرذيلة، العلاقات الجنسية غير الطبيعية... أما الثانية فتسمى بالموانع الايجابية، وهي تشمل كافة العوامل التي تؤدي إلى قصر فترة الحياة وزيادة نسبة الوفيات، من شاكلة الأمراض والأوبئة، العمل بالمهن غير الصحية، الفقر، الحروب والمجاعات، اكتظاظ المدن بسكانها، التربية السيئة للأطفال، وقد انتقد مالتوس كثيرا في هذا الإطار الفقراء الذين يتزوجون كي ينجبوا أطفالا ليس لهم مكان شاغر على مائدة الطبيعة، وليس لهم الحق في طلب المعونة من المؤسسات الخيرية وغيرها، مادام قد اقترفوا ذنبا بحق أنفسهم، بمعارضتهم قوانين الطبيعة وعدم الإصغاء لصوت العقل، حيث يقول في هذا الصدد: "إن الفقير يتهم رعايا قريته وجمعياته الخيرية لعدم إغاثته، ويتهم الأغنياء الذين لا يمدون له يد المساعدة، ويتهم المؤسسات الاجتماعية بعدم إعالته، وحتى قوانين السماء يتهمها، لأنها وضعته في أدنى السلم الاجتماعي محاطا بالفقر والبؤس، وهو في محاولاته للبحث عن مصدر بؤسه وشقائه ليوجه إليه الاتهام، فإنه ينسى أن يوجه اتهامه إلى المصدر الوحيد لما يعانيه من فقر وتعاسة، وهذا المصدر هو نفسه وهو وحده الذي يستحق اللوم والعتاب"
- تقييم عام لنظرية مالتوس: تسبب التضخم السكاني الذي سجلته أوروبا خلال فترة وجيزة من القرن 19 ،و إسهامه بشكل بارز في النهضة الاقتصادية التي أحرزتها، في دحض مصداقية هذه النظرية وتوجيه سهام النقد لها،إزاء عديد المسائل التي انطوت عليها، والتي من أبرزها ما يلي:
أ. استندت أفكاره إلى بعض الافتراضات المنافية للعلم والمخالفة للواقع، فمثلا قانون التكاثر الهندسي للسكان لا يصح إلا في حالة لم يعترضه فيها أي عارض، الأمر الذي يعني أن إطلاق صفة القانون عليه يظل موضع شك، إذ أن التعدادات المختلفة للسكان أثبتت خطأ ذلك فقد كان عدد سكان العالم في عصره حوالي1 مليار/ن، وبعد قرنين أصبح يقدر ب 06 ملايير/ن، بينما حسب مالتوس وبناءا على متتاليته الهندسية السكانية، فمن المفترض أن يضاهي هذا العدد حاليا 256 مليار/ن كما ارتكب خطأ علميا فادحا، حين أراد جعل أفكاره قانونا عاما يسري في كل زمان ومكان، وقد تناسى بأن هناك فواصل زمنية عديدة، شهدت تراجعا في النمو بسبب الظروف المحيطة بها.
ب . استند مالتوس لإثبات صحة قانونه بشأن الزيادة في إنتاج الغذاء، حسب المتتالية الحسابية على مجموعة من الأفكار غير الدقيقة، والتي من بينها نذكر ما يلي:
هذا القانون لكي يتحقق، يتعين التسليم بأن وسائل الإنتاج لا تتطور، كما هو الشأن بالنسبة لقانون تجانس وحدات عناصر الإنتاج المتغير، وثبات عناصر الإنتاج الأخرى، وهي افتراضات غير واقعية، إذ أثبت الواقع أن الإنتاج الغذائي يمكن أن يستمر في الزيادة على نحو تدريجي، وبشكل قد يفوق حتى نمو السكان، بفضل التوسع العمودي والأفقي للإنتاج أي أن طرحه قد مال للأخذ بالتحليل الإحصائي، وذلك خلافا لما أدعاه بشأن وجود علاقة طردية بين الإنتاج الغذائي والسكان، وأن هناك الكثير من الدراسات والوقائع التاريخية، التي أثبتت أن مثل هذه العلاقة كثيرا ما تكون عكسية، كما حصل في سهول أمريكا أين أدت الزراعة لزيادة الثروة، في حين ظل ازدياد السكان بمعدلات أقل اعتبر النشاط الزراعي هو المصدر الوحيد للغذاء، مهملا كافة المصادر الأخرى التي تسهم في زيادة الموارد الغذائية، سواء بشكل مباشر مثل قطاع الصناعة الغذائية، أو بشكل غير مباشر من خلال قطاع الصناعات التحويلية، الذي يدعم النشاط الزراعي ويمده بكافة المستلزمات الضرورية لزيادة الإنتاج، كما يسهم هذا القطاع في خلق فرص عمل إضافية.
ت . ينبثق تصوره للمتغير السكاني على أنه متغير مستقل، وأن عملية التكاثر البشري تعد عملية بيولوجية بحتة منعزلة كلية عن المحيط السوسيوثقافي والسياسي الذي يعيش فيه الإنسان، كما أن قانون "الغلة المتناقصة" الذي تحدث عنه، أهمل أثر التطور التكنولوجي في زيادة الإنتاج، وهو ما يبطل من الناحيتين النظرية والتاريخية الأساس الذي ارتكزت عليه هذه النظرية.
ث . أعيب عليه اعتماده المطلق على أفكار غيره من المفكرين، حيث أتضح للكثير من الباحثين سيادة تشابه طاغي بين الأفكار التي كان يروج لها، وبين تلك التي طرحها من قبله كل من ريتشارد كانتيلون في كتابه "بحث في طبيعة التجارة بصفة عامة" المنشور في سنة 1755 ، وكذا "جيمس ستيوارت" في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي" الصادر سنة 1767 ، ولكنها لم تحظى بالشهرة نفسها التي اكتسبتها على يد مالتوس فيما بعد، بفعل عدم توافر الظروف السوسيواقتصادية الملائمة ، الأمر الذي جعل البعض يذهب إلى التأكيد على أن مالتوس لم ينتحل هذه النظرية فقط بل اتهم بسرقتها.
2. النظريات الطبيعية
النظريات الطبيعية في علم السكان:
تمهيد: شكل الإخفاق الذي صاحب النظرية المالتوسية، وعجزها عن إدراك وتفسير النمو السكاني الحاصل بشكل صحيح وكامل، دافعا قويا لظهور نظريات جديدة تسعى لتفسير الواقع الجديد للمشكلة السكانية، وهي النظريات التي يمكن تشطيرها عموما لثلاثة اتجاهات كبرى، أولها وتسمى بالنظريات الطبيعية أو بالبيولوجية، وتقوم أساسا على الاعتقاد بأن ما يتحكم في وتيرة النمو السكاني، هو طبيعة الإنسان بوجه عام وطبيعة العالم الذي يعيش فيه. وطبقا لهذا التصور، فإن سيطرة الإنسان على نموه يعتبر أمرا سطحيا للغاية، وهو الاتجاه الذي ساد في كتابات كل من: دبلداي ،هربرت سبنسر، كوارد جيني، سادلر وآخرون غيرهم.
1- نظرية دبلداي (1870-1709) : Doubleday يذهب دبلداي في كتابه القانون الحقيقي للسكان المنشور في سنة 1837 ، إلى أن زيادة التغذية تؤدي إلى تناقص القدرة الإنجابية للسكان، ما يعني أن هناك علاقة عكسية تربط ما بين الموارد الغذائية والزيادة السكانية، وأنه كلما تحسنت موارد الغذاء أبطأت الزيادة السكانية. كما أن تكاثر السكان يكون أكبر لدى الطبقات الاجتماعية الفقيرة، ويتناقص بين الأثرياء في حين يحافظ على حجمه فيما يتعلق بالطبقات المتوسطة. وعلى الرغم من الرواج الذي لاقته هذه النظرية حتى عهد قريب، حتى أن واحدا مثل جوزيه دي كاسترو قد وجد أن قلة البروتين في الغذاء تؤدي إلى زيادة النسل، الأمر الذي يترتب عليه أنه إذا أردنا أن نقلل من زيادة السكان في بلد ما فيجب أن تزيد نسبة البروتينات في الغذاء سكان ذلك البلد، إلا أنها انطوت هي الأخر على مجموعة من نقاط الضعف، والتي منها نذكر:
- لم يفرق دبلداي بين القدرة على الإنجاب وبين النمو الفعلي للسكان .
- قوله "إن أشد الناس قدرة على التناسل أشدهم بؤسا، وأن قوة الإنجاب تميل إلى التناقص الذي ينجم عن كثرة الغذاء"، أمران لا تسندهما أية حقائق علمية ولا يمكن الجزم بهما بالمطلق، وهو ما يجعلهما غير واقعيان.
2- نظرية سادلر: 1835- 1780يعتبر Sadler مصلحا اجتماعيا كما كان من رجال الاقتصاد المعاصرين لمالتوس، والذي أبان عن اهتمام جلي بالمسألة السكانية ترجمه في كتابه الصادر في عام 1830 والمسمى بقانون السكان، والذي ذهب فيه إلى التسليم بأن القانون الطبيعي المتحكم في عملية التناسل، يختلف جذريا عن القانون الذي أخذ به مالتوس، وأن الميل البشري إلى الزيادة يتناقص كلما زاد الحجم السكاني، وهو ما يعني أن التكاثر عملية تتحكم في نفسها بنفسها، وأن العوامل البيولوجية تتدخل في حماية المجتمع الإنساني من التضخم، وهي الفكرة التي يصدقه قوله: "أن قدرة الإنسان على التناسل تتناسب عكسيا مع عدده"... كما يعتقد سادلر أن الزيادة في السكان لا تتأثر بالبؤس والرذيلة كما أعتقد مالتوس، و إنما تتأثر بالسعادة والغنى بين أفراد المجتمع، فالعمل على الحرمان من الترف يشجع على التناسل وذلك بتنمية القدرة عليه، وأنه في كل واحدة من مراحل الرقي الإنساني، وتحول المجتمعات من مراحل الصيد والزراعة، إلى الصناعة والتكنولوجيا الحديثة ينقص تدريجيا عدد السكان، إلى أن يقف عند نقطة محددة يبلغ فيها عدد كبير من السكان درجات عالية من الرفاهية . ورغم التفاؤلية التي طبعت أفكاره، إلا أنها مع ذلك لم تخلو من العيوب مما عرضها لوابل من الانتقادات، أبرزها:
أ. إهمالها لدراسة كل الحقائق المعروفة عن نمو السكان، من ذلك مثلا أن الصينيين والهنود... يعدون من أكبر الشعوب مقدرة على التناسل، ولكنهم يعانون في الوقت عينه كثرة السكان الخطيرة.
ب. لم يفرق بين القدرة على الإنجاب والنمو الفعلي للسكان، إذ أن القدرة على الإنجاب قد تكون كبيرة، ومع ذلك قد يكون النمو الفعلي للسكان قليلا، بسبب كثرة حالات الوفيات على سبيل المثال.
3- هربرت سبنسر(1850- 1903): فيلسوف ومفكر انجليزي اشتهر بفكره الاجتماعي المرتكز على التفسير البيولوجي، كما هو واضحا في مؤلفه الموسوم باسم الأسس البيولوجية، والذي ضمن إياه آرائه ضمن فلسفة التركيب واتجاهات السكان التي وضعها عام 1854 ، حيث يرى سبنسر أن هناك تعارض قائم بين الفردية والتكوين، أي بين اهتمام الإنسان بنفسه وقدرته على الانسلال، حيث أن تعقد الحياة الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي، يتطلبان من الإنسان أن يبذل جهود إضافية للمحافظة على حياته الذاتية، وأن ذلك يستوجب استهلاك نسبة كبيرة من الطاقة الفسيولوجية المتيسرة للجنس، في الأنشطة المرتبطة بالتطور الشخصي والتعبير، ومن ثمة يتبقى له قدر ضئيل من هذه الطاقة من أجل مصالح وأنشطة التناسل، وذلك ما يؤدي أليا إلى خفض قدرته على التوالد، فكلما زاد الجهد الذي يبذله الإنسان لضمان تقدمه الشخصي في بعض الميادين: كالعمل، التعليم وغيرهما، تراجع اهتمامه بالتكاثر لاسيما لدى النساء، لأن ذلك يتطلب منهن وقتا وطاقة ويصيبهن بالضعف، وهذا يؤدي إلى التقليل من الزيادة السكانية، لأنه يصاحب التطور الاجتماعي الذي تظهر فيه النزعة الفردية بشكل واضح. كما يذهب سبنسر إلى أن الزيادة الغذائية تؤدي إلى زيادة الإقبال على الانسال، وأن زيادة السكان تمثل السبب الأساسي لرقي الشعوب وتطورها، فزيادة السكان تدفع الإنسان إلى الأمام، وأن الضغط السكاني فيرأيه يمثل عاملا ايجابيا، لأنه يحث أكثر على استغلال الموارد المتاحة. لكن هذه الجهود لم تخلو هي الأخرى من العيوب، والتي كان أبرزها:
أ. سعيه الحثيث لصياغة نظرية سكانية، تنسجم مع نظريته العامة حول التطور البيولوجي، غير أن الحياة لا تنطوي على ذلك الترابط الجميل الذي كشفه في نظريته، وأنه إذا كان هناك تنافر بين التناسل والنضج الذاتي للأفراد فهو ذو أهمية قليلة بكل تأكيد.
ب . حرصه على تدعيم نظريته بشواهد واقعية، لم تكن كافية ولا ممثلة لجميع الاحتمالات أو شاملة للعوامل المختلفة المتداخلة التي تؤثر على السلوك الإنجابي، مغفلا في ذلك عددا أخر من الشواهد التي تدحض نظريته، ومن ذلك مثلا أن معدلات الخصوبة المتناقصة ليست نتاجا للتغيرات الفسيولوجية فقط، بقدر ما تكون أيضا نتيجة لتضافر مجموعة أخرى من العوامل، كالالتجاء لاستخدام وسائل حديثة لتحديد النسل، أو النظام القيمي والثقافي السائد في المجتمع...
ت . تأثير تعليم المرأة في قدرتها على التناسل وإن كان حقيقية أكدتها العديد من الدراسات، إلا أنه تبقى هناك عوامل اجتماعية عديدة غير التعليم تؤثر في قدرة على التناسل، ذلك أن المرأة التي نالت قسطا كبيرا من التعليم، لا بد أن تكون قد تجاوزت أهم فترات خصوبتها والتي تمتد عادة ما بين 30-20 سنة.
4- نظرية كوارد جيني (1884-1965):يعد كوراد جيني Corrad Gini مفكر اجتماعي ايطالي، اهتم بدراسة التغير السكاني باعتباره مؤشرا على التغير الساري في المجتمع، في كتابه "أثر السكان في تطور المجتمع" الصادر سنة 1912 ، والذي أوضح فيه وجود علاقة بين تطور المجتمع، وبين ما يحدث فيه من متغيرات مرحلية في النمو السكاني، أي أنه كان يرى أن العامل السكاني يعمل بصورة ما على تغير طبيعة السكان، وهي التغيرات التي تختلف بصورة أو بأخرى باختلاف الطبقات الاجتماعية فيه.
وقد أنبنى تصوره هذا على أساس أن التطور الاجتماعي يشبه حياة الفرد، والذي يبتدئها بمرحلة النشأة ثم مرحلة التقدم ليدركها التدهور في الأخير، مفترضا أنه في كل مرحلة من مراحل تطور وتغير المجتمع، تتميز بخصائص محددة تميز نمو السكان ونتائج تترتب على هذا النمو، وتؤثر في مختلف جوانب المجتمع البيولوجية والمورفولوجية، والاقتصادية وغيرها، حيث تتميز المجتمعات في مرحلة تكوينها ونشأتها بزيادة الخصوبة، أما في المرحلة الثانية وهي مرحلة التقدم فإن المجتمع يكون مكتظا بالسكان لذلك تبدأ الهجرة من هذا المجتمع. غير أن هذا التصور الذي صاغه كوارد جيني لم يخلو هو الأخر من الانتقادات والتحفظات التي سيقت ضدها، والتي من بينها نذكر ما يلي:
أ. يعتقد جيني بوجود قوة طبيعية تحدد عدد السكان بالزيادة أو النقصان، وتظهر هذه القوة في العمليات البيولوجية، ونقص القدرة على التناسل، وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة خطأ التفسير استناد إلى طبيعة غامضة لا يستطيع الإنسان التحكم فيها وضبطها.
ب . استمد جيني رؤيته فيما يتعلق باتجاه الزيادة السكانية أو نقصها، انطلاقا من دراسته لتاريخ بعض الأمم القديمة كاليونان والرومان، وهو ما لا يمكن اعتباره تعميما باعتبار أن بعض الشعوب الأخرى كالهند والصين كانت لها اتجاهات مغايرة لذلك.
ت . تتسم بعض المجتمعات بدرجات عالية من الخصوبة، لا يمكن التمييز فيها بين خصوبة طبقة اجتماعية عن طبقة أخرى، كما هو الحال بالنسبة للمجتمعين الصيني والهندي.
ث . العوامل التي تؤدي إلى التقليل من النمو السكاني عديدة وليست هي فقط الحروب والهجرة، ومن بينها نجد الإجهاض، الأوبئة، المجاعات، ارتفاع نسبة الوفيات... وهي عوامل لم يلتفت لها جيني، وقد يؤثر ظهورها في سير تطور المجتمع في اتجاه يختلف كليا عن الاتجاه الذي تصوره.
3. النظريات الإجتماعية
النظريات الاجتماعية في مجال دراسة السكان
ومن أهم رواد هذا الاتجاه نذكر كل من: كارل ماركس، دوركهايم، ، أرسين ديمون وآخرون غيرهم.
1- نظرية كارل ماركس: يعتبر كارل ماركس Karl marx رجل اقتصاد وسياسة واجتماع في المقام الأول، اشتهر بكتاباته وأرائه المناهضة للنظام الرأسمالي لم يتعرض ماركس بشكل مباشر لقضية أسباب زيادة السكان، وإنما قام بصياغة مجموعة من المبادئ الأساسية، التي اعتبر أنها تحدد المشكلة السكانية والعوامل السوسيواقتصادية المتعلقة به، وذلك ضمن الإطار الواسع للمادية التاريخية.وقامت أراء ماركس في تناوله لهذا المسألة، على التشكيك في صحة القوانين التي صاغها مالتوس ، والقائلة بأن الموارد لا يمكنها أن تنمو بنفس القدر الذي ينمو به السكان، وأن فقر وشقاء الإنسان يعود إلى ميله الطبيعي لإنجاب عدد من الأطفال، يزيدون على نطاق قدرته على إعالتهم.
ولم يرى أي داعي للتشكيك في قدرة كل من العلم والتكنولوجيا، على زيادة الكمية المتاحة من الغذاء والسلع الأخرى، بل على العكس من ذلك تماما، فإن النتيجة الطبيعية للنمو السكاني هي الزيادة الجوهرية في الإنتاج، ذلك أن كل عامل ينتج كمية من الإنتاج أكبر مما يحتاجه، ومن ثمة فإنه في المجتمع المنظم تنظيما جيدا تؤدي زيادة السكان إلى ثروة أكبر و يرجع ماركس حالة الفقر التي تعتري المجتمعات الرأسمالية إلى النظام السائد فيها، معتبرا أنه لا يوجد ما يساهم به هذا النظام من إتاحة الفرص لتشغيل كل أفراد المجتمع، طالما أن الآلات تتزايد بسرعة تفوق تزايد العمال، فيحدث فائض في السكان نتيجة لمعدل التشغيل المتناقص، واختصار النفقات وتراكم رأس المال في صورة سلع إنتاجية، مما يؤدي إلى نقص الحاجة إلى العمال، ويصبح وجودهم في الإنتاج زائدا عن الحاجة نسبيا، مما يسهم في تكوين جيش احتياطي من العمال، يكفل لهم الحفاظ على الأجور عند حد الكفاف، من خلال التنافس على الوظائف بين العمال، بل أكثر من ذلك فإن وجود هذا الفائض من العمال، سوف يدفع بالعمال إلى زيادة إنتاجياتهم حتى يحافظوا على وظائفهم. وهي الأوضاع التي تنبأ ماركس بأنها سوف تتحول تدريجيا إلى عامل مدمر للمجتمع الرأسمالي، وذلك من خلال إثارة حالة من السخط العام ثم الثورة ضد هذه الأوضاع، تنتهي بإقامة نظام إنتاج اشتراكي تتلاشى فيه مشكلة الزيادة السكانية، والتي سوف يتم استيعابها بواسطة الاقتصاد دون إحداث آثار جانبية، وذلك من خلال التشغيل الكامل والمتوازن بين رأس المال والعمال. كما يرى أنه لا يوجد قانون طبيعي عام للسكان، وأن لكل عصر ولكل أسلوب في الإنتاج على مر التاريخ قانون السكان الخاص به، والذي يتناسب مع الظروف الخاصة السائدة فيه
- الانتقادات التي وجهت إلى أفكار ماركس: تعرض الإسهام الماركسي في مجال النمو السكاني إلى جملة من التحفظات التي أحيطت به حتى من قبل أشد المتحمسين له، وذلك بفعل العيوب التي اعترت عملية الالتزام بإعماله على أرض الواقع، والتي من أبرزها نذكر ما يلي:
أ. أعاب ماركس على مناوئه في الرأي من شاكلة روبرت مالتوس وغيرهم، تحيزهم الفاضح ودفاعهم المستميت عن مصالح الطبقات الحاكمة، إلا أنه كرر الخطأ نفسه من خلال تحيزه العلني لطبقة العمال، وهو ما أثر في طريقة أبحاثه وفي النتائج التي خلص إليها.
ب . اعتقد ماركس أن الاشتراكية هي النظام الوحيد الذي يستطيع أن يجنب المجتمعات الإنسانية ويلات التزايد السكاني، مهملا في ذلك أثر العديد من العوامل الأخرى كالحرية الشخصية فيما يتعلق بالزوج والانسلال، وهو ما لا يتفق مع طبيعة البشر وطبيعة الحياة الاجتماعية للسكان
ت . لم يتفق كافة الماركسيين مع الأفكار الأصلية لماركس حول السكان، حيث اصطدمت الدول التي أخذت بالفلسفة الماركسية كمشروع سياسي واقتصادي، مشكلات ناجمة من أن النظرية الأصلية لم تقدم شرحا وافيا، حول القسم الخاص بكون كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، تنتج علاقات مختلفة بين النمو السكاني والتنمية الاقتصادية.
ث . يرى ماركس أن قانون السكان الاشتراكي يقف على وجه النقيض من قانون السكان6 الرأسمالي، فإذا كان معدل المواليد منخفضا في ظل النظام الرأسمالي ، فإنه سيكون مرتفعا في ظل النظام الاشتراكي، وٕإذا كان الإجهاض أمرا سيئا في الأول فإنه أمر جيد بالنسبة للمجتمع الاشتراكي وهكذا، وهو ما يعني أن الاتجاهات الديموغرافية في الدول الاشتراكية سوف تختلف كلية عن غيرها في البلاد الرأسمالي، غير أن واقع الحال كان يقول عكس ذلك تماما، حيث لم تختلف هذه الاتجاهات في المجتمعات الاشتراكية عن نظيرتها في المجتمعات الرأسمالية، ومن شواهد ذلك أن الحكومة الصينية وأمام حتمية التعامل مع اكبر حجم سكاني في العالم، قد وجدت نفسها مجبرة على هجر الايدولوجيا الماركسية في مجال السكان، حيث قامت منذ سنوات السبعينات بإعادة تنظيم الجهود من أجل السيطرة على نمو السكان، من خلال تبني واحد من أكثر البرامج الحكومية شدة في التعامل مع مشكلة النمو السكاني، بهدف تقليل الخصوبة من خلال فرض قيود على الزواج أي تبني الحل المالتوسي) ومنع الحمل (الحل الذي قدمه المالتوسيون الجدد والإجهاض، بل أكثر من ذلك فإن الاشتراكية السوفيتية مثلا لم تستطع القضاء على أسوء الأمور التي ألصقها ماركس بالرأسمالية، وهي ارتفاع معدلات الوفيات بين الطبقات العاملة مقارنة بمعدلات الوفيات بين الطبقات الأخرى، كما أن معدلات المواليد قبل 1990 انخفضت إلى مستوياتها الدنيا، لدرجة أنه لم يعد من الممكن الإدعاء بأن ذلك مرتبط بالبرجوازية مثلما ذهب إلى ذلك ماركس .
2- نظرية إميل دوركايم: هو أحد أبرز علماء الاجتماع الفرنسيين، اشتهر بنظريته حول تقسيم العمل، والتي جرى إسقاطها في حقل الدراسات السكانية، و يذهب دوركايم إلى أن زيادة السكان في المدن تتم وفق آلية تختلف عن الآلية التي تتم بها زيادة لدى سكان القرى والأرياف، ففي هذه المناطق يزداد السكان بفعل النمو الطبيعي، بينما تتحقق زيادة السكان في المدن بفعل عامل أخر وهو الهجرة، ففي المدن يعيش السكان في شكل كتل متراصة بعضهم إلى جانب بعض، لا يحتاجون غلى مساحات كما في الأرياف لاسيما في إنتاج قوتهم.
ليس من الضروري أن يكون سكان المدن كبيرا ومعدل نموهم عاليا دائما، بل أن طبيعة الحياة وما تفرضه عليهم تكفي لأن يدخل الأفراد في علاقات وروابط حميمة وقوية لتسهيل عملية تبادل الأعمال والأفعال بينهم.
وأكد على أن عملية تقسيم العمل الاجتماعي تكون أكثر سهولة وأوسع نطاقا كلما أزداد عدد أفراد المجتمع، إذ تزداد حالات الاحتكاك والتفاعل بينهم، الأمر الذي يساعد على رفع قدرتهم في تبادل الأفعال والأعمال،4كما أن سكان المجتمع يتجهون دوما نحو التكيف بعضهم مع البعض الأخر، من خلال مرورهم بم ا رحل اجتماعية واقتصادية حددها بمرحلة الصيد، ثم الرعي، فالزراعة، والصناعة، وهكذا تزداد الكثافة تبعا للانتقال من مرحلة لأخرى، ويزداد التركيز والاكتظاظ ويتولد من خلال ذلك تيار من تبادل الأفعال وردود الأفعال، وتبعا لزيادة حجم السكان وكثافته وجد دوركايم بأنهما يؤديان إلى تطور تقسيم العمل الاجتماعي، وهذا يؤدي بدوره إلى سلسلة من التطورات الأخرى في مختلف مجالات الحياة.
- أهم الاعتراضات التي صاحبت نظرية دوركايم: لم يختلف عن سابقيه من المنظرين، أين وقع هو الأخر في بعض الهفوات، والتي يمكن حصرها إجمالا فيما يلي:
أ. اهتم بجانب واحد وهو تقسيم العمل الاجتماعي في تفسيره لقضايا السكان، مع طغيان المسحة النفسية والاجتماعية على نظريته.
ب . تميزت نظريته بطابع إحصائي فقير، أغفل التغيرات التي تواجه المجتمع وسكانه، والناتجة عن التقدم التكنولوجي وانعكاساته على الأوضاع الخدماتية والثقافية. فضلا عن ذلك فليس من السهل تحديد طاقة أي مجتمع ما في قدرته على استيعابه لأفراد هذه الطاقة، كانت ولازالت موضع شك لاسيما في المجتمعات الصناعية والتكنولوجية.
3- نظرية أرسين ديمون(1840- 1902): أﺴــــﺘﺎذ ﺒﺠﺎﻤﻌـــﺔ ﺴﺘراﺴـــﺒورغ، أﻫـــﺘم بالقضايا الاجتماعية المؤثرة في السكان، وذلك انطلاقا من الدراسة التي قام بها عن نمو السكان في أواخر القرن 19 بفرنسا، والتي ضمنها في كتابه الصادر في سنة 1890 تحت عنوان تناقص سكان المدينة، والذي تضمن نظريته بشأن الارتقاء الاجتماعي والتي عرفت باسم العزلة الاجتماعية و يؤيد ديمون أن الفرد يميل إلى البحث عن الصعود إلى مستويات أعلى في بيئته الاجتماعية، وأنه في عملية الارتقاء هذه يصبح أقل قدرة من الناحية الاجتماعية على التناسل، وذلك لأنه يبتعد شيئا فشيئا عن وسطه الطبيعي وعن أسرته، ويفقد نتيجة ذلك اهتمامه بالأسرة إذ لا يجد الوقت الكافي لتكوينها، وهو ما دفعه إلى التسليم بأن عدد السكان في المجتمع يتناسب عكسيا مع تكوين الفرد لنفسه، كما يرى بأن للمدن الكبيرة في المجتمع الديمقراطي جاذبية هائلة، ذات تأثير على الذين يعيشون قريبا منها وقد بني ديمون نظريته هذه نتيجة دراسته للخصوبة في أقاليم فرنسا، وذهب إلى هناك تفاوت كبيرا بين المجتمعات المتقدمة مثل فرنسا والنامية مثل الهند، ففي فرنسا حيث استقرت الديمقراطية كان الانتقال من طبقة إلى طبقة أخرى سريعا، أي تكون الشعيرية الاجتماعية أشد مفعولا مما ترتب عليه خفض معدل المواليد إلى درجة كبيرة، بالإضافة إلى ذلك فإن المدن الكبرى في المجتمعات الديمقراطية تفرض جاذبية قوية على الذين يعيشون بالقرب منها، وبهذا تزيد من قوة الجاذبية الشعيرية على الناس وتسرع بالعمل على تخفيض معدل المواليد في المجتمع، أما الذين يبعدون عن مراكز الجاذبية ويعملون في حرف لا يجد الطموح الفردي فيها سوى فرص ضئيلة للنمو، لا يجتذبون بمثل هذه السرعة إلى الحركة الشعيرية، ومن هنا لا يحتمل أن يقللوا معدل المواليد بنفس الدرجة بل يواصلون التزايد.
- الانتقادات التي وجهت لأفكار ديمون: المتتبع لأفكار نظرية ديمون، يجد أنه حرر نظرية سبنسر من التنافر بين الفرد والجنس، وأن نظريته كان للطابع النفسي والاجتماعي الأثر الغالب فيها مقارنة بسبنسر غير أن ما يعاب عليه هو أنه لم يعطي تفسيرا كاملا لأسباب هبوط نسبة المواليد في فرنسا، وغيرها من الدول التي تشهد انخفاضا في معدل المواليد، وذلك رغم الأهمية التي تحوزها في مجال توجيه الاهتمام إلى دور العوامل الاجتماعية في تزايد السكان أو تناقصه.
4. النظريات الإقتصادية
النظريات الاقتصادية في علم السكان :
1- المسألة السكانية في المذهبين التجاري والطبيعي: كان للمذهب التجاري الفضل الأول في ظهور مفاهيم ومقولات علم الاقتصاد السياسي، ولكن هذا المذهب الذي كان يمثل أولى مراحل تطور رأس المال التجاري، ويؤيد على دور الربح التجاري في تكوين الثروة الاجتماعية، لم يعطي أهمية تذكر للعنصر البشري، ومن ثمة لم يهتم بالمسألة السكانية، كما لم يتعرض أنصاره من أمثال:توماس مان، وجون لوك، وجيمس ستيوارت لهذا الموضوع وفي منتصف القرن 18 ظهرت في فرنسا مدرسة الطبيعيين، والتي كان معظم منظريها من ملاك الأراضي الواسعة، والذين عملوا على إعلاء شأن الزراعة وبيان أهميتها في التقدم الاقتصادي، حيث كانت تمثل حسب وجهة نظرهم العمل الإنتاجي الوحيد، لأنها تدر ناتجا أكبر من المواد التي استخدمت في الإنتاج، ومن هنا اهتموا بعنصر العمل وعلى رأسه العنصر البشري، والذي أصبح يمارس دورا مؤكدا في الحياة الاقتصادية لا يمكن نكرانه، حيث أبدوا اهتما كبيرا به في عدد من كتاباتهم، من ذلك ما ذهب إليه مثلا ريتشارد كانتيون والذي فرق بين معدلي النمو السكاني لدى الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، أي طبقة ملاك الأراضي والطبقة المنتجة، في حين تطرق فرانسوا كيناي أحد مؤسسي هذه المدرسة، إلى العلاقة بين الإيراد الفردي ومستوى المعيشة من جهة والنمو السكاني من جهة أخرى .
2- النظرية الاقتصادية الكلاسيكية: شكلت المدرسة الكلاسيكية النظرية الاقتصادية الأبرز، وذلك على مدار الفترة الممتدة ما بين القرنين 18 ومطلع القرن 20، وهي التي تلخص فحواها في الدعوة إلى عدم تدخل الدولة في أي وجه من أوجه النشاط الاقتصادي، باعتبار أن نشاط الأفراد أفضل بكثير من نشاط الدول، نظرا لما يمتازون به من فعالية ومقدرة على استغلال الموارد، لذا جاء تعرضها للمسألة السكانية من حيث ارتباطها بالحالة الاقتصادية، وذلك من منطلق تركيزهم على دور الأفراد في استغلال الموارد المتاحة، وهو التعرض الذي سمح بطرح عدد كبير من الرؤى النظرية التي سنخوض في تفاصيل بعضها كما يلي:
- نظرية مستوى الكفاف: وترى أن استمرار النمو السكاني، سيؤدي إلى زيادة المعروض من الأيدي العاملة في المجتمع، وبتالي سيؤدي ذلك بعد فترة طويلة قدرها 25 عاما، إلى هبوط الأجر الذي يحصل عليه العامل إلى دون مستوى الكفاف. ونتيجة لذلك سترتفع معدلات الوفيات بين العمال مما يسبب إنقاص المعروض من الأيدي العاملة في المجتمع، فيرتفع مستوى الأجور مرة أخرى إلى فوق مستوى الكفاف، وهو الذي تفترض فيه هذه النظرية انه سوف يؤدي تشجيع الزواج وتزيد بذلك معدلات الولادة، وعندئذ سيزداد المعروض من الأيدي العاملة على المدى البعيد مرة أخرى، وعندئذ سيتكرر ما حدث سابقا من هبوط مستوى الأجور ثم التوازن مرة أخرى وهكذا. وأهم المنتسبين إلى هذه النظرية نذكر جون ستيوارت ميل، والذي سلم بأن مستوى الأجر الذي يحصل عليه العامل يعتمد على معدل السكان المتزايد مقسوما على رأس المال المتزايد والمستخدم في العملية الإنتاجية، فإن زاد هذا الأخير وأصبح أكثر كفاية أمكن عندئذ رفع مستوى الأجور، وعلى العكس من ذلك إذا زاد عدد السكان فقط، وبالتالي زاد عرض الأيدي العاملة دون زيادة رأس المال المستخدم، فإن الأجور العمالية المدفوعة مالت نحو الانخفاض.
- نظرية الوضع الساكن: وأهم روادها ساي، فون، سبنيور ... و تنص على أن الزيادة المستمرة في رأس المال والعمال ستؤدي لهبوط عائد رأس المال المستخدم في العملية الإنتاجية، مما يصبح فيه المخزون من رأس المال ثابتا، بينما تصل مستويات الأجور إلى نقطة تتعادل عندها مع مستوى المعيشة السائد في المجتمع، وهذا سيخلف أثار خطيرة على الأوضاع اقتصادية أهمها:
- توقف الثروة القومية ورأس المال المستخدم.
- انخفاض الطلب على العمال.
- انخفاض أجورهم.
- نظرية الغلة المتناقصة: يعد العالم الاقتصادي ديفيد ريكاردو، أول من بحث في مشكلة الغلة المتناقصة وأثرها على التنمية الاقتصادية،مشيرا بأن هذه القانون يبرز إلى الوجود بسبب زيادة السكان، دون أن يقابل ذلك زيادة في الأراضي الصالحة للزراعة.
وقد شهدت السنوات العشر التي تلت وفاة ريكاردو (1823-1833)،هجوما ضاريا على أفكاره من قبل عدد من الاقتصاديين ، والذين يأتي على رأسهم هنري كاريه (1739-1879) وريتشارد جونز(1790-1855) ، والذين طرحوا ﻋﻠﻰ ﺒﺴﺎط اﻟﺒﺤث ﻗﻀﻴﺔ ﻤﺎ إذا ﻛﺎﻨت اﻟﻤﺒﺎدئ اﻟﺘﻲ أﺸﺎر إليها ريكاردو صحيحة، حيث يعتقد الأول أن السكان قاموا بزراعة الأراضي الأقل خصوبة وليست الخصبة كما افترض ريكاردو، وبهذا فإن التزايد السكاني لا يشكل أية مشكلة في الأجل الطويل على النمو الاقتصادي. أما الثاني فلا يؤمن بالصفة الأبدية لقانون الغلة المتناقصة، فالإنسان حسبه من خلال زيادة معارفه وعلومه وتطوير التكنولوجيا، يستطيع ابتكار أدوات وأساليب إنتاجية تخفف من مفعول هذا القانون، ولاسيما أنه يتسم -أي الإنسان- ببعد النظر، والميل إلى تجديد حاجاته الضرورية والكمالية، مما يدفعه إلى الحد من تكاثره طواعية .
3- النظريات الاقتصادية الحديثة: أحدثت الثورة التكنولوجية التي شهدتها أوربا مطلع القرن19 ، نموا هائلا في الفنون الإنتاجية والصناعات الثقيلة والتوزيع في زراعة الأراضي، وهو ما تجلى في ارتفاع مستوى الإنتاجية وزيادة المساحات المزروعة، وارتفع معدل الربح مسببا تزايدا في تراكم المال والناتج المحلي وفرص التوظيف، الأمر الذي أنعكس سريعا على الفكر السكاني السائد آنذاك، حيث لم يعد ينظر إلى تأثير التزايد السكاني على حجم الإنتاج، من قبل رواد الفكر الكلاسيكي الجدد حينها نظرة مطلقة، بمعنى أن الزيادة السكانية يمكن تحت تأثير شروط معينة، أن تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، كما يمكن لها أن تؤدي إلى تدهورها في ظل سيادة شروط أخرى حيث طرحت في هذا الإطار عدد من النظريات، اخترنا منهم العينة التالية :
- نظرية الحد الأمثل: طرح مفهوم الحجم الأمثل للسكان في كتابات علماء الاقتصاد لأول مرة على يد "أدم سميث"، ثم تجدد العهد معه مرة أخرى في سنة 1833 في كتاب "مبادئ الاقتصاد السياسي" لــ: سيد جويك، ومن بعده جاء الدور على كل من ادوين كانان في سنة 1888 في كتابه "أساسيات الاقتصاد السياسي"، والاقتصادي السويدي كنوت فيكسل وذلك في عام 1901 ، في سلسلة محاراته عن الاقتصاد القومي، قبل أن يستقر مفهومه كمصطلح شائع لدى الاقتصاديين الرأسماليين آنذاك، بعد أن أماط اللثام عنه بوضوح تام المفكر الاقتصادي الانجليزي ألكسندر كارسوندر، والذي تناوله في كتابيه "المشكلة السكانية" و"سكان العالم" والذي حاول من خلاله الربط ما بين الزيادة السكانية وموارد الثروة، معتبرا أن الإنسان جاهد دائما للوصول إلى العدد الأمثل، والذي معناه العدد الذي يتيح الحصول على أعلى متوسط للعائد بالنسبة إلى الفرد الواحد، وذلك بمراعاة كل من طبيعة البيئة، درجة المهارة المستخدمة من قبل الأفراد، وكذا طبيعة وعادات الناس الذين يعنيهم الأمر وتقاليدهم، وجميع الحقائق الأخرى ذات الصلة بالمسألة، وعندئذ يتحكم الإنسان بشكل عام في عدد أفراده بقصد الوصول إلى الحد الأمثل ، والذي يتسم بكونه غير ثابت حيث يتباين بين زمان وأخر، وذلك تبعا لتغير الظروف السابق ذكرها، حيث أنه كلما كانت المهارة عند أفراد المجتمع كبيرة، كلما زاد احتمال أن يصبح هذا المجتمع كثير السكان، في حين أن هناك مجتمعات غنية بموارد الثروة (أراضي زراعية، ثروة معدنية أو غيرها من الموارد التي توفر الإنتاج...) لكن عدد سكانها بقي قليل، كما هو الأمر بالنسبة لكل من: السودان، أستراليا، العراق وأعتقد كارسوندز أن نمو السكان يخضع لسيطرة الإنسان نفسه، نظرا لأنه محكوم بتفاعله مع بيئته الفيزيقية والاجتماعية، وعدده على هذا الأساس يتغير من وقت لأخر تبعا لتغير هذا التفاعل، فكلما ازداد التفاعل اتجه الإنسان إلى زيادة العدد والعكس صحيح أيضا، وهو هنا يخالف مالتوس يزداد بمعدلات لا تتناسب مع موارده، مؤيدا بذلك الرأي القائل بأن الزيادة في أعداد السكان، تحددها إلى حد كبير أفكارهم عن الأعداد المرغوب فيها والمتناسبة مع ظروف الحياة، وأن الإنسان أضطر لابتداع أساليب كالإجهاض، ووأد البنات، وعزل النساء...كي يسيطر ويتحكم بأعداد أ فراده مبتدعا في ذلك مقياسا يحدد به ذلك الحجم وهو متوسط الدخل الفردي، فإذا كان هذا الدخل أخذ في الزيادة دل ذلك على أن هذا المجتمع بحاجة إلى المزيد من السكان، وأنه لم يصل إلى الحد الأمثل بعد.
- نظرية الفجوة السكانية: يرى روبرت بولدوين صاحب هذه النظرية، أنه إذا كان السكان يزيدون بمعدل أعلى من زيادة متوسط دخل الفرد، فإن الاقتصاد القومي كله سيقع في المصيدة، حيث تسوء الأوضاع الاقتصادية كلها ويتدهور الوضع المعيشي، ولا تسير عملية التنمية بالمعدل المرغوب فيه. وعلى العكس من ذلك، إذا زاد دخل الفرد في المتوسط بمعدل يفوق معدل نمو السكان، فإن الاقتصاد القومي سينتعش وعندئذ تتعزز عملية التنمية ويزداد التكوين الرأسمالي .
- نظرية عرض العمل غير المحدود: ظهرت هذه النظرية في سنة 1954 في شكل مقالة هامة نشرها آرثر لويس في مجلة "الدراسات الاقتصادية والاجتماعية" لمدرسة مانشستر، معتمدا على بعض الحقائق التي تسود في البلاد المتخلفة مثل ارتفاع معدلات النمو السكاني، بطالة حادة، ازدواجية اقتصادية بفعل وجود قطاع صناعي فتي، يتسم بارتفاع مستوى الإنتاجية عنصر العمل البشري، ارتفاع معدلات الأجور، تكنولوجيا متقدمة وقدرة محدودة على خلق فرص توظيف واستيعاب العمالة بسبب ضآلة حجم الفائض الاقتصادي، والذي يمكن أن يتحول إلى تراكم رأسمالي في مقابل قطاع زراعي تقليدي –قطاع الكفاف- يتسم بوجود بطالة مقنعة، وتكنولوجيا محدودة، وضعف الأجور... إلخ. حيث يرى في هذا الصدد آرثر لويس، أنه من الممكن الاستفادة من هذا الوضع السكاني لدفع عجلة التنمية الاقتصادية حينها، إذا أمكن سحب عدد من العمال الزراعيين الزائدين عن حاجة هذا القطاع، لكي يعملوا في القطاع الصناعي، مشترطا لنجاح ذلك 03 ضوابط أساسية وهي:
أ. الاستثمار في القطاع الصناعي يتوقف على الفائض الذي يتحقق بداخله.
ب . أجور العاملين في القطاع الصناعي، يجب أن تعلو مستوى الإنتاجية الحدية لعنصر العمل بالقطاع الزراعي.
ت . تكلفة تدريب العمال الفائضين في القطاع الزراعي، للالتحاق بالقطاع الصناعي، يجب أن تكون ضئيلة وثابتة عبر الزمن.
وانطلاقا من هذه الشروط يمكن أن تبدأ عملية التنمية، بالسحب من عرض العمل غير المحدود في القطاع الزراعي وتغذية القطاع الصناعي بهؤلاء العمال، مع ضرورة المحافظة على انخفاض أجورهم، حتى يتحقق الرأسماليين فائض اقتصادي في نهاية العملية الإنتاجية يوجه للاستثمار، وحينما يزداد الاستثمار تزيد قدرة الرأسماليين على إلحاق المزيد من المزارعين بالقطاع الصناعي، وتستمر العملية هكذا، فتقل البطالة ويزداد تراكم رأس المال وتنمو الإنتاجية، ويرتفع الدخل ومعه معدل النمو الاقتصادي .
- نظرية الطلب على العمل: يعتقد سدني كونتز بأن الطلب على العمال على المدى البعيد يؤثر في نمو السكان وفي محاولته تطبيق هذه النظرية على الدول النامية، لاحظ بأن دخول الصناعة إلى اقتصاديات الدول النامية لأول مرة، يعمل على زيادة الطلب من كافة الفئات، ونتيجة لذلك يميل عدد السكان إلى الزيادة بسبب عاملين، وهما هبوط معدلات الوفيات من جهة، و زيادة معدلات الخصوبة من جهة أخرى.
وأفترض كونتز أن الوفيات ترتبط مباشرة بالخصوبة، فبينما ترتبط الخصوبة ارتباطا عكسيا بالتنمية الاقتصادية أو الدخل، موضحا بان معدلات الولادة العالية بين الأغنياء تبدأ بالانخفاض في مرحلة مبكرة من التنمية، وذلك لأن عمل الأطفال والنساء أصبح قليل الأهمية نسبيا، وطالما استمر الطلب على العمل الأبناء بين العوائل الفقيرة، فإنهم يميلون إلى زيادة عدد الأطفال.