تمهيد:
يعدّ العالم السويسري فردينان دي سوسير مدرسة قائمة بذتها؛ إذ شكلت ألسنيته نقلة نوعية ومحورا أساسيا في مختلف الحقول المعرفية، فهو أب اللسانيات الحديثة، "درس علم اللغة العام، ونبغ فيه، حتى اعتبره بعضهم رائد اللسانيات اللغوية في عصره، وزعيم المدرسة اللغوية الوصفية، ومؤسس الاتجاه البنوي في أوربا، وأول لغوي تجرأ على القيام بدرس في علم اللغة العام"[1]، فبفضله أصبحت الدراسات اللغوية تتم وفق منهج علمي آني يتوخى الشمول والدّقة وعدم التناقض، ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ دراسات سيوسير كانت في البدء تاريخية، فقد تتبّع تطوّر الكلمات، واختلاف المخارج الصوتية من زمن لآخر في المجتمع اللغوي الواحد، وتحوّله إلى الدراسة العلمية للغة لم يكن فجأة، بل كان من تأثير مجموعة من العوامل التي ميّزت نهاية ق19 وبداية ق20 الميلاديين، والتي أثّرت في المعارف عامة وفي الدرس اللغوي خاصة.
وأهم عمل تركه دي سوسير كتابه (محاضرات في اللسانيات العامة) الذي يقع في خمسة أجزاء، وفي ثلاثمائة صفحة، تناول في مقدّمته قضايا هامة تتعلّق بنشأة اللسانيات وتطوّرها وعناصر علم اللغة ومبادئ علم الأصوات.
وتجدر الإشارة أنّ تلامذته هم من قاموا بجمع هذه المحاضرات وتنسيقها ونشرها في كتاب عام1916[2].
مبادئ النظرية اللسانية عند دي سوسير:
تمثّل هذه المبادئ الأفكار الجديدة التي أتى بها دي سوسير وهي مجموعة من المسائل اللغوية الثنائية المتعارضة، وهي مبثوثة في ثنايا محاضراته، ولم يحدّدها سوسير التحديد الدقيق الذي سنتحدّث عنه، بل جمعها تلاميذه ولهم الفضل في تصنيفها هذا التصنيف:
1- اللغة نسق أو نظام:
النسق هو مجموعة القوانين والقواعد العامة التي تحكم الكلام الفردي، وتمكنه من أن يكون ذا دلالة، وبغيابه يصبح الكلام أصواتا بلا دلالة ولا معنى، وبناء اللغة يتمثل في العلاقة بين الكلمات، فاللغة كل منظم من العناصر لا يمكن دراسته إلا من حيث كونه يعمل مجموعة، ولا يكون لعناصر التنظيم أية دلالة في حد ذاتها، بل تتحدد دلالتها فقط عندما ترتبط بعضها ببعض"[3].
ومنه فرّق دي سوسير بين ثلاثة مصطلحات:
- اللسان: وهو ظاهرة إنسانية ذات أشكال متعدّدة تنتج عن الملكة اللغوية الإنسانية.
- اللغة: تمثّل الجزء المتحقّق من اللغة بمعناها الإنساني(اللسان)، وهي تشكّل نظاما متعارفا عليه داخل جماعة إنسانية محدّدة ، ومن صفاتها أنّها فطرية، اجتماعية، مكتسبة.
- الكلام: هو مفهوم فردي يتعلّق باللسان وباللغة، ويشمل الأداء الفردي المتغيّر المرتبط بالحالة النفسية للمتكلّم.
2- الشكل والمادة:
فاللغة شكل وليست مادة، أي أن اللغة مجموعة من العلاقات، وليست مفردات محددة المعاني، فمعنى الكلمة لا يتحدد إلا بعلاقتها بغيرها[4]، ومنه تتحدد للكلمة معنى معجمي ومعنى سياقي ينضاف إلى معناها المعجمي إذا وضعت في سياق معين.
3- الدراسة الوصفية والتاريخية:
لها مصطلحات أخرى مثل(السكونية والتطورية) و(الآنية والتاريخية)، وتتعلّق هذه الثنائية بالمنهج اللساني لدراسة اللغة، ونجملها في منهجين هما:
-الدراسة اللغوية الآنية: وتتّصف بأنها وصفية توافقية وسكونية، موضوعها دراسة حالة النظام اللغوي في نقطة معينة من الزمن.
- الدراسة التاريخية: وهي دراسة اللغة في مراحل زمنية متتالية، وصفاتها أنّها تاريخية، تطورية وتعاقبية، تهتم بدراسة العلاقات المنطقية والنفسية التي أدت إلى تلك التغييرات اللسانية عبر مراحل غير متزامنة، وينتج عنها الكشف عن الاختلافات التي تصيب النظام اللغوي الثابت عبر مراحل هذا التطوّر.
ونخلص إلى أن الدراسة الوصفية الآنية تعالج الموقف اللساني في لحظة بعينها من الزمان، أي أنها تعنى بوصف مكونات الخاصة لكل لغة[5].
4- الاستبدال والتوزيع:
يصطلح عليها بالمحور (الاستبدالي/التوزيعي) أو( العمودي/ الأفقي) أو(الاختيار والتأليف)، وهي ناتجة عن تفريق سوسير بين مرحلتين أساسيتين في عملية إنتاج الكلام، ولكنّهما في الوقت نفسه ومتداخلتان، يقوم بهما المتكلّم في الوقت نفسه، فيرى سوسير أنّ عبارة ما في تركيب ما لا تكتسب قيمتها إلاّ بتقابلها مع ما سبقها أو ما يليها أو بهما معا.
-محور الاختيار: المجموعات اللغوية المخزنة في الذاكرة، والتي تشكل محورا عموديا استبداليا.
-محور التركيب/ التأليف: أو المجموعات اللغوية الحاضرة في الجملة والتي تشكل محورا أفقيا نظاميا.
ولكي يتم إدراك المعنى وفهمه لا بد من النظر إلى المحورين معا[6].
5- الدال والمدلول:
يستخدم دي سوسير مصطلح العلامة (signe) للدلالة على الكلمة لفظا ومعنى وهما وجهان لعملة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهما:
- الدال: ويمثّل الصورة الصوتية
- المدلول: ويمثّل الصورة المفهومية الذهنية التي تعبّر عن التصوّر الذهني لذلك الدال، وتتمّ الدلالة (signification) باقتران الصورتين الذهنية والصوتية، وبحصوله يتم الفهم، يقول سوسير: "إنّ العلامة اللسانية لا تربط شيئا باسم، بل تصوّرا بصورة سمعية، وهذه الأخيرة ليست الصوت المادي"[7] فحسب، وإنما هي الدفع النفسي لهذا الصوت، والعلاقة التي تجمعهما هي علاقة إعتباطية.
- اعتباطية العلامة اللسانية:
المقصود بالعلاقة الاعتباطية، هو عدم خضوع العلاقة التي تربط الدال والمدلول إلى التعليل والتبرير العقليين.
[1] أحمد مختار عمر، محاضرات في علم اللغة الحديث، عالم الكتب، القاهرة، مصر، ط1، 1995، ص160.
[2] أحمد مومن: اللسانيات النشأة والتطور، ديوان المطبوعات الجامعية، الساحة المركزية، بن عكنون/ الجزائر، ط2، 2005، ص121.
[3] وليد قصاب: مناهج النقد الأدبي الحديث، دار الفكر، دمشق، ط2، 2009، ص125.
[4] المرجع نفسه، ص 126.
[5] نعمان بوقرة: المدارس اللسانية المعاصرة، مكتبة الآداب، القاهرة، 2004، ص80.
[6] أحمد محمد قدور: مبادئ اللسانيات، دار الفكر المعاصر، بيروت/لبنان، ط1، 1996، ص19.
[7] فيرديناند دوسوسير: محاضرات في اللسانيات العامة، ترجم عبد القادر قنيني، ص86.