المحاضرة 2: تطور حركة القياس النفسي

1-     بدايات القياس والتقويم النفسي والتربوي

      أشار دوبواDu bois  (1970) في كتابه المشهور حول تاريخ القياس النفسي  إلى أن بديات القياس  والتقويم تعود إلى عصور غابرة في تاريخ الإنسانية؛ حيث أشار إلى أن الصينيين استخدموا نظاما  متطورا  للامتحانات منذ أكثر من 3000 عام من اجل اختيار وتثبيت الموظفين السامين للدولة؛ وبناء على هذا المرجع ذهبت  في نفس الإتجاه أغلبية الأجنبية والعربية التي صدرت فيما بعد حول موضوع القياس والتقويم؛ وهذا رغم أن مثل هذا التاريخ يعتبر مدهشا للغاية، مع العلم أن دوبوا لم يقدم توضيحات فيما يخص الدائم المادية التي أعتمد عليها ليبرهن على مدى صحة هذا الإعتقاد الذي ذهب إليه (بوسنة، م، 2007، ص 16)، حيث نشرت بومان (Bowman) سنة 1989  مقالا متميزا في مجلة السيكولوجي الأمريكي (American psychologie) تؤكّد فيه على أنه لا توجد الشواهد التاريخية والأثرية الدالة على صحة هذا الإعتقاد؛ فكل المؤشرات الأثرية تبين عدم وجود أي نظام للكتابة قبل عهد كزيا (Xia) (1786-1122 ق م)؛ وأن هذه الامتحانات ظهرت في سنة 165 ق م (المرجع السابق، ص 16)، وتشير العديد من  الدراسات المتخصصة كدراسة مارو Marrou (1956)  ودويل Doyle (1974)  إلى أن التقويم كان أيضا من مميزات الحضارة اليونانية؛ حيث نجد المؤشرات الأولى على ذلك في مؤلفات أفلاطون في كتاب الجمهورية ، كما تحدث أرسطو عن الفروق بين الأجناس والطبقات الاجتماعية  والفروق العقلية والخلقية بين الجنسين (المرجع السابق، ص 16) واستمرت عمليات التقويم اليونانية  في العهد الروماني إلا أنها كانت جد عملية وتطبيقية حيث تصل بالمتعلم إلى أعلى المراحل أي مرحلة تعلم الخطابة التي تؤهله إلى تولي مناصب إدارية أو عسكرية في مؤسسات الدولة (المرجع السابق، ص 16).

     أما في الحضارة الإسلامية فالشواهد التاريخية ماثلة تؤكد انتشار المؤسسات التعلمية مثل الكتاب والمسجد والرباط، ويعتبر المسلمين رواد الحساب والجبر والهندسة؛ فانعكست معارفهم هذه في ميدان العمارة وتخطيط المدن وتنظيم الدولة من خلال الجباية وبيت المال وبرعوا في مسح الأراضي وتقويم المحاصيل الزراعية والعشور والزكاة والجزية.

   رغم أن القياس ظهر مع ظهور الإنسان، إلا أن اختلف الباحثون في تحديد البديات الفعلية لحركة القياس النفسي؛ فهناك من يشير الى المعادلة الشخصية التي قدّمها الفلكيون، وهناك من يشير إلى أعمال فيبر (weber) السيكوفيزيقية عام  (1878)  وقانون فيبر- فخنر(weber- Fechner)، وهناك من يشير إلى فاندت (1879) وتلاميذ خاصة كاتل (Cattel) (معمرية، ب، 2002، ص 48) . وعليه سنستعرض لأهم المحطات التاريخية الأولى لتطور حركة القياس النفسي في مختلف المدارس الرائدة في هذا المجال.     

2- مدارس القياس النفسي:

منذ اكتشاف الفروق الفردية والانسان يحاول أن يقيسها وأن يكتشف مقاييس خاصة لقياسها والدلالة عليها كميا، والغريب في الأمر أن حركة قياس الفروق الفردية لم تبدأ على  أيدي علماء النفس بل بدأت على يد عالم فلكي وحدث هذا في عام  عنما طرد 1776 ماسكلين (Maskelyne)  العالم الفلكي في مرصد غرينتش مساعده كينبروك (kinnebrook)  لأنه تأخر عنه في رصد النجوم فترة تقرب من ثانية، وحدث أن قرأ العالم بيسال (Bessel)  فبدأ يهتم بما يسمى فيما بعد المعادلة الشخصية (Personal Equation)، وكان يقصد بها في بادئ الأمر الفروق بالثواني بين تقدير اثنين من الراصدين لحركةنجم من النجوم، وقد أدى هذا الحدث إلى اهتمام الباحثين في النصف لأول من القرن التاسع عشر الى قياس الفروق الفردية، ومنذ ذلك الحين أخذ يتطور ليشمل القدرات العقلية والسمات الشخصية على مختلف أنواعها وأبعادها (مقدم، ع، 1993، ص15)، وفي ما يلي نستعرض أهم المدارس التي ساهمت في تطور القياس النفسي:

2-1 المدرسة الفرنسية :

شهد القرن التاسع عشر صحوة قوية فيما يتعلق بالاهتمام بالعلاج الإنساني للمتخلفين عقليا والأشخاص المخبولين؛ فقبل ذلك كان قدر هؤلاء الأفراد، الإهمال، السخرية، وربما التعذيب، وبزيادة العناية بهؤلاء الأفراد جاء الاعتراف (أناستازي، أ، اورينا، س، 2015،  ص 53) بضرورة وجود محكات منظمة لتحديد هذه الحالات وتصنيفها، وقد أدى ذلك إلى تأسيس كثير من المؤسسات الاجتماعية للعناية بالأشخاص المتخلفين عقليا في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى الحاجة لتحديد معايير قبول ونظام موضوعي للتصنيف، ومن الأوائل الذين اهتموا بهذه المسألة الطبيب الفرنسي ايسكويرل الذي نشر مجلدين عام 1838 وخصص 100 صفحة منهما لما يطلق عليه الآن بالتخلف العقلي   حيث أشار الى وجود درجات كثيرة من التخلف العقلي؛ تتباين على متصل يتراوح بين العادي والعُتة بدرجة منخفضة، ومن أجل تطوير نظام معين لتصنيف الدرجات والأنواع المختلفة للتخلف العقلي؛ قام ايسكويرل بتجريب اجراءات مختلفة، ولكنه استنتج أن استخدام الفرد للغة يقدَّم محكا يعتمد عليه أكثر لمستوى ذكائه أو ذكائها؛ ومن الجدير بالذكر أن المحكات الراهنة للتخلف العقلي تعد لغوية أيضا بدرجة كبيرة، وأن اختبارات الذكاء الراهنة مشبّعة بدرجة كبيرة  بمحتوى لفظي. (المرجع السابق، ص54)

ويعد الطبيب الفرنسي الآخر سيجوين الذي كان رائدا في تدريب الأشخاص المتخلفين عقليا ذات أهمية كبيرة، وبرفضه الفكرة السائدة المتعلقة بعدم قابلية علاج التخلف العقلي؛ قام سيجوين (1866/1907) بتجريب الطريقة الفيزيولوجية للتدريب وذلك لأعوام كثيرة، وأسس عام 1837 المدرسة الأولى التي خصصت لتعليم الأطفال المتخلفين عقليا، وهاجر إلى أمريكا عام 1848 حيث نالت أفكاره اعترافا واسعا، وكثير من أساليب التدريب الحسي والتدريب العضلي التي استخدمت فيما بعد في مؤسسات الأفراد المتخلفين عقليا ترجع في أصولها إلى سيجوين، وبوساطة هذه الطرق قُدّم للأطفال شديدي التخلف العقلي تمارين مكثفة في التمييز الحسي وفي تنمية التحكم الحركي وقد تم بعد ذلك تضمين بعض الإجراءات التي طورها سيجوين لهذا الغرض في اختبارات الذكاء الأدائي أو غير اللفظي، ومثال ذلك لوحة أشكال سيجوين، حيث يطلب من الفرد إدخال مكعبات ذات أشكال متنوعة في الفجوات المتناظرة بالسرعة الممكنة. (المرجع السابق، ص54)

وبعد مرور أكثر من نصف قرن على بحوث إيسكويرل وسيجوين، حث عالم النفس الفرنسي ألفرد بينيه على أن الأفراد الذين يخفقون في الاستجابة للتمدرس العادي ينبغي أن يتم فحصهم قبل استبعادهم، وإذا اعتبروا قابلين للتعلم؛ ينبغي إلحاقهم بفصول خاصة (Wolf, T.H)، وبالمشاركة مع زملائه الأعضاء بجمعية الدراسات النفسية للطفل، حث بينيه وزير التعليم العام على اتخاذ خطوات لتحسين ظروف الأطفال المتخلفين، وأحد النواتج المعينة (المرجع السابق، ص54) تأسيس لجنة وزارية لدراسة الأطفال المتخلفين، حين عيّن بينيه فيها؛ وكان هذا التعيين حدثا مهما للغاية في تاريخ القياس العقلي (المرجع السابق، ص55)، وقد انتقد بينيه وهنري في مقالة نشرت بفرنسا عام 1895 معظم سلسات الاختبارات المتوافرة على أنها حسية بدرجة كبيرة، وتركز على نحو غير ملائم على قدرات متخصصة بسيطة، وجادلا بأنه عند قياس الوظائف الأكثر تعقيدا لا تكون الدقة الكبيرة ضرورية؛ نظرا لأن الفروق الفردية  تكون كبيرة في هذه الوظائف؛ واقترحا قائمة موسعة ومتنوعة من الاختبارات: الفهم، وقابلية الايحاء، والتذوق الجمالي، وغيرها (المرجع السابق، ص58)

كرّس بينيه ومعاونوه أعواما كثيرة في إجراء بحوث نشطة ومبدعة تتعلق بقياس الذكاء وقد حاولوا مداخل كثيرة تشتمل كذلك على قياس صيغ تتعلق بالجمجمة، والوجه، واليد، وتحليل خط اليد، غير أن النتائج أدت إلى اقتناع متزايد بأن القياس المباشر – على الغم من عدم دقته- للوظائف العقلية العليا كان واعدا بدرجة كبيرة. ثم برز موقفا معينا جعل جهود بينيه مثمرة فوريا، ففي عام 1904 عيّن وزير التعليم العام بينيه في اللجنة – التي أشرنا إليها سابقا- لدراسة إجراءات لتعليم الأطفال المتخلفين عقليا؛ وتحقيقا لأهداف هذه اللجنة أعدّ بينيه بالمشاركة مع سيمون المقياس الأول لبينيه وسيمون (Binet & Simon, 1905)، وهذا المقياس اشتمل على 30 مشكلة أو اختبارا مرتبة ترتيبا تنازليا بحسب صعوبتها؛ وقد تحدّد مستوى الصعوبة امبريقيا؛ وذلك بتطبيق الاختبار على 50 من الأطفال العادين الذين تتراوح أمارهم 3- 11 عام، وعلى بعض الأطفال المتخلفين عقليا والراشدين، وصممت الاختبارات بحيث تشمل وظائف متسعة متنوعة وتركز بخاصة على الحكم، الفهم، والاستدلال، التي اعتبرها بينيه مكونات أساسية للذكاء وعلى الغم من تضمين اختبارات حسية وادراكية، إلا أن جزءا من المحتوى اللفظي وجد في هذا المقياس بدرجة أكبر بكثير من سلسلات اختبارات ذلك  الزمان؛ وتم تقديم مقياس عام 1905 كأداة أولية تجريبية، ولم تتم صياغة طريقة موضوعية دقيقة للحصول على درجة كلية (المرجع السابق، ص58).

وقد ازداد عدد الاختبارات في المقياس الثاني عام 1908، وتم حذف بعض الاختبارات غير المرضية من المقياس الأول، وكذلك تم تجميع جميع الاختبارات في مستويات عمرية على أساس أداء ما يقرب من 300 من الاطفال العاديين الذين تتراوح أعمارهم بين 13.3 عاما، ولذلك فإن في المستوى 3 أعوام وضعت جميع  الاختبارات التي اجتازها 80-90 % من الأطفال العاديين الذين يبلغ عمرهم 3 أعوام، وفي المستوى 4 أعوام وضعت جميع  الاختبارات التي اجتازها 80-90 % من الأطفال العاديين الذين يبلغ عمرهم 4 أعوام، وهكذا حتى العمر 13 عاما، ويمكن عندئذ التعبير عن درجة الطفل على الاختبار ككل بعمر عقلي (Mental age) يناظر عمر الطفل العادي الذي يناظر أداءه، وفي الترجمات والتعديلات المعتمدة لمقاييس بينيه، استبدل مصطلح " عمر عقلي " عادة بمصطلح " المستوى العقلي " (Mental level)، ونظرا لأن العمر العقلي مفهوم يسهل فهمه،؛ فإن تقديم هذا المصطلح؛ فإن تقديم هذا المصطلح أدى الطبع إلى انتشار قياس الذكاء، غير أن بينيه شخصيا تجنب مصطلح " العمر العقلي " نظرا لتضميناته النمائية غير المحددة، وفضّل المصطلح الأكثر حيادية " المستوى العقلي " (Wolf, T.H, 1973)، وقد ظهر إصدار ثالث لمقياس بينيه وسيمون عام 1991 وهو العام الذي توفي فيه بينيه فجأة؛ وفي هذا الإصدار لم تقدم تعديلات جوهرية؛ وحدثت مراجعات ضئيلة؛ وأعيد ترتيب اختبارات  معينة، وأضيف مزيد من الاختبارات في مستويات أعوام متعددة، وامتد المقياس الى مستوى الراشدين  (المرجع السابق، ص59).

وحتى قبل مراجعة مقاييس بينيه وسيمون لعام 1908، جذبت هذه الاختبارات انتباها واسعا بين علماء النفس حول العالم، فقد ظهرت ترجمات وتعديلات في كثير من الدول؛ بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأولها أجرها جوددارد (Goddard, H.H)، الذي شغل منصب باحث في علم النفس في كلية فاينلاد للتدريب الاطفال المتخلفين عقليا، وكانت مراجعة جودارد  مؤثرة في تقبل قياس الذكاء في مهنة الطب (Zenderland, 1987)، فقد جاءت في وقت ملائم للوفاء بالحجة الملحة لمقياس مقنن لتشخيص وتصنيف الاشخاص المتخلفين عقليا. غير أنه- كأداة قياس- سبقه بسرعة مقياس ستانفورد بينيه من الوجهة السيكومترية، والذي طوره تيرمان ومعاونه في جامعة ستانفورد (Terman, 1916)، وقد استخدم لأول مرة في هذا الاختبار نسبة الذكاء (QI) أو النسبة بين العمر العقلي (المرجع السابق، ص59) والعمر الزمني واستخدمت المرجعات التالية لهذا الاختبار بكثرة، ولعل ما يثير الاهتمام أيضا المراجعة الأولى لكولمان- بينيه (Kuhlmann, 1912)؛ حيث وسّع المقياس للأعمار حتى ثلاثة أشهر، ويمثل هذا المقياس أحد الجهود المبكرة لتطوير اختبارات ذكاء الاطفال ما قبل المدرسة والاطفال الرضع (المرجع السابق، ص60)

   ركّز علماء فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر اهتمامهم على دراسة الذكاء بالإتجاه نحو دراسة ضعاف العقول والمرضى بأمراض عقلية، ومن بين هؤلاء العلماء الطبيب الفرنسي إتارد (Etard) الذي حاول تدريب الطفل المتوحش الذي عثر عليه في غابة الافيرول، وقد أشار اسكيرول (Esquirol, 1838) في كتابه الأمراض العقلية الى بعض الوسائل الضرورية التي تساعده على التمييز بين من أصيبوا باضطرابات عصبية وبين ضعاف العقول (مقدم، ع، 1993، ص15)، وكما بيّن أن هناك درجات من الضعف العقلي تبدأ بالعتة والبله، وقد اعتمد في التمييز بين هذه الدرجات على المقاييس الفيزيولوجية مثل مقاييس الجمجمة وملامح الوجه، إلا أنه في بعض  المستويات العليا من الضعف العقلي استعمل بعض الطرق لقياس السلوك اللغوي حيث فرق بين مراتب الأسوياء من الناس والطبقات العليا من الضعف العقلي على ضوء تحصيل الطفل اللغوي، والجدير بالذكر أن المحكات الحالية لتحديد الضعف العقلي والذكاء هي في أغلبها لغوية، أما سيجان (Seguin, 1837)  الذي كان يعمل بالاشتراك مع اتارد (Etard) فقد كان يركز على تدريب حواس ضعاف العقول وطبق لوحة الأشكال المشهورة باسمه والتي تدخل في الكثير من الاختبارات الأدائية التي لا تحتاج إلى استخدام اللغة، والتي يقاس بها ذكاء ضعاف العقول والصم والاميين (أناستازي، 1969) (مقدم، ع، 1993، ص16)

واللوحة عبارة عن خشبة فيها أماكن محفورة لأشكال هندسية كالدائرة والمستطيل والمربع والنجمة وغيرها ويطلب من الطفل وضع هذه الأشكال في أماكنها التي تظهر محفورة في اللوحة؛ والشكل التالي يوضح هذه اللوحة سيجان (Seguin, 1837):

  شكل رقم (03): لوحة الأشكال لسيجان (مقدم، ع، 1993، ص16)

على الرغم من اسهامات النفسيين الالمانيين والبريطانيين المهمة السابقة، إلا أن انجاز الفرنسيين ألفرد بينيه وثيوفيل سيمون ( Binet, A, Simon, T, 1905-1908) الذين نقلا دراسة الإختبار العقلي من تدريب أكاديمي إلى مغامرة أصبح لها تطبيقات فورية في غرفة الصف وفي العيادات النفسية، وفي أماكن العمل، فقد أخذ هذان المحللان النفسيّان على عاتقهما المهمة العملية في ابتكار طريقة تفيد في تحديد الضعف العقلي عند أطفال المدارس العامة، وكانت النتيجة رائعة في قياس السمة التي تعرف بشكل عام " الذكاء" ومع أن شهرة بينيه كانت بسبب اختبار الذكاء الذي مازال يحمل اسمه، إلا أنه أثّر تأثيرا مهما في نظرية القياس وذلك في (كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 25) انشائه لطريقة عملية في بناء الإختبار وتصديقه، وحتى اختراق بينيه للطريقة الشائعة في بناء الاختبار والتي هي تجميع لفقرات بناء على منطق نظري ومن استخدامها، ففي عام 1905 رفض بينيه هذا الأسلوب وسماه بالعمل المسلي (المضحك) مقارنة بالاستيطان وبناء المستعمرة في الجزائر بالإعتماد على الخريطة فقط ودون معرفة العنوان، فطريقة بينيه الجادة تتطلب معرفة سلسلة من المهام التي تميز بين الأطفال من الفئات العمرية المختلفة وعبر التطور المتسلسل، وقد تم تطبيق مئات الفقرات على أعداد كبيرة من الأطفال اختير من بينها الفقرات التي ميّزت جيدا بين الأطفال، وبعد ذلك قام بينيه وسيمون بتجميع مهام متنوعة لكل مستوى عمري، ويؤديها معظم أطفال ذلك المستوى بنجاح، فمثلا:

في عمر 3 سنوات يؤشر إلى العين، الأنف، الفم

في عمر 7 سنوات يشير الى المحذوف في الصورة، يكرر خمسة أشكال رأها

وفي عمر 11 سنوات، ينتقد الجمل التي تناقضات.

       من الأداء على الفقرات اشتق بينيه تقديرا للعمر العقلي للمفحوص مقارنة بالعمر الزمني له، وذلك لتحديد المكان المناسب له في المواقف التدريسية أو المؤسسات الخاصة بالمعاقين، وإضافة إلى تأسيس بينيه لعملية التحليل الأولي للفقرات فإننا ندين له في تطويره لمفهوم المعايير التي تعد مرشدا مهما في تفسير الدرجات ويعد تقديرا لجهود بينيه وبراعته أن الصيغة الحالية للاختبار ستانفورد- بينيه للذكاء لا تزال تشبه بصورة ملحوظة الصورة الأصلية للاختبار التي بنيت أصلا لأطفال المدارس في باريس (Thorndike, 1975)، ومن المهم ملاحظة أن تحليل الفقرات  وإعداد المعايير؛ وعلى الرغم من التقنيات؛ فإنها تشبه كثيرا طريقة بينيه التي أسسها مطلع هذا القرن. (كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 26)

 

 

 

2-2 المدرسة الألمانية:

    إذا كان فرنسا موطن الاهتمام بضعاف العقول ووضع اختبارات الذكاء للتمييز بين المستويات العقلية عند الأطفال فإن ألمانيا كانت موطن علم النفس التجريبي بداية من أعمال فاندت (wundt) سنة 1879، وتجدر الإشارة إلى بديات التناول التجريبي كانت في الواقع مع فييبر  (1795-1878) Weber الذي اشتهر بأبحاثه حول الإحساس، حيث اهتم بدراسة الإحساس بأصغر فرق بين المثيرات، وتوصل إلى وضع قانونه الخاص بالعتبات الفارقة؛ يعتبر فييبر أب علم النفس الوظائفي، ويرجع الفضل إلى فيخنر Ficher (1808-1887) في ضبط وترسيم نتائج فييبر في ميدان الإحساس (بوسنة، م، 2007، ص 21). وكان التساؤل الرئيسي لدى فيخنر  Ficher هو كيف يمكن قياس الإحساسات في ذاتها؟ فنحنى نستطيع أن نقيس خصائص المنبهات مثل أشعة الشمس، طول قضيب، كتلة معينة...إلخ ولكن كيف يمكننا أن نقيس ما تثيره هذه المنبهات من إحساسات؟ وبإثارته لهذه المشكلة، كان يسعى إلى قياس الظواهر النفسية كميا، وأراد أن يربط بين علم النفس والعلوم الطبيعية؛ وبعد تسع سنوات من العمل الجاد والمناقشات المثمرة نشر كتابه الشهير " أسس السيكوفيزياء" عام 1860  الذي يعتبره بعض مؤرخي علم النفس الانطلاقة الأولى لعلم النفس التجريبي؛ وتوصل إلى قانون يربط بين المثير والإحساس بمعادلة رياضية؛ ويعتبر تاريخيا أول قانون يحدد العلاقة بين متغيرين في علم النفس ويحكمها رياضيا؛ وطبقا لقانونه الذي يسمى أحيانا ب قانون فييبر- فيخنر لأنه يعتبر صياغته جديدة لقانون فييبر السابق ذكره وصياغة القانون كالتالي: " شدة الإحساس تتناسب طرديا مع لوغاريتم شدة المثير" أي أن شدة الإحساس= مقدار ثابت × لوغاريتم شدة المثير؛ ففي حالة مثير ضوئي قدره 100 شمعة تكون شدة الإحساس= ثابت فييبر× لوم = 2 × 4.60 =  9.20  وفي حالة مثير ضوئي قدره 200 شمعة فإن شدة الإحساس = 21.20 وفي حالة مثير ضوئي قدره 300 شمعة  فإن  شدة الإحساس = 21.20  وهكذا يتبين أن الزيادة في شدة المثير تؤدي إلى الزيادة في شدة الإحساس. (معمرية، ب، 2002، ص 53) 

     وكان للمخبر الذي أنشأه فاندت (wundt)  عام 1879 أهمية كبيرة في علم النفس بصورة عامة وفي حركة القياس النفسي بصورة خاصة رغم أن اتجاه القياس لم يكن يستهدف قياس الفروق الفردية في القدرات والاستعدادات وإنما كان يركز على قياس الإحساسات والعمليات النفس-جسمية كظواهر الإحساس والعتبات الفارقة وردود الفعل وغيرها، وكان هدفه هو استخلاص القوانين العامة التي يخضع لها السلوك البشري بغض النظر عمّا يحدث بينهم من فروق ويرجع إليه الفضل في وضع أسس المنهج التجريبي في علم النفس (مقدم، ع، 1993، ص 17)، وقد جذب معمل فاندت طلبة من جميع أنحاء العالم أصبحوا فيما بعد أسماء بارزة في تاريخ علم النفس عامة وفي القياس النفسي بصفة خاصة، ومن بين هذه الأسماء البارزة في حركة القياس؛ الذين تتلمذوا على يد فاندت نجد كل من أستانلي هول، وكاتل من أمريكا وكريبلين ومونستر برجر من ألمانيا وتيتشر من إنجلترا (فلوجل، 1964)، ورغم أن المواضيع التي كان يهتم بها في الأصل كريبلين تتصل بالأساس  بالفحص الأكلينيكي لمرضى الاضطرابات النفسية، فلقد أنشأ بطاريات من الاختبارات لقياس ما كان يعتقده عوامل أساسية في تشخيص الفرد ، واستخدم لتحقيق ذلك اختبارات تحتوي على العمليات الحسابية بقصد قياس أثر   التدريب والتذكر والقابلية للتعب وتشتت الانتباه. (بوسنة، م، 2007، ص 21)

   شهدت ألمانيا أعمال فييبر(weber) سنة 1878 في السيكوفيزياء  وصياغة قانون فييبر- فخنر الذي كان بمثابة تحول بارز في اتجاه التعامل مع الظواهر النفسية من خلال الملاحظة المقننة والتحديد الموضوعي وجاءت أعمال يوهانس موللر Muller عام 1851 من ناحية أخرى لتثير الإهتمام بدراسة الحواس وردود الأفعال (فرج، ص،2007، ص 24 ) فكان فوندت وويبر(weber) وغوستاف فخنر(Fechner) من الأوائل الذين ثمنوا أهمية الحصول على قياس نفسي ضمن ظروف مضبوطة بدقة، فقد كانت دراسة علم النفس في السابق نوعا من الاستبطان الفلسفي والملاحظات غير المنهجية فقد كتب فوندت بعد ذلك سنة 1873 يصف الثورة على الطريقة السابقة يقول " في الوقت الذي يرى الباحث استخدام منهجية دقيقة في الإجابة على أي سؤال تتحداه الفلسفة عند كل نقطة على أنه علم طبيعي لإثبات شرعية المحاولة " (كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 24)؛ رغم بساطة هذه التجارب  إلا أنها ساهمت مساهمة فعّالة في تطور القياس النفسي؛ وذلك لما أحدثه من شروط في ضبط الظروف التي تجري فيه التجارب؛ فقد أبرز علماء النفس التجريبيين المبكرين الحاجة إلى ضبط صارم للظروف التي تم فيها جمع الملاحظات  فمثلا لوحظ أن ألفاظ التعليمات المعطاة للمفحوص في تجربة زمن الرجع قد تزيد أو تقلل من سرعته في الاستجابة وأن لون المجال  المحيط أو نصاعته  قد تغيّر مظهر المثير البصري؛ وهكذا استلزم أن توجد ظروف ملاحظة كل المفحوصين؛ ومن هنا بدأت الخطوات الأولى نحو تقنين الاختبارات، وأصبح أخيرا ذلك التقنين(Standarization) للإجراءات  أحد العلامات الخاصة للاختبارات النفسية. (أناستازي، أ، اورينا، س، 2015،  ص 55).

      إن علماء النفس التجريبي في القرن التاسع عشر المبكرين لم يهتموا بعامة بقياس الفروق الفردية، وكان الغرض الأساسي لعلماء النفس في تلك الحقبة صياغة أوصاف عمومية ل   سلوك الإنساني وكان الانتظام وليس الاختلاف في السلوك محور الانتباه؛ والفروق الفردية إما أغفلت أو تم قبولها على أنها شر لابد منه، مما جعل ذلك يحد من إمكانية تطبيق التعميمات؛ ولذلك فإن حقيقة أن أحد الأفراد استجاب بطريقة مختلفة عن فرد آخر عندما تمت ملاحظته في ظروف متطابقة، كان ينظر اليها على أنها خطأ من نوع معين، ووجود مثل ذلك الخطأ أو تباين الأفراد جعل التعميمات تقريبية وليست مضبوطة؛ وكان هذا هو الاتجاه نحو الفروق الفردية الذي ساد في مختبرات مثل تلك التي قام فاندت (wundt, 1879) بتأسيسها في ليبزيج عام 1879، حيث حصل فيها كثير من علماء النفس التجريبي الأوائل على تدريبهم (أناستازي، أ، اورينا، س، 2015،  ص 55)، إن الموضوعات التي تناولها علماء النفس التجريبي عكست خلفياتهم العلمية في علم وظائف الأعضاء والفيزياء؛ وانعكس تأكيد دور الظواهر الحسية على الاختبارات النفسية الأولى (المرجع السابق، ص55).

    إن حركة القياس بألمانيا كانت تركز أساسا على البحث عن أوجه الشبه في السلوك، وذلك بهدف البحث عن سبل لتعميم النتائج بغض النظر عن الفروق الفردية،؛ فالباحثون في ألمانيا كانوا يبحثون على التوافق والاتساق بين الأفراد ويفرون من التباين ويتحاشون دراسته؛ حيث يعتبرونه كشيء لابد منه، وهذا عكس ما حدث فيما بعد في بريطانيا والولايات المتحدة اين كان الاهتمام كبيرا بدراسة الفروق؛ مع العلم أن فاندت ومجموعته كانوا ينظرون إلى اختلاف استجابات الأفراد تحت ظروف مخبرية واحدة  كنوع من الخطأ، وبالتالي فإنهم كانو يعتبرون تعميم النتائج عملية تقريبية فقط (بوسنة، م، 2007، ص 22).

2-3 المدرسة الانجليزية  

        خلال الفترة نفسها انشغل العلماء البريطانيون في عمل له أثر ملموس على قياس السمات العقلية،    وبعكس الألمان انصب اهتمامهم على دراسة الفروق الفردية، ومن أشهر هؤلاء فرنسيس جالتون  Galton F- (1822-1911) الذي تأثرت أفكاره تأثرا وضحا بتفكير خاله شالز داروين C, Darwin (كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 25)، أدرك جالتون الحاجة لقياس خصائص الأشخاص المرتبطين وغير المرتبطين ببعضهم؛ وبهذه الطريقة فقط استطاع مثلا اكتشاف الدرجة الدقيقة للتشابه بين الآباء والذرية والأخوة والأخوات وأبناء العم والتوائم ومراعاة لهذه النتائج كان جالتون معينا في حفز عددا من المؤسسات التربوية على الاحتفاظ بسجلات أنثروبولوجية قياسية تتعلق بطلبتها (أناستازي، أ، اورينا، س، 2015،  ص 55) ؛ وفي سنة 1882 أنشأ مخبرا لعلم الإنسان القياسي وكان يقيس فيه القدرات الحس- حركية وقياس حدة السمع والبصر وزمن الرجع؛ وقد استخدم اختبارات صممها لهذا الغرض، وقد تمكّن من الحصول على مجموعة كبيرة من البيانات عن الفروق الفردية في العمليات النفسية البسيطة، ويرجع إليه الفضل في تطبيق مبادئ الإحصاء الأولية؛ وتوصل إلى استعمال المتوسطات ومعاملات الارتباط (مقدم، ع، 1993، ص 17).

   إن جالتون يعتبر المكتشف الحقيقي لمجال الفروق الفردية؛ وكان مهتما أكثر بالفروق الفردية في المجال البيولوجي منه في المجال النفسي؛ وقد أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه الذي أصدره بعنوان " الملكات الإنسانية " يؤكد إلى هدفه العام هو معرفة الخصائص الوراثية عند البشر ومعرفة الفروق الفردية الأساسية بين السلالات والعائلات المختلفة؛ وذلك من أجل معرفة مدى إمكان استئصال أو تغيير الاستعدادات المتدنية لبعض الأفراد؛ وكذلك تحديد ما إذا كانت إجراءات الاستئصال هذه ممكنة ومعقولة،   بحيث يمكن تجنيب الأجيال القادمة مثل هذه الحالات من الاستعدادات المتدنية لبعض أفرادها؛ وهذا الاهتمام من جالتون يندرج ضمن السعي إلى تحسين النسل. (معمرية، ب، 2002، ص 55)، وقد ابتكر جالتون بنفسه معظم الإختبارات البسيطة التي طبقت في مختبره الأنثربولوجي وكثيرا منها لا يزال مألوفا إما بصيغته الأصلية أو بصيغ معدّلة ومن أمثلة تلك الإختبارات القضيب المعدني للتمييز البصري للطول وصفارة جالتون لتحديد أعلى طبقة مسموعة للصوت، وسلسلة متدرجة من الأوزان لقياس التمييز الحركي، وكان اعتقاد جالتون أن تلك الإختبارات المتعلقة بالتمييز الحسي يمكن ان تفيد كوسيلة لتقدير عقل الشخص؛ وقد تأثر جزئيا في هذا الشأن بنظريات لوك Locke  لذلك كتب جالتون: " إن المعلومات الوحيدة التي تصل إلينا فيما يتعلق بالأحداث الخارجية يبدو أنها تمر من خلال حواسنا؛ وكلما كانت  الحواس أكثر استجابة للفروق اتسع المجال الذي يعمل فيه حكمنا وذكائنا " (Galton, 1883, P 27 in أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 56 ) ، وذكر جالتون أن الأشخاص ذوي تخلف عقلي شديد يميلون إلى أن يكون لديهم عجز للتمييز بين السخونة والبرودة والألم وهي ملاحظة عززها اقتناعه بأن إمكانية التمييز الحسي سوف تكون بعامة أعلى بين ذوي القدرة العقلية المرتفعة  (Galton, 1883, P 27 in أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 56 )

وكان جالتون أيضا رائدا في تطبيق طرق موازين التقدير، والإستبيانات وكذلك في إستخدام أسلوب التداعي الحر الذي استخدم بعد ذلك لأغراض متسعة متنوعة، واختار وعدّل وطوّر  جالتون عددا من الأساليب الإحصائية التي سبق أن اشتقها علماء الرياضيات؛ وقد صاغ هذه الأساليب بشكل يسمح باستخدامها بواسطة باحثين غير مدربين في الرياضيات ويودون معالجة البيانات كميا؛ وبذلك وسّع بدرجة كبيرة تطبيق الإجراءات الإحصائية في تحليل البيانات الإختبارية ؛ وتوسع في هذا الاتجاه تلاميذه أبرزهم كارل بيرسون k, Pearson (أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 56)  ومن أهم المقاييس الإحصائية التي تم التوصل إليها نذكر معامل الإرتباط أو ما أصبح يعرف بمعامل ارتباط بيرسون والوسيط والسلم الترتيبي وغير ذلك؛ ومما قاله بيرسون عن أستاذه غالتون هو أن هذا الأخير لا يقل أهمية عن فاندت؛ حيث أن له الفضل في تأسيس منهج جديد في البحث النفسي هو المنهج الإحصائي (بوسنة، م، 2007، ص 24)، كما قدّم غالتون بمشاركة بيرسون أيضا فكرة المنحنى الإعتدالي كنموذج أو نظرية لتوزيع درجات المقاييس لدراسة (Rust et al, 1989, P4-5  في فرج، ص، 2007، ص 27)، فقد استخدم في عام 1869 درجات اختبار الرياضيات لطلبة جامعة كمبريج جميعهم ودرجات امتحان القبول للكلية العسكرية الملكية ف إثباته أن القدرات العقلية تتوزع اعتداليا على وجه التقريب؛ وقد كتب مقالة اقترح فيها استخدام الطرائق الارتباطية  في اختبار التباين المشترك بين سمتين أو أكثر (Dennis, 1948  في كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 25)

   حاول غالتون قياس الذكاء، أو هو أول من فكّر بجدية في قياس الذكاء فقد أنشأ معملا صغيرا –كما أشرنا- في متحف لندن لقياس قدرات الإنسان؛ أسماه المعمل الأنثروبومتري؛ كما قضى شهورا في معرض كنسنجتون Kinsington قاس خلالها  الخصائص البدنية لجمهور المترددين، وافترض أن القدرات القدرات العقلية والقدرات الحسية الإدراكية مرتبطتان ارتباطا وثيقا، وأن المتأخرين تنقصهم حدة الإحساس وقام بقياس حدة السمع والإبصار وإدراك الألوان وزمن الرجع والتمييز اللمسي والتمييز بين الأوزان والأنشطة الحركية (كالجذب والضغط) ، وقوة النفخ... (معمرية، ب، 2002، ص 56).

    تأثر عدة باحثين بريطانيين بمنهج غالتون، فإلى جانب بيرسون نجد كل من سبرمان Spearman  وبيرت Burt، قدّم سبرمان في سنة 1904 بحثه المشهور حول الذكاء وطرق قياسه؛ وطوّر معامل الإرتباط الرتبي؛ وترجع أهمية أعمال هذه إلى أنها أساس نظريته في الذكاء المعروفة بنظرية العاملين في الذكاء والتي قدّمها عام 1914، أما بيرت فقد طوّر اختبارات لقياس العمليات العقلية العليا مثل التفكير والإنتباه؛ وقدّم في سنة 1913 بحثا بعنوان اختبارات تجريبية للعمليات العقلية العليا؛ كما أنه استعمل التحليل العاملي لتحليل القدرات الذهنية (بوسنة، م، 2007، ص 24).

2-4 المدرسة الأمريكية:

    مع أن اهتمام التربويين الأمريكان للمشكلات النفسية كان منذ مطلع 1800 م، إلا أنهم لم يبدؤوا بتوفير طرق قياس متميزة حتى بداية القرن العشرين ( كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 26)؛ فالمكانة المتميّزة في تطوير القياس النفسي يشغلها عالم النفس الأمريكي جيمس ماكين كاتل Cattel  J.Mc.      (1850-1944)، فعلم النفس التجريبي وحركة القياس اندمجا في أعمال كاتل فقد أكمل رسالته للدكتوراه في ليبزج  بألمانيا في مجال زمن الرجع بإشراف فاندت، وبإلقائه محاضرات في كمبريج عام 1888 تعزز اهتمام كاتل بقياس الفروق الفردية باتصالاته بغالتون  (أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 57).

      يعتبر كاتل السيكولوجي المعروف من أبرز الرواد الذين أسسوا بديات حركة القياس النفسي بالولايات المتحدة؛ ورغم أنه تتلمذ على يد فاندت إلا أنه خالف أستاذه في الرأي فيما يخص موضوع الفروق الفردية، وكان يعتقد أن هذه الفروق أصلية وليست ناتجة عن عيوب القياس أو شذوذ الطبيعة كما كان سائدا في ذلك الوقت (بوسنة، م، 2007، ص 24)، فبينما كان فاندت يدرس الخبرة الشعورية " ذاتيا " عن طريق الإستبطان، قام كاتل بقياسها موضوعيا حين أشار إليها بالزمن الذي يقع بين تلقي المفحوص لمنبه معين وإصداره لإستجابة مطلوبة؛ فقدّم مثالا على ذلك بإرساله رسالة تلغرافية بأكبر قدر من السرعة بعد التعرض لتنبيه معين مثل ظهور ضوء محدد؛ وبذلك وضع الأسس الأولى لدراسة زمن الرجع الذي يفصل بين التنبيه (ظهور التنبيه) والاستجابة وقياسه بطريقة موضوعية. (معمرية، ب، 2002، ص 54-55)

    إن كاتل ينفرد عن بقية تلاميذ فاندت ببحوث متميّزة؛ فاهتم بالفروق الفردية وقياسها، وقاس الفروق في أزمنة الرجع؛ وعلى الرغم من عدم إقتناع فوندت بهذا النوع من البحوث إلا أن دراسته لزمن الرجع أدت إلى إثراء جانبين مهمين:

  الأول: قياس سرعة العمليات الإدراكية في درجات مختلفة من التعقيد،

 الثاني:  استخدام مناهج التصنيف في تجارب التداعي الحر التي كانت موضوعا محببا لدى فانت (فرج، ص، 2007، ص26) وانتقل من الصياغات العامة للقوانين السلوكية إلى التحديد الكمي لطبيعة الفروق الفردية (معمرية، ب، 2002، ص 55)

   افتتح كاتل عام 1888 معمل الاختبارات في جامعة بنسلفانيا وأدى عمله إلى المساعدة في تأسيس تقاليد القياس العقلي في الولايات المتحدة؛ تلا ذلك أن طبق أول بطارية اختبارا كبيرة تتضمن اختبارات لقياس التداعي الحر والتداعي المقيد وبعض العمليات العقلية البسيطة والذاكرة وزمن الرجع على الطلاب في جامعة كولومبيا بدء من 1894، وكان من الضروري نتيجة لتوافر حجم ضخم من البيانات استعمال أساليب لمعالجتها إحصائيا ودراسة النزعة المركزية ومتوسطاتها  وتبايناتها وهو أمر لفت انتباه كاتل بشدة (Boring, 1969,P 573, Murphy, 1967, P 164، فرج، ص، 2007، ص26).

    إن كاتل ساهم مساهمة كبيرة في تطوير حركة القياس النفسي وعلم النفس التجريبي؛ وتعاون مع غالتون وشاركه في الرأي القائل بأن الاستعداد العقلي يمكن قياسه بأعمال بسيطة، ويعتبر كاتل  أول من استخدم اصطلاح " الاختبار العقلي " Mental test سنة 1890  (مقدم، ع، 1993، ص 17)، حيث كتب مقالا سنة 1890 أستعمل فيه لأول مرة في أدبيات علم النفس مصطلح الاختبار العقلي؛ حيث شرح في هذا المقال مجموعة من الاختبارات  النفسية التي كان يجريها على الطلبة المتقدمين للجامعة قصد تحديد مستوياتهم العقلية،  (أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 57) إن هذه الإختبارات اقتصرت على جوانب حسية حركية معينة مثل القوة العضلية وسرعة الحركة والحس بالألم وحدة الأبصار وقوة السمع... وذلك لأن كاتل كان يتفق مع غالتون في القول بأن قياس الوظائف العقلية  من الممكن تحصيله من خلال أعمال بسيطة حيث يمكن السيطرة عليها مثل اختبار التمييز الحسي واختبار زمن الرجع، بينما يصعب ذلك في العمليات المعقدة أو المواقف المعقدة  (بوسنة، م، 2007، ص 25)، لذا قدّم بينيه وهنري نقدا لاذعا لأعمال كاتل في مقالة نشرت في فرنسا عام 1895 معظم سلسلات الاختبارات المتوافرة على أنها حسية بدرجة كبيرة؛ وتركّز على نحو غير ملائم على قدرات بسيطة؛ واقترحا قائمة موسعة ومتنوعة من الإختبارات تشمل الفهم وقابلية الإيحاء والتذوق الجمالي وغير ذلك (أناستازي، أ، اورينا، س،2015، ص 58).

  ومن الباحثين الذين أسهموا في إثراء حركة القياس النفسي بالولايات المتحدة نجد كل من منستر برجر وجاسترو حيث :

-        قام منستر برجر في 1891 بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة من ألمانيا بوصف سلسلة من الاختبارات التي استخدمها مع أطفال المدارس؛ وكانت هذه الاختبارات تتضمن اختبارا القراءة والترابط المضبوط بأنواعه المختلفة والحكم والذاكرة وغيرها من العمليات العقلية البسيطة.

-        عمل جاسترو في سنة 1893 على بناء اختبارات للعمليات الحركية والحسية والإدراكية البسيطة والإهتمام بوضع المحكات المختلفة (بوسنة، م، 2007، ص 25)

-        ألّف ثورندايك عام 1904 أول كتاب في نظرية القياس عنوانه " مقدمة في نظرية القياس العقلي والإجتماعي " وكان غير متأكد من ردود أفعال زملائه وقدّم نسخة منه إلى زميله وليم جيمس (Joncich, 1968, P 290 ، كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 26).

-        وفي عام 1917 وبدخول

-        أمريكا الحرب العالمية الأولى قامت لجنة من علماء النفس ( بنجهام، وغودراد، وهاينز، وتيرمان، وويل، ووايبل، وييركس) بإنتاج خمسة صيغ لاختبارات يتقدم إليها المستخدمين في العسكرية، وبعدها أعد هؤلاء الباحثين مجموعة اختبارات غير لفظية للمفحوصين الذين لا يتحدثون الإنجليزية (Yerkes, 1921).

-        أضاف كل من ثيرستون وشيف (Thurstone & Chave, 1929)  تقنيات لتطوير لقياس الإتجاهات، كما طوّر كل من ثيرستون وكيلي وهولتزنجر طريقة جديدة في التحليل العاملي.

-        وفي الثلاثينات أسس العلماء في هذا المجال مجتمعا نفسيا سهّل الاتتصال بين الباحثين من خلال مجلة أطلق عليها إسم سيكومتريكا (Psychometrika)، وتبعها في عام 1943 نشر مجلة تطبيقية بدرجة أكبر هي القياس التربوي والنفسي (Psychological and Educational Measurement ) ) كرور، ج، الجينا، ج، 2009، ص 27).

         ومع نشر مثل هذه المجلات المتخصصة والعديد من المؤلفات في المجال فإن نظرية القياس النفسي والتربوي يبدوا أنها أضحت أحد فروع المعرفة التي تهم التربويين والنفسيين. 

Modifié le: Tuesday 23 May 2023, 08:59