موضوعات علم الاجتماع الثقافي
يقتضي انتقال أي عنصر ثقافي من جماعة إلى أخرى اتصالا مباشرا مستمرا بين هاتين الجماعتين ، فإذا ما تكون عنصر ثقافي جديد في إحدى الجماعات ، فإنه من الطبيعي أن ينتقل هذا العنصر إلى المجتمعات القريبة من منبعه الاصلي ، ويشتق هذا المبدأ من حقيقة أن الانتشار الثقافي لأي عنصر يتطلب وقتا لانتقاله ، وأيضا ضرورة الارتباط بين المجتمعين ، فالعنصر الثقافي لا ينتقل في فترة وجيزة ، كما أنه لا يمكن أن ينتقل إلى مجتمعات أبعد من منبعه الأصلي مرة واحدة ، وإنما يفعل ذلك بالتدريج ، ومن هذا المبدأ الخاص بانتشار العناصر الثقافية للمناطق البعيدة فالأبعد ، تنبثق قاعدة أخرى ، وهي العناصر الثقافية الهامشية ، وهذه العناصر يمكنها أن تنتقل بصفتها المفردة ، أي يمكن انتشارها عنصرا عنصرا ، دون ان يحدث أي خلل وظيفي في المنطقة التي تنشر فيها أو في المنطقة التي تستقبلها، كما أن بعضا من العناصر الثقافية لا يمكنها أن تنتقل إلا مجتمعة ، وذلك لصلتها الوظيفية داخل النسق الثقافي وكذلك لا يمكن تقبلها من المجتمع الآخر إلا مجتمعة حتى تستطيع أن تقوم بوظيفتها داخل النسق الثقافي الجديد . عموما فإن الانتشار الثقافي يتضمن ثلاث عمليات :
- احضار العنصر أو العناصر الثقافية إلى المجتمع.
- قبولها بواسطة المجتمع.
- توافق العنصر أو العناصر المقبولة مع الثقافة التي تسبقها.
وتتأثر كل من هذه العناصر بعدد كبير من المؤثرات المختلفة . وحتى تتحقق عملية انتقال العناصر الثقافية لابد وأن تتوافر الروابط التي تؤدي إلى التكيف الثقافي والتغير الثقافي ما هو إلا عملية إحلال عناصر قديمة ، وتعتمد عملية استمرار التغير الثقافي على مدى قبول أو رفض هذه العناصر الجديدة.
سنحاول أن نورد بعض الموضوعات المهمة التي يتناولها علم الاجتماع الثقافي بالدراسة والتحليل ، مع عدم إغفال أن هذا التخصص يمكن له أن يدرس كل المواضيع الاجتماعية والتي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمسألة الثقافة.
1. الهويـــــــة
يزداد سؤال الهوية طرحا وبروزا خلال العقد الأخير كنتيجة للتحولات الاجتماعية والثقافية المقترنة بالعولمة ، وتنامى الاحساس بالأخطار التي صارت تهدد الاطار القومي، الذي كان الناس يشيدون به هوياتهم ويضفون المعنى على حياتهم .
على أن التغيير الكوني، عند مراقبين آخرين, بدأ يتعلق بشيء مختلف تماما: فهو يتعلق بفقدان الهويات القديمة التي أصبحت محددة وضيقة، وبتدشين امكانات جديدة، تنطوي على تماهيات أكثر تعقيدا وأكثر تنوعا، ومن هذا المنظور دعا ستيوارت هول الى اننا نشهد انبثاقا أنواع جديدة من الذوات والهويات ما بعد الحديثة، صار الموقف على النحو الآتي: تفترض الذات هويات مختلفة في مختلف الأزمنة ، هويات ليست موحدة حول ذات متماسكة ففي داخلنا تكمن هويات متناقضة ، تسحبنا في اتجاهات مختلفة ، بحيث تتغير تماهياتنا وتنتقل باستمرار.
أولا : يجري تأكيد تعدد التماهيات الممكنة، فقد تنطوي الهويات على ولاءات قومية أو دينية ،لكنها أيضا قد تكون لها علاقة باختيارات المستهلك، وطرز الحياة ، والثقافات التحتية ، مع الجنوسة ، والجيل، والجنسية، أو مع الانخراط في حركات اجتماعية ( نزعات المحافظة على البيئة، والفعاليات المناهضة للعولمة، وجماعات الضغط المؤيدة للصيد أو المناهضة لـــه).
ثانيا: وربما الأهم، أن هذه القراءات الاكثر ايجابية لإمكانات التغير الكوني تصرف الانتباه الى الطريقة المختلفة التي قد نتورط فيها الآن في هويات اجتماعية وثقافية ، وينظر الى الهويات المنسوبة، على انها تفسح المجال لإمكانات جديدة في التماهي، تنطوي على اختيار وتفاوض ،وفيها اشباع للتعدد والكثرة (بدل الوحدة) والتغير والتحول (بدل الاستمرارية) ، ويتم الاعتراف بالطبيعة المشيدة للهوية ويقبل بها - إذ يرى بعضهم ان الهوية صارت تعتبر نوعا من التأدية - ولا تعد هذه العملية في التحرر من الوهم اشكالية على الاطلاق : فمن الممكن معرفة ان الهوية خيال، ثم العيش والعمل مع هذا الخيال.
إذا فقد وسعت العولمة خزين الهوية ، لكن الأهم أنها ظلت تعمل على تغيير أساس علاقتنا بالهوية. (طوني بينيت وآخرون، مفاتيح اصطلاحية جديدة ، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، 2010 ، ص ص704-705). من المؤكد أن ما يطرحه هول لا ينطبق على مجتمعنا بصفة كلية، فلمجتمعنا خصوصياته وخلفياته وفضاؤه الزماني والمكاني الخاص به، ولكن كما أشرنا من قبل ،فإن الظواهر الاجتماعية في الوقت الحاضر لها خصوصية النفاذ الى كل المجتمعات، وستجد بعض صور الظاهرة طريقها إلى مجتمعنا ، مما يحتم علينا أخذها بعين الاعتبار.
إن الهوية الثقافية يبنيها أفراد المجتمع بعملهم سويا وتراثهم وخبراتهم والاحداث التي خبروها من خلال تاريخ مشترك.
- إن الهوية تمنحنا مكانا في العالم ، وتعرض لنا الرابط بيننا وبين المجتمع الذي نحيا فيه وبه ، فالهوية تعطينا فكرة عمن نكون وكيف نرتبط بالآخرين وبالعالم.
- إن الهوية الثقافية كيان يصير ويتطور وليست معطى جاهزا ونهائيا ، يتطور إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار ، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم ، انتصاراتهم وتطلعاتهم ، وأيضا باحتكاكهم سلبا وايجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير.