المحاضر1
المحاضرة 10 : ظهور علم المصطلح عند العرب 0 )علم أصول الفقه، علم المصطلح الحديث(
( جهود العلماء العرب القدامى في الظاهرة المصطلحية: -
توطئة: إنّ التقدّم في المعرفة البشريّة والتكنولوجيا والاقتصاد يعتمد إلى حدّ كبير على توثيق
المعلومات وتبادلها. وتُستخدَم المفاهيم، التي نعبّر عنها بالمصطلحات والرموز، أساساً لتنظيم
الأفكار العلميّة وجميع المعلومات الأخرى. غير أنّ هذا التطور السريع في المعارف الإنسانيّة أدّى
إلى صعوبة إيجاد مصطلحات كافية شافية، إذ لا يوجد تطابق ولا تناسب بين عدد المفاهيم العلميّة
المتنامية وعدد المصطلحات التي تعبّر عنها. فعدد الجذور في أيّة لغة لا يتجاوز الآلاف على حين
يبلغ عدد المفاهيم الموجودة الملايين وهي في ازدياد ونمو مضطردين. ففي حقل الهندسة
الكهربائيّة، مثلاً، يوجد حالياً ما يربو على أربعة ملايين مفهوم على حين لا يحتوي أكبر معجم لأيّة
لغة على أكثر من ستمائة ألف مدخل.
ولهذا كلّه، تلجأ اللغات إلى التعبير عن المفاهيم الجديدة بالمجاز والاشتراك اللفظيّ وغيرهما من
الوسائل الصرفيّة والدلاليّة. وقد يقود ذلك إلى ارتباك واضطراب على المستوَيين الوطنيّ والدوليّ،
خاصّة أن تصنيف المفاهيم وطريقة التعبير عنها يختلفان من لغة إلى أخرى ما يؤدّي إلى صعوبة في
تبادل المعلومات وتنميتها. ولهذا، كذلك، كان لا بدّ من توحيد المبادئ التي تتحكّم في إيجاد
المفاهيم أو تغييرها وفي وضع المصطلحات المقابلة لها وتعديلها. ومن هنا نشأ علم المصطلح
الحديث خلال القرن العشرين ؛ وهو علم حديث النشأة وما زال في دور النمو والتكامل.
مصطلح أم اصطلاح ؟
إنّ كلمتي " مصطلح " و " اصطلاح " مترادفتان في اللغة العربيّة. وهما مشتقّتان من "اصطلح"
)وجذره صلح( بمعنى "اتفق"، لأنّ المصطلح أو الاصطلاح يدلّ على اتفاق أصحاب تخصّص ما
على استخدامه للتعبير عن مفهوم علميّ محدّد.
ولكنّ بعضهم يحسب أنّ لفظ "مصطلح " خطأ شائع وأنّ اللفظ الصحيح هو " اصطلاح "،
ويسوق لذلك ثلاثة أسباب هي:
0( إنّ المؤل فين العرب القدماء استعملوا لفظ " اصطلاح " فقط.
2( إنّ لفظ " مصطلح " غير فصيح لمخالفته قواعد اللغة العربيّة.
3( إنّ المعاجم العربيّة التراثيّة لم تسجّل لفظ " مصطلح " وإنّما نجد فيها لفظ " اصطلاح"
.) فقط) 0
لكن مَن يدقق النظر في المؤلَّفات العربيّة التراثيّة، يجد أنّها تشتمل على لفظَي " مصطلح " و
"اصطلاح " بوصفهما مترادفين. فعلماء الحديث كانوا أوّل من استخدم لفظ " معجم " ولفظ "
مصطلح " في مؤلَّفاتهم. ومن هذه المؤلَّفات منظومة أحمد بن فرج الإشبيلي )من أهل القرن السابع
الهجري ( في مصطلح الحديث، التي أوّلها:
غرامي "صحيحٌ " والرجا فيك معضلُ
وحزني ودمعي " مُرسَلٌ " و " مُسلسَلُ "
) لاحظ أنّ الكلمات الثلاث بين علامات التنصيص هي مصطلحات من علم الحديث تدلّ على
أنواع مختلفة من الحديث النبويّ الشريف.( كما ظهر لفظ " مصطلح " في عناوين بعض مؤلفات
علماء الحديث مثل " الألفيّة في مصطلح الحديث" للزين العراقي ) زين ال دين عبد الرحيم بن
الحسين المتوفَى سنة 618 ه( وكتاب " نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" للحافظ بن حجر
العسقلانيّ )المتوفى سنة 652 ه/ 0441 م(. واستخدم لفظ "المصطلح" كتّابٌ آخرون غير
علماء الحديث مثل شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن فضل الله العُمَري ) المتوفى سنة
941 ه( في كتابه " التعريف بالمصطلح الشريف" الذي يتناول الألفاظ الاصطلاحيّة المستعملة في
الكتابة الديوانيّة.
ومن المعجميّين الذين استخدموا لفظي " اصطلاح " و " مصطلح " بوصفهما مترادفين عبد الرزاق
الكاشاني) المتوفى حوالي 938 ه/ 0335 م( في كتابه " اصطلاحات الصوفية " ، إذ قال في
مقدمته: " ...فقسمتُ الرسالة على قسمين: قسم في بيان المصطلحات ما عدا المقامات..." .
واستخدم الكاشاني لفظ " مصطلح" في مقدمة معجمه " لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام"
الذي قال في مقدمته: " فإني لما رأيتُ كثيراً من علماء الرسوم، ربما استعصى عليهم فهم ما
تتضمنه كتبنا وكتب غيرنا من النكتب والأسرار، ...أحببتُ أن أجمع هذا الكتاب مشتملاً على
.) شرح ما هو الأهمّ من مصطلحاتهم." ) 2
واستعمل ابن خلدون ) 932 616 ه/ 0332 0418 م( لفظ " مصطلح " في " المقدمة " فقال:
" الفصل الواحد والخمسون في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان ...". وفي القرن الثاني عشر
الهجري، استعمل محمد التهاوني )... كان حياً 0065 ه/ ... 0945 م( لفظَي " اصطلاح"
و"مصطلح " بوصفهما مترادفَين في مق دمة كتابه المشهور " كشّاف اصطلاحات العلوم " : حين
قال: " فلما فرغت من تحصيل العلوم العربية والشرعية، وشمّرت على اقتناء العلوم الحكمية
والفلسفية...، فكشفها الله عليّ ، فاقتبستُ منها المصطلحات أوان المطالعة وسطّرتها على
حدة..." .
من ك لّ هذا ندرك أنّ المؤل فين العرب القدامى استعملوا لفظَي " مصطلح " و " اصطلاح "
بوصفهما مترادفين. أما الادعاء بأن لفظ " مصطلح " لا يتّفق والقواعد العربيّة، لأنّه اسم مفعول من
الفعل " اصطلح " وهو فعل لازم لا يتعدى إلا بحرف جرّ فنقول " اصطلحوا عليه "، وأن اسم
المفعول منه يحتاج إلى نائب فاعل هو الجار والمجرور أو الظرف أو المصدر, ولهذا ينبغي أن
نقول " مصطلح عليه"؛ فإنّ قواعد اللغة العربيّة تجيز حذف الجار والمجرور " منه " للتخفيف
عندما يصبح اسم المفعول عَلماً أو اسماً يُسمى به، فنقول " مصطلح" فقط.
أما عدم ورود لفظ " مصطلح " في المعاجم العربيّة إلا في معجم " الوجيز " لمجمع اللغة العربيّة
الذي صدر سنة 0161 م و " المعجم العربيّ الأساسيّ " الذي صدر سنة 0161 م، فيعود السبب
في ذلك إلى أنّ المعاجم لا تس جّل جميع ألفاظ اللغة، وأنَّ المعاجم العربيّة جرت على عدم ذكر
صيغ المشتقّات المطّردة، وكلمة " مصطلح" اسم مفعول مشتق من الفعل " اصطلح ".
المصطلح في التراث العربيّ:
أدرك العرب القدماء أهمّيّة المصطلح ودوره في تحصيل العلوم. فقال القلقشندي ) المتوفى سنة 620 ه/
0406 م( في كتابه "صبح الأعشى" :
" على أنّ معرفة المصطلح هي اللازم المحتَّم والمهمّ المقدَّم، لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه:
) إن الصنيعةَ لا تكونُ صنيعةً حتّى يُصابَ بها طريفُ المَصْن ع " ) 8
ونوّه التهاونيّ في مقدّمة كتابه المشهور " كشاف اصطلاحات الفنون "، الذي جمع فيه أهمّ المصطلحات
المتداولة في عصره وعرّفها، بأهمية المصطلح فقال:
" إنّ أكثر ما يحتاج به في العلوم المدوّنة والفنون المروَّجة إلى الأساتذة هو اشتباه الاصطلاح، فإنّ لك لّ علم
) اصطلاحاً به إذا لم يُعلم بذلك لا يتيسر للشارع فيه إلى الاهتداء سبيلاً ولا إلى فهمه دليلاً." ) 9
وعرّف اللغويون العرب القدامى المصطلحَ بأنّه لفظ يتواضع عليه القوم لأداء مدلول معيّن، أو أنّه لفظ نُقل من
اللغة العامة إلى اللغة الخاصة للتعبير عن معنى جديد. فقال الجرجاني ) المتوفى سنة 941 608 ه/
0341 0403 م ( في تعريف الاصطلاح في كتابه " التعريفات":
" عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسمٍ ما، يُنقل عن موضعه." ثم أضاف وكأنّه يتحدث عن بعض
) طرائق وضع المصطلح: " إخراج اللفظ من معنى إلى آخر، لمناسبة بينهما." ) 6
وعرّفه أبو البقاء الكفوي )ت 0114 ه/ 0863 م( في كتابه " الكلّيّات ":
" الاصطلاح هو اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل: إخراج الشيء عن المعنى اللغويّ إلى معنى آخر لبيان
) المراد." ) 1
وعرّفه مرتضى الزَّبيديّ ) 0045 0215 ه/ 0932 0911 م( في معجمه " تاج العروس " بأنّه: " اتفاق طائفة
) مخصوصة على أمر مخصوص." ) 01
ويلخّص الدكتور أحمد مطلوب، الأمين العام للمجمع العلميّ العراقيّ، الشروط الواجب توفرها في المصطلح
والتي يمكن أن نستشفّها من التعريفات السابقة في ما يأتي:
0( اتفاق العلماء عليه للدلالة على معنى من المعاني العلميّة،
2( اختلاف دلالته الجديدة عن دلالته اللغويّة الأولى.
) 3( وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلوله الجديد ومدلوله اللغويّ )العام(." ) 00
تحسن الإشارة السريعة هنا إلى الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء المسلمون القدامى في
دراستهم للمصطلح على مستوى الوضع والتداول.
فقد بين الأستاذ محمد إقبال عروي) 9 ( أنهم وضعوا بنودا خاصة بضبط العملية الاصطلاحية -
وتوجيهها الوجهة الصحيحة بغية تحقيق تواصل معرفي فعال؛ ومن ذلك تأكيدهم على:
العرف الخاص: بأن ينشأ المصطلح داخل فضاء علمي خاص به يتولى ابتكاره وصياغته باحثون -
متخصصون في ذلك الحقل المعرفي يتفقون على وضع المصطلح المناسب للمفهوم المناسب بعد
استيفائهم لما تقتضيه أخلاق المشورة العلمية.
- الوضوح: إن الوضوح شرط أساسي من الشروط التي يقتضيها وضع المصطلح، ولابد من مراعاة
ذلك، وقد ألح العلماء المسلمون الأوائل على هذا البند واستوفوه حقه من البحث، فيجب أن يكون
المصطلح واضح الدلالة دقيق الإحالة محددا لمعانيه تحديدا حصريا.
- كما فتحوا باب الاجتهاد الاصطلاحي: فقد دافعوا عن الحرية الاجتهادية في الاصطلاح
وحصروها في طائفة العلماء والمختصين في الحقل المعرفي المحدد الذين بمقدورهم إيجاد الكيفية
اللازمة والمنهجية الملائمة لمقتضيات الاستعمالات اللغوية التي تظطرهم إليها مضايق المعرفة في
الحقل المعرفي الذي انتظم جهودهم، وبموجب كل هذا أعطوا الأولوية للمصطلح الساق تاريخيا
وأهملوا المصطلح اللاحق، إذا كان المصطلح السابق جاريا على شروط الاصطلاح؛ كأن يكون
واضحا ودقيقا ومتوفرا على الاقتصاد اللغوي المنشود.
وبموجب ذلك نقدوا ظواهر التكرار في المصطلح وفي المفهوم وبما أن هذه الظواهر لها تعلُّ قُُ بالمقولة
المشهورة "لا مشاحة في الاصطلاح"، فقد تعين وضعها في سياقها العلمي حتى لا تكون مناقضة.
لقد تميز العلماء العرب القدامى بعمق النظر المنهجي ودقته فتعاملوا مع المعرفة الوافدة إليهم
بحكمة وتبصر ووظفوها في لغتهم ووظفوها في منجزاتهم العلمية، وصدروا معرفتهم وتقلوها إلى
الآخر من منطلق قوة في المعرفة عمقا وإتقانا. فمكنوه من فهمها والاستفادة منها في البناء
الحضاري، وبخاصة ما تعلّق بعلوم اللغة.