1. النظريات البيولوجية للذكاء

3-4.النظريات البيولوجية للذّكاء

    إنّه من الواضح أن الذكاء البشري موجود داخل الدماغ. وقد أدى الاهتمام الأخير في علم النفس العصبي المعرفي إلى الأمل في أننا سنكتشف الآليات البيولوجية والفسيولوجية الخاصة المسؤولة عن الذكاء (Gardner، 2011) وسنستعرض بعض النظريات البيولوجية المطروحة في هذا المجال، ويجدر بنا أن نشير إلى الحاجة لتذكر أن الدماغ هو عضو بالغ التعقيد، ولا تزال معرفتنا بعمله في مهدها.

 

أ.حجم الدماغ والذكاء:

     أجريت العديد من الدراسات لتقييم العلاقة بين حجم المخ والذكاء. ففي دراسات مبكرة، تم قياس حجم الدماغ عبر بديل أكثر سهولة مثل محيط الرأس (يطلق عليه أحيانًا "المحيط"). في مراجعة 35 دراسة سابقة تضم 56793 فردًا، ذكر Vernon, Wickett, Bazana, and Stelmack 2000وجود ارتباط متوسط مرجح مقدّر بـ 0.191 بين حجم الرأس والذكاء. كما خلصت التحليلات الماورائية التي قام بها كل من Gignac, Vernon et Wickett 2003 لمجموعة من التحقيقات (14دراسة)، n = 858 أجراها باحثون آخرون قبل عقد من الزمن، إلى وجود ارتباط بين حجم المخ ونسبة الذكاءQi وقدِّر المتوسط المرجح لهذا الارتباط في ست تحقيقات من أصل أربعة عشر تحقيقاَ بــــــ 0.37 بين حجم الدماغ ونسبة الذكاءQi. كما أفاد Gignac وآخرون (2003) عن متوسط ارتباط مصحح غير مرجح يقدَّر بــــ 0.43 بين حجم الدماغ ونسبة الذكاء Qi (Gignaca & Bates, 2017).كذلك قام Mc Daniel 2005  بإعادة فحص الارتباط بين الذكاء وحجم الدماغ من خلال إجراء تحليل ماورائي أكثر شمولا من الذي قام به Gignac وآخرون سنة 2003، إذ حدَّد Mc Daniel مجموعة من المعايير الصارمة في التحقيقات المعتمدة، تمثلت في اعتماد عينات سوية كلينيكيا، قياس حجم الدماغ الكلي، ومقاييس ذكاء معدة بطريقة جيدة(مقياس وكسلر، مقياس رافن) واستنادا إلى العينات التي تستجيب لهذه المعايير حيث K= 37  و n=1530 قدَّر الارتباط الملاحظ بـــــ 0.29 بين حجم الدماغ والذكاء العام، وارتباط مصحح قدره 0.33  وجدير أن ننوه هنا إلى أن هذه القيم لمعاملات الارتباط بين حجم الدماغ والذكاء التي أشار إليها Mc Daniel أقل من القيمة التي أعلنها Gignac وآخرون (Gignaca & Bates, 2017).

ب-طول سلسلة EEG والذكاء:

عرض Hendrickson نموذجًا نظريًا يربط الذكاء بتعقيدات التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG). في الأساس، يفترض هذا النموذج أن الأفراد الأكثر ذكاءً لديهم أخطاء أقل في عمليات الإرسال المشبكية، وأن هذا سيؤدي إلى نمط موجة EEG أكثر تعقيدًا. يتم تحديد تعقيد نمط موجة EEG بطول "سلسلة" متراكبة فوق شكل الموجة؛ المزيد من التخطيط الدماغي المعقد يؤدي إلى سلسلة أطول (Gardner، 2011).

ج-نموذج معدل استقلاب (Métabolique) الجلوكوز والذكاء:

تشير دراسة (haier, siegel, tang , abel , & buchsbaum , 1992) للتصوير المقطعي للانبعاث البوزتروني (PET) لمعدل استقلاب سكر الجلوكوز (Glucose) في الدماغ لدي عينة من المتطوعين العاديين، إلى وجود ارتباطات عكسية (سلبية) بين هذا الأخير والدرجات المحصل عليها في مصفوفة Raven المتقدمة، والطلاقة اللفظية. فالأشخاص الذين حصلوا على أعلى الدرجات في مصفوفة RAPM أظهروا انخفاض أكثر في معدل استقلاب الجلوكوز في الدماغ العام، وفي مناطق خاصة أيضا.  كذلك استكشف هاري وزملائه هذه النظرية في مهمة التعليم، حيث أخضع ثمانية أفراد للتصوير المقطعي للانبعاث البوزتروني (PET) لمعدل استقلاب سكر الجلوكوز في الدماغ أثناء لعبهم للكومبيوتر (لعبة Tetris)، وبعد مدة زمنية تراوحت بين أربعة إلى ثمانية أسابيع أجرى عليهم تصوير آخر وهم في حالة ممارسة للعبة، كشفت النتائج بين التصويرين ظهور انخفاض في معدَّل الاستقلاب لصالح التصوير الثاني، وهذا نتيجة التحسينات التي اكتسبها المتعاونين خلال ممارستهم لهذه اللعبة. وقد تعكس هذه النتائج حسبهم تحسينات مهمة في المعالجة التلقائية عند ذوي القدرة العالية بعد التطبيق الثاني وبالتالي انخفاض أكثر في معدّل استقلاب الجلوكوز في الدماغ.

     يفسر هاري هذه النتائج على أنَّها ناتجة عن فعالية الدماغ، فالأفراد الأكثر ذكاءً يتطلبون نشاطاً عصبيا أقَّل (وبالتالي استقلاب أقَّل في الجلوكوز) لحل المشكلات العقلية مقارنة بالأفراد الأقَّل ذَّكاءً (HAIER, SIEGEL, TANG , ABEL , & BUCHSBAUM , 1992))

د-نموذج جينسن (Jensen) للتذبذب العصبي:

اقترح Jensen 1982"نموذج التذبذب العصبي" لشرح اكتشافه في أنَّ زمن رد الفعل (TR) في مهمة زمن رد الفعل بسيط / اختياري يزيد خطيا مع أجزاء من المعلومات في عرض التحفيزات (Gardner, 2011) افترض جنسن أن الجهاز العصبي يستخدم شبكة ثنائية هرمية لمعالجة المعلومات في مهمة وقت رد الفعل البسيطة / الاختيارية.  لهذا يقترن الافتراض بأن كل عقدة في الشبكة كانت عرضة لدورة متذبذبة بين الفترات النشطة (عندما تتمكن العقدة من التشغيل ومن ثم نقل المعلومات) وفترات حرارية (عندما يتعذر إطلاق العقدة). افترض أن الناس أكثر إشراقا لديهم دورات التذبذب العصبي أقصر، وبالتالي كانوا قادرين على العودة إلى حالة "إطلاق النار" بسرعة أكبر من الناس أقل سطوعا. أثبت جنسن أن مثل هذا النموذج يمكن أن يفسر النتائج الأساسية التي توصل إليها: (1) الزيادة الخطية في TR مع زيادة أجزاء المعلومات؛ و (2) زيادة الانحراف المعياري TR مع زيادة أجزاء المعلومات (Gardner, 2011)

      نتائج النظريات البيولوجية للذكاء توفر لنا أدلة على العلاقة بين جوانب الدماغ والذكاء أو مع العمليات العقلية. لكن هذه النتائج مرتبطة فقط بهذه النظريات التي اقترحها هؤلاء الباحثين، وهذا راجع إلى كون علم الأعصاب المعرفي علم فتي نسبياًّ، حيث نجد الروابط السببية بين بنية الدماغ ووظيفته من ناحية والأداء العقلي من ناحية أخرى ليست واضحة بشكل كامل. وقد تصبح هذه الروابط السببية أكثر وضوحا في المستقبل مع تقدم الأبحاث في هذا المجال.

خلاصة:

        يظهر من العرض المقدَّم حول مراجعة نظريات الذكاء الأربع: نظريات القياس النفسي للذكاء، النظريات المعرفية والنظريات المعرفية السياقية، والبيولوجية، أنَّ نظريات القياس النفسي للذكاء ناضجة نسبياًّ. كما يُعد التمثيل الهرمي للقدرات أحسن تمثيل للعلاقات البنيوية بين القدرات، مع وجود العامل العامg في أعلى الهرم، وعوامل المجموعة في المستويات الوسطى، وفي الجزء السفلي العوامل الخاصة نسبياًّ، والتفضيل بين النموذج الهرمي البريطاني ونظرية كارول قد يكون مسألة شخصية بالدرجة الأولى.

     النظريات المعرفية للذكاء حاولت توضيح المعالجة المعرفية التي يقوم عليها السلوك الذَّكي، فالمدى الذي يوجد فيه إجماع هو أنَّ السلوك الذّكي مرتبط بالعمليات الواسعة المتدخلة في عدد كبير من المهام، ومن أمثلة هذه العمليات، الذاكرة العاملة، الانتباه، مكونات التفكير العام، انتقاء الاستراتيجية وتنفيذها (ما وراء المكونات)، سرعة معالجة المعلومة مهمة أيضا، لكن لا يتم ابرازها إلاَّ في حالات خاصة (أثناء الشيخوخة، مشكلات جديدة) والملاحظ أنَّه لا توجد هناك نظرية معرفية واحدة متفقٌ عليها.

    النظريات المعرفية السيَّاقية وسعت النظريات المعرفية من خلال إدماجها في السياق، سواءً في السياق البيئي أو الثقافي، تؤكد هذه النظريات أنَّه لا يمكن تطوير العمليات العقلية وتقييَّمها إلاَّ في بيئة تختارها أو تدعمها أو داخل ثقافة، بهذه الطريقة فإنّ الذَّكاء هو تفاعل بين الفرد والبيئة. أما النظريات البيولوجية حاولت شرح الذّكاء من حيث بنية ووظيفة الدماغ، فالعديد من الباحثين أشاروا إلى الارتباطات التي تجمع بين الدماغ والذكاء، لكن لا تزال هناك صعوبات في تحديد هذه الارتباطات، بسبب حداثة مجال علم الاعصاب المعرفي نسبياًّ.