تمهيد:

     لقد تناولنا في الأجزاء السابقة من الدرس كل من المكون الوجداني والمكون المعرفي لجودة الحياة، كما يمكن رأينا بأنه يمكن قياس جودة الحياة من الجانب الوجداني أو من الجانب المعرفي، وهذا لأن كل من هذه الجوانب يمكن أن تعبر عن الأخرى لما لها من صلة مباشرة مع بعضها البعض. ولفهم هذه الصلة وجب تشريح المخ الانفعالي الذي يربط بين المدركات ويفسرها على خلفية معرفية ويصدر عنها انفعال يترجم إلى سلوك لينتهي مساره إلى تأثير على المزاج. 

1- تشريح المخ الانفعالي:

     المخ الانفعالي هو مجموعة من الأنوية والكتل التي تتموقع وسط شقي المخ ويطلق عليها اسم الجهاز الطرفي، الجهاز الحوفي الجهاز اللمبي أو النظام اللمبي (Le système limbique) أو المخ الأوسط (Le diencéphale) أو المخ الانفعالي (Le cerveau émotionel) لما لديه من وظائف انفعالية وتنسيقية انطلاقاً من جمع المعلومات من المستقبلات الحسية إلى القشرة المخية وتحليلها إلى أجزاء معلوماتية وإعادة تركيبها بطريقة تسمح للفرد كوحدة متكاملة في الأخير أن يدرك، يعتقد، يفسر، يفهم الذات، العالم والأحداث من حوله.

  يتكون المخ الانفعالي من عديد من الأنوية أهمها المهاد (Thalamus)، ما تحت المهاد (Hypothalamus)، اللوزة (L’amygdale)،  حصان البحر (Hypocampe) والغدة النخامية (Hypophyse).

     يقع المهاد في كلا جانبي البطين الثالث بالمخ، وله وظائف عديدة، شكله بيضاوي ويتكون من مادة رمادية، ويحتوي على عشرين نواة عصبية تشرف على توصيل التنبيهات الحسية الصاعدة إلى المراكز البصرية والسمعية ومراكز الإحساس بالمخ كما يحتوي المهاد على مراكز حركية خاصة بالانفعالات. ويقع ما تحت المهاد مثلما يشير اسمه مباشرة تحت أنوية المهاد وهو منظم لعملية الأيض (الهدم والبناء) في الجسم، ويتحكم في الجهاز العصبي المستقل وينظم عمليات مثل التنفس، النوم، الشهية... كما يتصل مباشرة بالغدة النخامية التي تتحكم بدورها في جميع الغدد الصماء (LeDoux, & Bemporad, 1997).

     حصان البحر له علاقة بالتخزين في الذاكرة طويلة المدى، وقد تبين أن تلف على هذا المستوى من الأنوية يصاحبه اضطراب في أداء الذاكرة دون المساس بالتركيز، الذكاء والمنطق. كما يعود إلى الذاكرة لتفسير ادراكات آنية أو عند إعادة تقييم أحداث معينة. أما اللوزة بدورها فهي مجموعة من الأنوية، وظيفتها الأساسية تشفير الانفعالات لجعلها ملائمة مع الموقف والتحكم بالاستجابات الحسية الحركية في الجسم (كعضلات الوجه) (Jean Cottraux, 2021).

   تنطلق مجموعة من الافرازات (ACTH, GH, LH, TSH, FSH)  من الغدة النخامية وهي عبارة عن هرمونات ممزوجة بكميات محددة بدقة متناهية لتنتقل عبر الدم إلى بقية الغدد الصماء وتستثيرها حسب كمية المزج (ومنها جاءت كلمة مزاج) فينتج عنها في الأخير انفعال وردة فعل اذا تطلب الأمر ذلك .

2- جهاز الغدد الصماء le système endocrinien:

    ان الغدة النخامية هي المنسق بين المخ الانفعالي والجسم وهذا من خلال فرز ذلك المزيج من الهرمونات (ACTH, GH, LH, TSH, FSH) التي تذهب إلى مناطق مختلفة في الجسم تسمى بالغدد الصماء.

      الغدد الصماء عبارة عن أعضاء صغيرة منتشرة في الجسم تفرز تكوينات هرمونية مباشرة في الدم وأنزيمات تلعب دورا مهما في حياة الإنسان، تكون لها تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على المزاج وتؤثر وتتأثر بمختلف مراحل النمو (عباس محمود عوض، 1999). توجد الهرمونات بالدم بكميات ضئيلة جدا كجزء من المليون من الجرام، ويتراوح معدل الكمية المنتجة كل يوم بين النانوجرام والملجرام. ومع ذلك فتأثيراتها على الجسم كبيرة، فهي تنظم نموه وتحفظ تجانسه الداخلي، وهي التي ترجع الفرد كبيرا أو صغيرا، سمينا أو رفيعا، هادئا أو عصبيا سريع الغضب (نبيل السيد حسن وآخرون، 2002).

جدول يبين  أهم إفرازات الغدد النخامية التي تتحكم من خلالها في استجابات الجسم.

رمز الإفراز

التسمية الكاملة

العضو المستهدف

ACTH

Hormone adrénocorticotrope

القشرة الكظرية لحثها على إفرازات أهمها الكورتيزول

GH

Hormone de croissance

العضلات والعظام ليس للنمو فقط بل لردة الفعل أيضاً

TSH

Hormone Thyroïde-Stimulante

الغدة الدرقية لحثها على إفرازات أهمها thyroxine, T3, T4

LH

Hormone lutéinisante

الغدد الجنسية لحثها على إفرازات مثل

Testostérone, œstrogènes

FSH

hormone folliculostimulante

 

3- الذاكرة وعلاقتها بالانفعالات:

     يجمع الباحثين والعلماء (Eg : Van der Linden, M, 2003 ; Charlet-Debray, A, 2021 ; Andrianne, A, 2022)  على وجود نوعين مختلفين من الذاكرة. الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى. تشمل الذاكرة قصيرة المدى نوعين مهمين من الذاكرة وهما:

الذاكرة الحسية (la mémoire sensorielle): تدوم هذه الذاكرة لوقت قصير جداً (بضعت أجزاء بالمائة من الثواني فـــقط) وتهتم بتخزين الـــمعلومات التـــي تلتقطها الحواس الـــخمس في شكل خيرة حسية.

الذاكرة العملية (La mémoire de travail) تدوم الذاكرة العملية هي الأخرى وقتاً قصيراً (ثواني إلى بضعة دقائق) وهي التـــي تسمح بتذكر الـــمعلومات الـــبسيطة مثل رقم هاتف أو أين وضعنا الـــمفاتيح.

       في حين نجد أربعة أنواع من الذاكرة طويلة المدى وهي كل من:

الذاكرة الإجرائية (La mémoire procédurale): هذا النوع من الذاكرة يهتم بتخزين المعلومات حول حركات الجسم لإنتاجها لاحقاً في شكل ردود أفعال آلية، مع الأخذ بعين الاعتبار أي تغـــير قد يطرأ هـــنا.

الذاكرة المعنوية (la mémoire sémantique): أو تسمى أيضا بـذاكرة المعاني لأنها تـــبعث إلـــى كل ما نتعلمه ونخزنه من معاني قـــواعد ورموز اجـتماعية ومـــعلومات تـــؤهلنا للـــعيش والـــتكيف داخل الـــمجتمع.

الذاكرة العرضية (la mémoire épisodique): وهي مركز المخزون الانفعالي القائم على خبرات الـــسابقة خـــاصة وهي الـــتي تجعـــلنا نستحضر مشـــاعر معينة عند سماع موسيقـــى معينة أو شم رائحة مـــا.

الذاكرة الضمنية (la mémoire explicite): هي نوع من الذاكرة اللغوية والتي يعتبرها العديد من الباحثين جزء من الذاكرة العرضية إلا أن الذاكرة الضمنية تعمل على وضع المعاني على الكلمات للتعبير عنها في شكل كلام، كتابة أو فن وهذا بطريقة واعية (Jean Cottraux, 2021).

      هذه الأنواع من الذاكرة لا تعمل مستقلة عن بعضها البعض ولكنها تتكامل في الوظائف، وقد تم تقسيمها إلى 6 أنواع نسبة إلى ملاحظات الباحثين حول إمكانية الإصابة على مستوى دون الآخر. ويقترح الباحث LeDoux (1998-2002) نموذجين من الاستجابة الانفعالية في علاقتها مع الذاكرة: الطريق المختصر للاستجابات الانفعالية والطريق المطول.

      أن إدراك المثيرات يبدأ من خلال التقاط المثيرات الحسية (الذاكرة الحسية) لترسل إلى منطقة المهاد مروراً بالقشرة المخية. يعمل هذا الأخير بالتنسيق مع القشرة المخية (وخاصة على مستوى الفص الجبهي) على استحضار الذاكرة طويلة المدى من خلال التحاور مع منطقة حصان البحر فينتج إدراك آني وسريع لهذا المثير ويرسل إلى اللوزتين لرسم صبغة وجدانية تذهب مباشرة إلى منطقة الهيبوتلاموس. هذا العضو سيحرر معادلة مزاجية تلاءم الإدراك وترسله إلى الغدة النخامية التي تفرز المقادير اللازمة من الهرمونات حسب تلك المعادلة فينتج عنها في الأخير ردة فعل سلوكية تعبر عن انفعال معين.  يسمى هذا بالطريق المطول بين إدراك المثير، المعالجة المعرفية والاستجابة. أما الطريق المختصر فينتج خاصة عند استقبال المثيرات المهددة، فتنتقل مباشرة من المستقبلات الحسية على مستوى أضاء الحس إلى منطقة المهاد التي ترسلها بدورها إلى اللوزة دون مناقشتها ثم إلى المناطق الحركية على مستوى القشرة الدماغية لإصدار سلوك بدائي يتسم بالمواجهة أو الهروب أو التجمد (Fight, flight or freeze)، وهذا لأن تلك الثواني القليلة التي يستغرقها المخ الانفعالي في المعالجة المعرفية قد تكون كافية إلى التعرض لخطر الموت حسب تقدير الجهاز الانفعالي للشخص طبعاً (LeDoux, J., 2003).

 4- التأثير المتبادل بين النظام المعرفي، الانفعال والسلوك:

        الإنسان كائن اجتماعي، ولكل مجتمع في العالم أعرافه وتقاليده وقيمه تنبع منها الإرشادات والتعليمات التي تعطى للفرد بشأن الصفات والسلوكيات التي يتوقع أن يقوم بها، وعادة يتلقى الفرد تلك الإرشادات والتعليمات ويحفظها في ذهنه بصورة غير واعية وهذا ما يعطيها الصفة الضمنية (الذاكرة الضمنية) ليفسر على خلفيتها معظم الرموز والصور في إطارها (فهد بن حامد بن صباح العنزي، 2007)، مما ينتج عنه تعقيد في العلاقة بين النسق الذي يعيش فيه، ترجمة المثيرات وإدراكها، تفكيره نحوها واستجاباته الانفعالية الفزيولوجية والسلوكية.

         الأفكار هي عبارة عن كلمات أو صور (بما في ذلك الذكريات) تدور في ذهننا، وكلما شعرنا بوجود نوع من أنواع الانفعالات بداخلنا تنتابنا أفكار معينة، وتساعدنا هذه الأفكار بدورها في التعرف على شكل هذا الانفعال وينتج عنهما سلوك. والسلوك هو الجزء الذي يمكننا ملاحظته ويدل على نوع الانفعال، وتساعدنا الاستجابات الفزيولوجية في معظم الحالات على تحديد قوة واتجاه الانفعال وتعطينا فكرة عن طبيعة الأفكار أو على الأقل كيف قام المخ الانفعالي بترجمتها (Dennis G., & Christine. P., 2021).  وتؤثر العمليات المعرفية التي تعالجها الجملة العصبية على مستوى الفص الجبهي (العمليات العقلية العليا) على الأجهزة الأخرى المرتبطة بها كالأجهزة الحشوية والحسية الحركية، كما وتتأثر بدقتها فتبني توقعات على المهارات التي يمكن لهذه الأجهزة أن تقوم بها، فإذا قامت هذه الأجهزة الدقيقة بوظائفها بنجاح وبصفة متكررة تصبح مصدرا لمعتقدات فعالية الذّات وتزيد هي الأخرى من تعديل وظائفها وتحسينها مع التدريب وتضبط ميولاتها واختيار السلوك المناسب لتحقيقها والجهد الموجه إليه ودرجة القوة التي يتطلبه والاستجابات الانفعالية الملائمة (Bandura, A., 2007).

خلاصة:

       من خلال هذا الدرس يتأكد لنا أن الإنسان كائن في غاية التعقيد، اذ بالرغم من أن العديد من الناس داخل المجتمع الواحد وتحكمهم نفس المعايير وينتمون إلى نفس المعتقدات ونظام القيم وهذا يعني أنهم يتقاسمون نفس الهوية، إلا أن لكل فرد شخصيته الخاصة المنفرد والمميز بها، ولهذا وجب أن نضع كأخصائيين في ذهننا انطلاقاً من هذا القسم من الدرس أن التكفل أي كان نوعه (طبي، نفسي، أرطفوني) يكون بالحالة وليس بالاضطراب.  

Modifié le: Monday 22 May 2023, 12:17