تمهيد:
لقد تطرقنا في المحاضرة الثانية من هذا الدرس بأن الرّفاهية الذّاتية هي ذلك الجزء الذاتي من جودة الحياة، ونجد في هذا الجزء من جودة الحياة مكونين مهمين: المكون الوجداني والكون المعرفي. في هذه المحاضرة سنتطرق إلى المكون الوجداني وهو حالة شعورية يمكن أن نستنتجها من الحالة الانفعالية والمزاجية للفرد، وتعتمد على استعداداته الشّخصية. انها خبرات يعيشها الفرد وينتج عنها أثر مباشر قد يجعل الشخص محب للحياة التي يعيشها ويستمتع بها أو العكس. هذه الحالة تعكس درجة الرضا عن الحياة، أو بوصفها انعكاسا لمعدلات تكرار حدوث الانفعالات (السارة أو المؤلمة) وكذلك شدتها.
1- المشاعر والحالة الوجدانية:
يمكن تعريف المشاعر على أنها مجموعة واسعة من الخبرات الوجدانية، وتتضمن كل من الانفعالات والمزاج، فإذا عرفنا كل مفهوم على حدا، فان المشاعر (Affects) هي مجموع الانفعالات التي يشعر بها الفرد على امتداد واسع من الزمن. والانفعالات (émotions) هي استجابات حادة اتجاه مثير ما (قد يكون شخص أو شيء...) تظهر فجأة وتزيد في الشدة ثم تتلاشى قوتها لتتحول إلى مزاج، في حين أن المزاج (Humeur, Tempérament) هو شعور أقل شدة من الانفعال وغير مرتبط بالمثير وسياقه الذي ظهر فيه، مع ذلك نجده يؤثر في الاستجابات الانفعالية ويتأثر به (بورجي شاكر أ، 2016). تبدأ الانفعالات بمثير (رؤية صديق مثلاً قد يجعلك سعيدا) ثم يتلاشى هذا الشعور ليبقى منه أثر على مزاجك، في حين أن المزاج ليس له سبب مباشر، مع ذلك فان الانفعالات قد تتحول إلى مزاج (جيد أو سيء) بعد زوال قوتها. والمشاعر مبنية على الانفعالات وتكرارها والانفعالات تؤثر في المزاج وتتأثر به
من المؤكد أن الانفعالات تتأثر بالحالة المزاجية للفرد، إذ يميل من يكون مزاجه سيئ إلى إدراك مثيرات خارجية على أنها مقلقة (لتبرير حالته المزاجية السيئة) فيستجيب لها بانفعالات سلبية وقد تكون حادة، وهذا ما يفسر الاستجابة الانفعالية المبالغ فيها التي تصدر عن الشخص القلق اتجاه مثيرات تبدو لنا في العادي بأنها لا تبعث إلى تلك الدرجة من القلق، وهذه الاستجابة الانفعالية مبنية أصلاً على حالة مزاجية سيئة. عندما يزول اثر الانفعال لا يبقى منه سوى ذلك الأثر الذي يتركه على الحالة المزاجية وهذا يعني أن المزاج والانفعالات في حالة تفاعل مستمر (Charlet-Debray, A., 2021).
2- أبعاد الانفعال:
يستجيب الإنسان لمواقف عديدة بطرق مختلفة من الاستجابات الانفعالية، وفي الحقيقة هذا ما نسميه حالة التكيف، إذ تؤدي الانفعالات وظيفتها إذا كانت تسمح بالتكيف مع الوضعية وتكون ملائمة مع الموقف. ويمكن أن نتكلم عن بعدين تقاس عليها الانفعالات:
- الاتجاه: يمثل اتجاه الانفعال بالعلامة (+) بالنسبة للانفعال ذات صبغة ايجابية كالفرح والسعادة وبالعلامة (-) للانفعال ذات صبغة سلبية مثل الغضب والحزن، مع ذلك لا يوجد انفعال سلبي وجيد وآخر ايجابي وسيئ، بل نستعمل الإشارات للتعبير عن اتجاهه فقط.
- القوة: تختلف الاتجاهات من حيث شدتها وحدتها، اذ نلاحظ أن هناك انفعالات عنيفة كالحماس والتعصب في حين هناك انفعالات أقل قوة ومنها ما نكاد لا نشعر بها نظراً لضعف قوتها مثل كالاسترخاء والملل (Charlet-Debray, A., 2021)
يمكن تصنيف أنواع من الانفعالات القوية سواء سلبية في الاتجاه أو ايجابية (الاستثارة، السعادة، الطاقة والحيوية، الفرح/ القلق، التوتر والعصابية...) كما توجد انفعالات أقل قوة (الشعور بالراحة والهدوء والاسترخاء/ الشعور بالتعب والملل والاكتئاب...). وهي مشاعر يمكن أن تكون ايجابية أو سلبية في الاتجاه.
إن الانفعالات السلبية (في الاتجاه) بدورها جزء من الحياة، إذ لا يمكننا تصور شخص سعيد على خط دائم، وحياته كلها انفعالات ايجابية، فالانفعالات القوية الدائمة حتى وان كانت ايجابية قد تسبب أضرارا فزيولوجية لما تسببه من ارتفاع في الضغط الدموي مثلا، في حين انفعالات الايجابية الضعيفة كالهدوء والاسترخاء الدائمين في الزمن قد يتحولان إلى حالة من الملل والضجر. هذا نظريا، ولكن تطبيقيا غير ممكن أن نجد هذين النموذجين، بل الإنسان في مواجهة مستمرة لمختلف المثيرات التي يدركها ويؤوِّلها وتنتج عن تأويلاته انفعالات ايجابية أو سلبية قوية في بعض الأحيان، وضعيفة في أحيان أخرى، بل وقد تختلط علينا الانفعالات في الكثير من الأحيان. هذه التعددية في تذبذب المشاعر وتنوعها هو الذي يعطي للحياة طعمها ويمنحها ثروة عاطفية ووجدانية بامتياز(بورجي شاكر أ، 2006).
3- جودة الحياة من الجانب الوجداني:
جودة الحياة من الجانب الوجداني لا تعني وجود الانفعالات الايجابية والخلو من الانفعالات السلبية، بل هي الثروة الانفعالية والوجدانية ككل، بل وأحيانا لا يمكننا أن نفرق بين الانفعالات السلبية والايجابية كالذهول مثلاً. ويبقى الأهم في كل هذه المشاعر تكرارها وطبيعتها (ايجابية أو سلبية) مقارنة مع السياق التي تحدث فيه وتأثيراتها (تدفع الفرد أو تثبطه). هذا ما يحدد ميولها السلبي أم الايجابي. فالقلق وان كان يُصنَّفُ من ضمن الانفعالات السلبية قد يدفع الفرد إلى التحضير الجيد للامتحان وكذلك الكثير من الضغوطات تقود إلى الانجاز وقوة التدفق الشعوري (Flow)، ويبقى الجانب الذّاتي للفرد (إدراك الأحداث وتقييمها، توقع النتائج وعزو الأسباب) هو من يحدد لنفسه إن كانت سلبية أو ايجابية فيشعر بدرجة معينة من السعادة، هذه الأخيرة (السعادة) يمكن قياسها من خلال قائمة السعادة أوكسفورد "questionnaire du bonheur d’Oxford (Hills & Argyle, 2002)" أو قائمة تحديد المشاعر السلبية والايجابية "l’affect positif et négatif (Watson, Clark & Tellegen, 1988)" كما يمكن قياس جودة الحياة من الجانب الوجداني بهذه الأدوات والمقاييس (Kotsou, I., & Leys, C., 2017).
للتذكير فان المكون الوجداني لجودة الحياة يمكن قياسها من خلال مؤشر السعادة. والسعادة من هذا المنظور هي تكرار الانفعالات ذات الطابع الايجابي وتغلبها على تكرار الانفعالات السلبية. إذ يرى مايكل أراجيل (1993) في كتابه سيكولوجية السعادة أنه يمكن فهم السعادة بوصفها انعكاسا لمعدلات تكرار حدوث الانفعالات السارة وكذلك شدة هذه الانفعالات واتجاهاها. والانفعالات والمشاعر هم العناصر الأكثر ذاتية في الوعي ويمكن تصنيف المشاعر بصفة عامة حسب طبيعتها وتأثيرها على حياة الفرد إلى مشاعر سلبية ومشاعر ايجابية. فالمشاعر الايجابية (كالسعادة والحب) تعبر عن تقييم لانفعالات ووجدانات سارة ومحبوبة. أما المشاعر السلبية (تأنيب الضمير والقلق) تعبر عن انفعالات ووجدانات غير سارة وغير محبوبة، مع العلم أنه لا توجد حالة حياد بينهما، أي أن الغياب التام للمشاعر حالة غير واردة (Mehran, F., 2010). وتأخذ السعادة مصادرها من عوامل عدة، بحيث يصعب حصرها في العدد أو في الأهمية وهذا لطبيعتها الذّاتية ولكن مع ذلك فهناك من الدراسات الامبريقية ما أكدت على بعض العوامل وأهميتها دون الأخرى مثل الصِّحة، الانجاز، الصداقة والعلاقات الاجتماعية، المال، التدين وسمات الشّخصية كالتفاؤل. وهذا لا يعني أن العوامل الأخرى غير مهمة ولكن مازالت الدراسات العلمية تفتقر إلى التحليل البعدي (méta-analyse) الذي يعطي عناصر أخرى صبغة علمية مؤكدة (C. Tarquinio et al, 2011) فمثلا إسعاد الآخرين وبذل جهد من أجلهم، يعتبر مصدرا رائعا للشعور بالسعادة بالنسبة للكثيرين من الناس (بشير معمرية (C)، 2012).
4- تأثير المشاعر على جودة الحياة:
على عكس الانفعالات، فان المشاعر يمكن تقسيمها الى تقسيمين حسب تأثيرها في جودة الحياة: المشاعر السلبية والمشاعر الايجابية. المشاعر الايجابية (affects positifs) هو مفهوم يطلقه علم النفس الايجابي على ذلك الشعور العام بالأمن النفسي عند الفرد بحيث يشعره بقدرته على ممارسة كفاءاته داخل محيطه دون أن يبدي درجات عالية من الحذر والتردد. وتعمل هذه المشاعر الايجابية على توسيع مجالات التفكير والسلوك عند الفرد (Tarquinio, C., et al, 2011). وللمشاعر الايجابية ﺁﺜﺎﺭ ﺇﻴﺠﺎﺒﻴﺔ ﻗﻭﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺴﻠﻭﻙ ﺍﻟﻔﺭﺩ، ﻤﻨﻬﺎ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺭ الايجابي حيث يفكر ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺒﻁﺭﻕ ﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻭﺃكثر ﺇﻴﺠﺎﺒﻴﺔ ﻋﻨﺩﻤﺎ ﻴﻜﻭﻨﻭﻥ ﺴﻌﺩﺍﺀ ﻤﻘﺎﺭﻨﺔ ﺒﺤﺎﻟﺘﻬﻡ ﻋﻨـﺩ ﺍﻟﺤـزﻥ وﺍﻟﻜﺂﺒﺔ، كذلك ﻴﻜﻭﻥ ﺍﻟﺴﻌﺩﺍﺀ أكثر ﺜﻘﺔ ﺒﺎﻟﻨﻔﺱ ﻭأكثر تقديراًﹰ ﻟﺫﻭﺍﺘﻬﻡ ﻭأكثر في الكفاءة الاجتماعية، ﻭﻟﺩﻴﻬﻡ ﺍﺴﺘﻌﺩﺍﺩ ﻟﺤل مشكلاتهم ﺒﻁﺭﻕ ﺃﻓﻀل، ﻭﻫﻡ ﺃكثر ﺍﺴـﺘﻌﺩﺍﺩاﹰ ﻟﺘﻘـﺩﻴﻡ ﺍﻟﻤﺴﺎﻨﺩﺓ الاجتماعية للآخرين (السيد محمد أبو هاشم، 2010). أما المشاعر السلبية كالحزن، الخوف والشك فتولد في ذهن الفرد سيالة عصبية مثبطة تعمل عكس الدوافع فتكبح نشاطاته النفسية وتمنعه عن انشغالاته وأعماله الاعتيادية نظرا لعدم وجود لذَّة في ذلك أو لغياب ميولات ذاتية (Mehran, F., 2010).
تعمل المشاعر السلبية على شاكلتين من حيث تأثيرها على الجانب البيولوجي: إما على شكل استثارة حادة تكون دائمة أو متكررة على الجهاز السمباتوي والميل إلى تهويل الأحداث والاستجابات المبالغ فيها أمام مواقف تبعث إلى درجة من الضغط أو لا تبعث أساساً فتهشش الجسم والأعضاء الداخلية كممارسة الضغط على جدران الأوعية الدموية والعمل على تصلبها الذي يهيئ الإصابة بارتفاع الضغط الدموي، يا إما في شكل إثباط نفسي حركي ينتج عنه التقليل من فعالية عمل جهاز المناعة، مما يترك الفرد عرضة للإصابة بالأمراض. فالزيادة للنشاط العصبي خاصة الجهاز الإعاشي تُحدث ارتفاع في كمية الأدرينالين في الدم وزيادة ضربات القلب وأحيانا جحوظ العينين، ويصبح الجلد شاحبا، مع جفاف الحلق وزيادة التنفس ورعشة العضلات، وفي حال استمرار الحالة الانفعالية، يشعر الفرد بعدم الراحة والتهيج والملل بشكل نمطي، مسببة خللا في وظائف الشهية والهضم والنوم، فينتج عن ذلك تدهور على صحة الجسم. وقد أكد باحثون أمثال مالمو Malmo (1975) أن الانفعالات السلبية كالقلق يصاحبه زيادة مفرطة في قابلية الفرد للاستثارة في كل من الجهازين العصبي المركزي والإعاشي، وتكون السمة المميزة للفرد القلق هو الاستجابة لمواقف الحياة اليومية العادية كما لو كانت طوارئ أو مواقف خطورة.
أما الاكتئاب والاثباط النفسي الحركي الذي يصاحب حالات الاكتئاب، فينتج عنه انخفاض ملحوظ على مستوى عمل جهاز المناعة، فقد وجد هاربرت وزميله كوهان (Cohen & Harbert, 1999) لدى مراجعتهما لعدد من الدراسات حول العلاقة بين الاكتئاب الاكلينيكي والمناعة، أن الاكتئاب ارتبط بتغيرات عدة في خلايا المناعة، وقد وجد أن هذه التغيرات تزداد حدة لدى كبار السن والمرضى المقيمين في المستشفيات. وتشير الأبحاث بما لا يقبل الشك إلى أن العلاقة بين الاكتئاب وضعف المناعة علاقة مباشرة وطردية، فكلما اشتدت كئابة الفرد ضعفت المناعة عنده (شيلي تايلور، 2008).
يتزامن الاكتئاب ووجود أعراض جسمية كفقدان في الوزن، اضطرابات الشهية والتغذية، فقدان الرغبة الجنسية والوظائف الحيوية، اضطرابات الاستغراق في النوم والاستيقاظ المتكرر في الليل. وكما يمكن للاكتئاب المزمن أن يهشش من صحة الفرد فان المرض المزمن يولد الاكتئاب كردة فعل بعد التشخيص، أو لأسباب فزيولوجية كيميائية مثلما هو في حالة السرطان والأمراض الغددية. وبعض العلاجات والأدوية تسبب أيضاً الاكتئاب، كما قد تتخلل حياة الإنسان فترات اكتئابية مثل اكتئاب ما بعد وضع الحمل عند النساء. ومن هنا يتضح تعقد التداخل بين المشكلات البيوطبية النفسية والاجتماعية في العلاقة بين المشاعر السلبية والصِّحة (Fischer, G., et Tarquinio, C., 2014).
الخلاصة:
إن توافر المشاعر الايجابية وفقدان التأثيرات السلبية هو تصور نظري، إذ لا تخلوا حياة إنسان من المشاعر السلبية التي تتخلل فترات من حياته وأحيانا قد تمتد في الزمن لمدة معتبرة وتتذبذب في الشدّة من الحدّة إلى الخفّة، بل وقد لا نعرف المشاعر الايجابية وقيمتها إذا لم نمر بتجارب مؤلمة نكتسب منها خبرات التي تمنحنا قوة التحمل، ويبقى المهم أن يكون تقييم الفرد في شموليته على حياته وتقبلها بسلبياتها وايجابياتها ولا يركز على حوادث أو أجزاء سلبية معينة من حياته.