تمهيد:

     لابد أن نُشير إلى أن هناك غموض في استعمال بعض المفاهيم، ففي الواقع نجد الكثير من الدراسات العربية التي تستعمل السعادة كمرادف للرفاهية الذّاتية كما نجد في بعض الأحيان خلط بين الرّفاهية الذّاتية ونوعية الحياة بل وتستعمل كمرادف لجودة الحياة أو للرضا عن الحياة. وللتحكم الدقيق في المفاهيم سوف نقوم بالتدقيق في هذه المصطلحات القريبة منها (الرفاهية الذاتية، السعادة، والرضا عن الحياة) لنتمكن من التفريق بينها ولكي يتضح لنا أيضا مفهوم جودة الحياة بصفة أدق.

1- الرّفاهية الذّاتية:

     إذا كانت نوعية الحياة حسب تعريف منظمة الصِّحة العالمية أﻧﻬا إدراك الفرد لوضعه في الحياة، في السياق أو المحيط الثقافي والنظم القيمية التي يعيش فيها، وبعلاقته مع أهدافه وتوقعاته ومعاييره وشؤونه (منظمة الصِّحة العالمية، 2005، ص 27)، فان الرّفاهية الذّاتية هي ذلك التقدير الذّاتي لدرجة رضا الفرد عن حياته بصفة عامة وحالاته الصِّحية، الاقتصادية، العلائقية والروحية والتمتع بها ومدى قدرته على تحقيق الأهداف (Cummins et al, 2006)، وهذا يعني أن جودة الحياة مفهوم أعم وأشمل من الرّفاهية الذّاتية التي تمثل الجانب الذّاتي منها. فالرّفاهية الذّاتية كمتغير بالمفهوم القياسي هو التقييم الذّاتي لنوعية الحياة ظَهَرَ كنتيجة للصعوبة التي وجدها الأخصائيون في المجال الصِّحي (سواء في الصِّحة النفسية أو الصِّحة الجسمية)، فقد ورد عن تيليوين وكيومن (Cummuns & Tilouine, 2013) في أن قياس نوعية الحياة (QOL) واجه صعوبات معقدة نظرا لتعقد التعريفات التي تخصه وعدم وضوحها، إذ يحصي مركز نوعية الحياة المتواجد باستراليا ما يقارب 1200 أداة قياس وتقدير يُفترض أنها تقيس نوعية الحياة، ولكل واحد منها توجه معين أو مجموعة من المتغيرات المختلفة عن نظيراتها. ويعود ذلك إلى أن معظمها مقننة على عينة محددة لا يمكن أن تمثل عامة الناس، وبذلك تبقى محدودة ودون أرضية نظرية. كما أن مقاييس نوعية الحياة غالبا ما تميز بين شقين من الأبعاد: الذّاتية والموضوعية. وفي الحقيقة البعد الموضوعي لا يمكن فصله عن البعد الذّاتي بل هناك تقييم ذاتي للبعد الموضوعي. وبناءا على هذا الأساس ظهر مفهوم الرّفاهية الذّاتية (Subjective Wellbeing) كتقدير الذّاتي لنوعية الحياة (Tiliouine, Cummins & al, 2013).

       كخلاصة لهذا العنصر فان الرّفاهية الذّاتية هي الجانب الذّاتي لنوعية الحياة بالرغم من أنها تعتمد على الجانب الموضوعي في تقييم الفرد لحياته. كما أن نوعية الحياة مفهوم متعدد التخصصات يمكن دراسته من الجوانب الاقتصادية، السياسية، حقوقية، صحية... في حين أنَّ الرّفاهية الذّاتية مفهوم نفسي-اجتماعي ومعرفي قائم على الإدراك والتوقع.

2- السعادة:

      قد نلاحظ أن دراسات الرّفاهية الذّاتية ظهرت من خلال الدراسات التي اهتمت بالسعادة. والسعادة حسب فينهوفن (Veenhoven R., 2003) تشير إلى حب الشخص للحياة التي يعيشها، واستمتاعه بها، وتقديره الذّاتي لها بصورة كلية. ولذا فإن السعادة لا تُحسب معرفياً من الفجوة بين الرَّغبات والواقع ولكنها حالة شعورية يمكن أن نستنتجها من الحالة الانفعالية والمزاجية للفرد، وتعتمد على استعداداته الشّخصية مثل (الفعالية، والاستقلال، والمهارات الاجتماعية). فالسعادة حالة شعورية يمكن أن تستنتج من الحالة المزاجية للفرد (تحية عبد العال ومصطفى رمضان مظلوم،  2013). أما مايكل أراجيل (1993) فيرى أنه يمكن فهم السعادة بأنها انعكاس وجداني لدرجة الرضا عن الحياة، أو بوصفها انعكاسا لمعدلات تكرار حدوث الانفعالات السارة وكذلك شدة هذه الانفعالات، وينبغي أن نأخذ ثلاثة عناصر للسعادة في الاعتبار هي: الرضا عن الحياة ومجلاتها المختلفة، الاستماع والشعور بالبهجة إضافة إلى الخلو من العناء وما يتضمنه من قلق واكتئاب.

       إن تَوَجُّه علماء النفس إلى الرّفاهية الذّاتية جاء أيضا لصعوبة ضبط مفهوم السعادة في شكل متغير قابل للقياس الكمي، وكون السعادة مفهوم معقد ومجرد وفلسفي، لم يتمكن العلماء من إيجاد تعريف موحَّد وخلفية نظرية تجعل منه مصطلح علمي، ولذلك تحول اتجاه أشهر الباحثين في الميدان أمثل ادوارد دينر (ED. Diener, 1984) إلى مفهوم الرّفاهية الذّاتية التي تشمل مشاعر السعادة كأحد المكونات الوجدانية لمفهومه. وباختصار فان مشاعر السعادة هي إحدى المكونات الوجدانية الايجابية للرفاهية الذّاتية، رغم أنها ترتبط بالجانب المعرفي عامة وبالرضا عن الحياة خاصة.

3- الرضا عن الحياة:

   رضا الفرد عن حياته هو أحد أبعاد الرّفاهية الذّاتية. ويعرف هذا المتغير على أنه التقييم الشامل لنوعية الحياة التي يعيشها الفرد وفق معاييره وقيمه الخاصة (Shin & Johnson, 1978) ويخضع هذا التقييم إلى الوضع الذي يعيشه الفرد حاليا ومقارنته مع توقعاته وكيف كان يتصور سابقا أن يكون وضعه الحالي (Diener et al, 1985). وهذا ما يترك مساحة لظهور مختلف مجالات الحياة (الصِّحة، العمل، العلاقات...) وترتيبها حسب الأهمية (Shankland, R., 2012).        

       من خلال تناول هذه المفاهيم فانه يتبين لنا أن الرِّضا عن الحياة مُكوِّنٌ من المكوِّنات المعرفية للرفاهية الذّاتية، والسعادة هي الأخرى مكوِّنٌ من المكونات الوجدانية للرفاهية الذّاتية، في حين أن الرّفاهية الذّاتية هي الجزء الذّاتي من نوعية الحياة وهي الخاصية التي جعلت منها متغير يدخل ضمن إطار تخصص علم النفس على غرار السعادة، الرضا عن الحياة ونوعية الحياة.

         إن الرّفاهية الذّاتية في الأخير هو حكم يطلقه الفرد على نوعية حياته ذاتيا، ويطلق هذا الحكم بعد تقييم أهم مجالات الحياة المهمة في قِيَم الفرد، وتتضمن التقييم العام للرضا عن الحياة، الصِّحة، العلاقات، العمل... ويترتب عن هذا الحكم مشاعر ايجابية كالسعادة والتمتع بالحياة، أو سلبية كالقلق والاكتئاب (Tarquinio, C., et al, 2011). ويمكن اعتبار الرفاهية الذاتية من المنظور القياسي بأنه الجانب الذاتي لنوعية الحياة.

          هذه المفاهيم (الرفاهية الذاتية، السعادة والرضا عن الحياة) هي المفاهيم الأقرب إلى مفهوم جودة الحياة والمتداخلة معها، بل يمكن استخدام بعضها البعض كبديل عن الآخر ومحك عن جودة الحياة كونها تتناول جانب من جودة الحياة.

4- الصحة:

      إذا تتبعنا تطور مفهوم جودة الحياة بعد الحرب العالمية الثانية قد نجد أن الأطباء والأخصائيين النفسانيين هم الذين ساهموا بشكل أساسي في توجه البحث العلمي المتخصص في العلوم الطبية نحو الاهتمام بجودة الحياة وهذا كإجراء لمراعاة الأبعاد النفسية والاجتماعية في الصحة كامتداد لتعريف الصحة مثلما دعت إليه منظمة الصحة العالمية، ومن هنا عرف هذا المفهوم توسع وانتقال من مفهوم موضوعي قائم على مؤشرات اقتصادية إلى مفهوم ذاتي قائم على تقييم الفرد لحالته البدنية، النفسية والاجتماعية (Bacro, F., 2019).

       إن جودة الحياة التي يعيشها المفحوص تعتبر مؤشراً لمدى تحسن وتطور الحالة، كما نقيس بها مدى استجابة الحالة للبرنامج العلاجي وتقدمها. هذا لأن الصحة على العموم ترتبط مباشرة بجودة الحياة وتتأثر بقوة بأحكامنا حول صحتنا الجسمية والنفسية (M. Schweitzer et E. Boujut, 2014).

خلاصة:

      يجب أن نحتفظ في الذهن أن جودة الحياة مفهوم واسع ومعقد، يستعمل في مجال العلوم الطبية بعدما أدرجته منظمة الصحة العالمية ضمن اهتماماتها ليكون محك للبرامج العلاجية، وهذا يعني أن البرامج العلاجية التي تحسن من صحة المفحوص تحسن تلقائياً من جودة حياته فينعكس هذا على صحته الجسمية (مثل إعادة اكتساب قدرات أو مهارات تم فقدانها ولو لفترة وجيزة أو ربما لم تكن لديه أصلاً من قبل) وحالته النفسية (مثل الشعور بالراحة والرضا عن الحياة) وأدائه الاجتماعي (مثل إعادة الدمج الاجتماعي أو العودة للعمل أو القدرة على القيام بنشاطات اجتماعية كان يفتقد القدرة على القيام بها).

        يجب أن نحتفظ كذلك أن جودة الحياة مفهوم شامل تعتمد على تقييم ذاتي الذي بدوره يكون قائماً على مؤشرات موضوعية، وتعتبر الرفاهية الذاتية الجانب الذاتي والجانب التقييمي لجودة الحياة، أما الرضا عن الحياة فهو ذلك التقييم المعرفي للرفاهية الذاتية والذي يعبر بطبيعة الحالة عن تقييم معرفي لجودة الحياة، في حين أن السعادة هي انعكاس مشاعر الرضا عن الحياة وبالتالي تعبر عن الجانب الوجداني للرفاهية الذاتية وهذا يعني أنها تعبر عن كذلك وجدانياً عن جودة الحياة.

         جودة الحياة هو كذلك مفهوم يستعمل في المجال الطبي من قبل أخصائيي الصحة كمحك لها (أي جودة الحياة تستعمل كمحك للصحة) وهذا للتداخل الكبير الذي يربط بينهما، وسوف نتطرق بالتفصيل في الأقسام الموالية من هذا الدرس إلى الصحة وعلاقتها بجودة الحياة.

Modifié le: Sunday 21 May 2023, 15:24