موضوعات علم الاجتماع الثقافي
الموقع: | Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2 |
المقرر: | موضوعات علم الاجتماع الثقافي |
كتاب: | موضوعات علم الاجتماع الثقافي |
طبع بواسطة: | Visiteur anonyme |
التاريخ: | Saturday، 23 November 2024، 3:41 AM |
الوصف
يقتضي انتقال أي عنصر ثقافي من جماعة إلى أخرى اتصالا مباشرا مستمرا بين هاتين الجماعتين ، فإذا ما تكون عنصر ثقافي جديد في إحدى الجماعات ، فإنه من الطبيعي أن ينتقل هذا العنصر إلى المجتمعات القريبة من منبعه الاصلي ، ويشتق هذا المبدأ من حقيقة أن الانتشار الثقافي لأي عنصر يتطلب وقتا لانتقاله ، وأيضا ضرورة الارتباط بين المجتمعين ، فالعنصر الثقافي لا ينتقل في فترة وجيزة ، كما أنه لا يمكن أن ينتقل إلى مجتمعات أبعد من منبعه الأصلي مرة واحدة ، وإنما يفعل ذلك بالتدريج ، ومن هذا المبدأ الخاص بانتشار العناصر الثقافية للمناطق البعيدة فالأبعد ، تنبثق قاعدة أخرى ، وهي العناصر الثقافية الهامشية ، وهذه العناصر يمكنها أن تنتقل بصفتها المفردة ، أي يمكن انتشارها عنصرا عنصرا ، دون ان يحدث أي خلل وظيفي في المنطقة التي تنشر فيها أو في المنطقة التي تستقبلها، كما أن بعضا من العناصر الثقافية لا يمكنها أن تنتقل إلا مجتمعة ، وذلك لصلتها الوظيفية داخل النسق الثقافي وكذلك لا يمكن تقبلها من المجتمع الآخر إلا مجتمعة حتى تستطيع أن تقوم بوظيفتها داخل النسق الثقافي الجديد . عموما فإن الانتشار الثقافي يتضمن ثلاث عمليات :
- احضار العنصر أو العناصر الثقافية إلى المجتمع.
- قبولها بواسطة المجتمع.
- توافق العنصر أو العناصر المقبولة مع الثقافة التي تسبقها.
وتتأثر كل من هذه العناصر بعدد كبير من المؤثرات المختلفة . وحتى تتحقق عملية انتقال العناصر الثقافية لابد وأن تتوافر الروابط التي تؤدي إلى التكيف الثقافي والتغير الثقافي ما هو إلا عملية إحلال عناصر قديمة ، وتعتمد عملية استمرار التغير الثقافي على مدى قبول أو رفض هذه العناصر الجديدة.
سنحاول أن نورد بعض الموضوعات المهمة التي يتناولها علم الاجتماع الثقافي بالدراسة والتحليل ، مع عدم إغفال أن هذا التخصص يمكن له أن يدرس كل المواضيع الاجتماعية والتي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمسألة الثقافة.
1. الهويـــــــة
يزداد سؤال الهوية طرحا وبروزا خلال العقد الأخير كنتيجة للتحولات الاجتماعية والثقافية المقترنة بالعولمة ، وتنامى الاحساس بالأخطار التي صارت تهدد الاطار القومي، الذي كان الناس يشيدون به هوياتهم ويضفون المعنى على حياتهم .
على أن التغيير الكوني، عند مراقبين آخرين, بدأ يتعلق بشيء مختلف تماما: فهو يتعلق بفقدان الهويات القديمة التي أصبحت محددة وضيقة، وبتدشين امكانات جديدة، تنطوي على تماهيات أكثر تعقيدا وأكثر تنوعا، ومن هذا المنظور دعا ستيوارت هول الى اننا نشهد انبثاقا أنواع جديدة من الذوات والهويات ما بعد الحديثة، صار الموقف على النحو الآتي: تفترض الذات هويات مختلفة في مختلف الأزمنة ، هويات ليست موحدة حول ذات متماسكة ففي داخلنا تكمن هويات متناقضة ، تسحبنا في اتجاهات مختلفة ، بحيث تتغير تماهياتنا وتنتقل باستمرار.
أولا : يجري تأكيد تعدد التماهيات الممكنة، فقد تنطوي الهويات على ولاءات قومية أو دينية ،لكنها أيضا قد تكون لها علاقة باختيارات المستهلك، وطرز الحياة ، والثقافات التحتية ، مع الجنوسة ، والجيل، والجنسية، أو مع الانخراط في حركات اجتماعية ( نزعات المحافظة على البيئة، والفعاليات المناهضة للعولمة، وجماعات الضغط المؤيدة للصيد أو المناهضة لـــه).
ثانيا: وربما الأهم، أن هذه القراءات الاكثر ايجابية لإمكانات التغير الكوني تصرف الانتباه الى الطريقة المختلفة التي قد نتورط فيها الآن في هويات اجتماعية وثقافية ، وينظر الى الهويات المنسوبة، على انها تفسح المجال لإمكانات جديدة في التماهي، تنطوي على اختيار وتفاوض ،وفيها اشباع للتعدد والكثرة (بدل الوحدة) والتغير والتحول (بدل الاستمرارية) ، ويتم الاعتراف بالطبيعة المشيدة للهوية ويقبل بها - إذ يرى بعضهم ان الهوية صارت تعتبر نوعا من التأدية - ولا تعد هذه العملية في التحرر من الوهم اشكالية على الاطلاق : فمن الممكن معرفة ان الهوية خيال، ثم العيش والعمل مع هذا الخيال.
إذا فقد وسعت العولمة خزين الهوية ، لكن الأهم أنها ظلت تعمل على تغيير أساس علاقتنا بالهوية. (طوني بينيت وآخرون، مفاتيح اصطلاحية جديدة ، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، 2010 ، ص ص704-705). من المؤكد أن ما يطرحه هول لا ينطبق على مجتمعنا بصفة كلية، فلمجتمعنا خصوصياته وخلفياته وفضاؤه الزماني والمكاني الخاص به، ولكن كما أشرنا من قبل ،فإن الظواهر الاجتماعية في الوقت الحاضر لها خصوصية النفاذ الى كل المجتمعات، وستجد بعض صور الظاهرة طريقها إلى مجتمعنا ، مما يحتم علينا أخذها بعين الاعتبار.
إن الهوية الثقافية يبنيها أفراد المجتمع بعملهم سويا وتراثهم وخبراتهم والاحداث التي خبروها من خلال تاريخ مشترك.
- إن الهوية تمنحنا مكانا في العالم ، وتعرض لنا الرابط بيننا وبين المجتمع الذي نحيا فيه وبه ، فالهوية تعطينا فكرة عمن نكون وكيف نرتبط بالآخرين وبالعالم.
- إن الهوية الثقافية كيان يصير ويتطور وليست معطى جاهزا ونهائيا ، يتطور إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار ، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم ، انتصاراتهم وتطلعاتهم ، وأيضا باحتكاكهم سلبا وايجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير.
2. العولمــــــة
إذا كان الباب الاقتصادي والسياسي قد شرع أمام العولمة ، فإنه من الطبيعي أن يصبح المجال الثقافي بكل أبعاده مجالا خصبا لتداعياتها ، ولعل هذا المجال بالتحديد من أخطر النتائج المترتبة على العولمة لاتصالها بالشخصية الثقافية والهوية والانتماء للشعوب والامم التي أصبحت مكشوفة أمام مؤثرات وتحديات لم تعد تنفع معها الدفاعات الثقافية التقليدية السابقة ، للحفاظ على الخصوصيات والهويات المحلية.
وما زاد في انتشار هذه الثقافة هو تراجع معدلات القراءة ، حيث أصبح التلفزيون والانترنت منافسين جديين للمؤسسة التربوية التي راحت أيضا تروج لهذه الثقافة ، ما جعلها منافسا حقيقيا إن لم يكن بديلا للأسرة والمدرسة ، ومما يزيد من فعالية هذه الثقافة المعولمة أن التبادل الثقافي الحالي هو تبادل غير متكافئ بين ثقافات متقدمة تمتلك امكانيات واسعة وثقافات تقليدية لا تزال أدواتها الموروثة التاريخية هي ذاتها ، وبذلك يكون الحاصل غزوا واستتباعا ثقافيا ، بل هيمنة احتوائية أكثر منها عملية تثاقف أو تبادل ثقافي ، بهذا تصبح ثقافة العولمة فعل اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات . ونظرا للأهمية التي تتبوؤها ثقافة الصورة والبث المتلفز الذي أضعف العمل بنظام المخاطبة الثقافية التقليدية عبر الكتب والصحف والمجلات ، وصولا إلى المدارس والجامعات ، فإن المشروع الثقافي الغربي قد أصبح تابعا لسلطة السمعي البصري بما يملكه من نفوذ وامكانيات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها الاعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجذب الانتباه عبر "تكنولوجيا الاثارة والتشويق" ويقارب عتبة المتعة التي يبلغ معها خطابه الايديولوجي أهدافه الاستهلاكية ، ويسهم بالتالي في وأد حاسة النقد للمتلقي الذي يجد نفسه في نهاية المطاف قابلا لتمرير وتقبل جميع القيم والمواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو ممانعة نفسية.
ومن وسائل العولمة في المجال الثقافي نورد ما يلي:
- الصناعات الثقافية وتوزيع منتجاتها حيث توظف كتلة ضخمة من الاستثمارات وتنتج نسبة كبيرة من الدخول والأرباح.
- نشر الأزياء، والمأكولات، والمنتجات الغربية، وإقامة المطاعم الأمريكية (ماكدونالد) وإقامة شركات إنتاج المواد الغذائية الأمريكية ومن أمثلتها شركة (كوكا كولا) للمشروبات الغازية.
- استخدام وسائل الإعلام والدعاية وشبكة الانترنت، لإحداث التغيرات المطلوبة لعولمة العالم. - التوسع في قبول الطلاب الأجانب في الجامعات والمعاهد الغربية ففي أمريكا وحدها أكثر من عشرين ألف جامعة ومعهد مهمتها القيام بالبرامج الثقافية التي ترسخ لديهم الثقافة الغربية، وتستخدمهم وسائل للعولمة.
- تنظيم المهرجانات الفنية الغنائية والموسيقية واللقاءات الشبابية التي تشترك فيها فرق ووفود من كل أنحاء العالم. - إنشاء الجامعات الأمريكية والغربية في شتى أنحاء العالم ، وفي هذا الموضوع ورد في تقرير واشنطن في عدده رقم 102 بتاريخ 31/3/2007 في موقعه على الانترنت حديثا حول دور الجامعات الأمريكية في الدول العربية في نشر السياسات التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية [...]وتضمن هذا التقرير المعنون بـ" مهمة جديدة لجامعات أمريكا في العالم العربي " مؤشرات خطيرة جدا على الدور الحقيقي للجامعات الأمريكية في الدول العربية يؤكد أنها لم تنشأ عبثا ، وأن مخططا تم إعداده في دوائر السياسة الأمريكية منذ عشرات السنين للسيطرة على العقول العربية . ولم يخف التقرير نتيجة هذا الاستثمار الأمريكي الناجح للدرجة التي تباهى فيها بانتساب غالبية القادة في العالم العربي حاليا للجامعات الأمريكية.
ودعا التقرير إلى مزيد من هذا الاستثمار في التعليم لدوره الكبير في تغيير الفكر السائد في العالم العربي بما يتوافق ووجهات النظر الأمريكية .. حيث ذكر قول النائب الأمريكي السابق" لي هاملتون " رئيس لجنة الحادي عشر من سبتمبر في شهر يناير 2007 " إن هذه الجامعات مراكز امتياز وتفوق في البلاد التي تقع فيها، معبرا عن دهشته من عدد الزعماء وقيادات المجتمع التي تخرجت من الجامعات الأمريكية في العالم العربي ، مؤكدا أن الاستثمار الحقيقي لابد أن يكون في مثل هذه المؤسسات التعليمية، داعيا إلى دعمها و تقويتها".( إبراهيم شاهين، مقال بعنوان ((الدور الخفي للجامعات الأمريكية في العالم العربي)) ، وكالة الأخبار الإسلامية نبأ، المقر مصر، تاريخ النشر 4/4/2007 العنوان الالكتروني: info@islamicnews.net.)
إن ما يمكن ملاحظته على ما نسب للعولمة من أثر اقتصادي، وثقافي، واجتماعي، وأمني، لا تبين في مجملها المؤشرات التي اعتمدت عليها للتوصل الى هذه النتائج، بل انطلقت من مفهوم العولمة بوصفها مسار وديناميكية، كوكبية، تاريخية، تحديثية.. فجل هذه الأثار يمكن ملاحظتها في البلدان التي هي في دائرة العولمة لكن بدرجات متفاوتة وأحيانا في اتجاهات متعاكسة، ففي حين نلحظ ازدياد الفقر في دول نجد العكس في أخرى والتغيرات الاجتماعية لا يمكن أن توعز لعوامل خارجية فقط كما أن قضية الهوية كما أشرنا إليه فيما سبق لا يتعلق بنظرة الآخر بقدر مايتعلق بالإطار والموقع الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها.
إن هذه الأحكام المطلقة تشير في الحقيقة الى فكرة أن المجتمعات الحديثة لا تملك مصير نفسها وبالنهاية فهي تدعو للاستسلام دون أن تعلنه. كما أنها تعرف في ثناياها العولمة بأنها عملية مقصودة تبغي الاستئصال الثقافي، و تهدف الى التدمير الخلاق للمعايير والنظم، و تسعى الى تغيير نوعية الحياة.
وإذا كانت هذه الأحكام تقترح مخرجا لمأزق العولمة فهي تقر ضمنيا أن مصائر الشعوب بأيديها ومن ثمة لا تعدو العولمة سوى مرحلة من مراحل التاريخ وليس نهاية التاريخ. وهذا يقودنا إلى مصطلح العولمة الصغرى " وهي نظرة تقوم بتصور المستوى الأصغر باتصاله بالمستوى الأكبر والعكس بالعكس، ومن ثم تعد شكلا من أشكال التحليل ومنظورا تحليليا وكذلك طريقة خاصة لتصور الأفعال التي تنسب النفوذ الى العولمة.
ويختلف هذا المنظور عن التناول الأفقي الذي يرى أن الأحداث المحلية تتأثر بالأحداث العالمية بشكل أساسي ، وكذلك يختلف عن التناول من أسفل الى الأعلى الذي ينظر الى الأحداث العالمية على أنها تتألف من الأحداث المحلية. " (أنابيل موني، بيتسي إيفانز، العولمة المفاهيم الاساسية، ،2009، ص 214).
في النهاية يجب أن نقر بأن العالم يتغير بسرعة غير معتادة في الوقت الحاضر ،والأحداث تتوالى ولا تمهل الدارسين ليفهموا أسبابها وتداعياتها إن لم يكونوا قد توقعوا حدوثها من قبل،وتتبعوا مساراتها منذ لحظة نشوئها، فالكثيرمن الظواهرالاقتصادية، والثقافية ، والسياسية ، والاجتماعية ، لها صبغة العالمية ، وهي تنشأ في بيئة محدودة ، لتنتشر بعد ذلك في مختلف أصقاع العالم ، وربما بتسميات مختلفة ، وتحدث أفعالها بحسب ماتجده من ظروف البيئة المستقبلة ، ولم تعد هناك بيئة اجتماعية منعزلة عن العالم ، مهما كانت خصوصيتها ، ومهما تحصنت ، لذلك وجب على الدولة أن تمكن علماء الاجتماع من أن يلعبوا دورهم في رصد هذه الظواهر، والتعرف على تداعياتها ، قصد الاستعداد لها.
3. الحداثــــــة
يحتل مفهوم الحداثة في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام إلى سيرورة الأشياء بعد أن كان يشير إلى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية ، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى، بالنسبة للمجتمعات الغربية ، لقد أطلقت الحداثة في البداية على التحولات التي حصلت في الآداب والفنون في العصر الذي تلا النهضة الأوربية وتحديدا بعد الثورة الفرنسية، وسمي بالعصر الحديث، وكان من أول نتائج هذه الثورة إقصاء الدين عن الحياة نهائياً في الغرب كله ، وحذف مفاهيمه وقيمه من القلوب والعقول.
بعد ذلك شملت مجموعة من التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، "و مع أن مصطلح ما بعد الحداثة أخذ يستخدم باضطراد لوصف التغيرات التي تمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ،إلا أن هناك بعض المفكرين الذين يــرون أن الحداثة مازالت قائمة ومستمرة." (جوردون مارشال ، موسوعة علم الاجتماع ،2007 ، ص519). لقد أخذت الحداثة تظهر كنتيجة مباشرة لتكاثر الأفكار الجديدة ، وتصارع مختلف الفلسفات والآراء وحركات التمرد على الأوضاع القائمة ، إلى أن ظهرت ما أصبح يطلق عليه فلسفة التنوير التي قادت التطبيقات العملية لبعض جوانبها إلى التحديث المادي ، و لم تعد هوية الغرب هوية دينية أو لغوية أو جغرافية ، لم تعد هوية الإنسان الأوربي تحدد من عناصر المسيحية و اللغة اللاتينية و الوطن الأوربي، فهويته أصبحت هوية معرفية مرتبطة بالإنتاج الفكري و المادي و التقني و التكنولوجي، وأضحت العناصر التقليدية للهوية وفي مقدمتها الدين أمام تحديات خطيرة ومصيرية وظهرت الانحرافات السلوكية في الممارسات الدينية واللغوية و الفكرية.
إجمالا الحداثة تعني عملية تحول من نمط معرفي يعتمد على احترام التقاليد والأفكار القديمة ، والتفسيرات الغيبية والأسطورية ، للقضايا والمشكلات التي تعترض الإنسان في حياته اليومية ، إلى نمط معرفي يوظف العقلانية توظيفا واسعا ، ويستعين بنتائج المعرفة العلمية وتوظيفاتها الثقافية في التعامل مع القضايا.
كما يرى البعض أن الحداثة أدت إلى انفصال أهداف الفرد وعلاقته بالجماعة فخلقت انفصالا بين المفاهيم القومية والجذور الثقافية للمجتمع، ولم يعد هناك ذات اجتماعية واحدة داخل الحدود الجغرافية بل تعددت الذوات وأُعيد إنتاجها تحت تضارب المفاهيم الطبقية. وتحول المجتمع الواحد إلى ساحات للتملك والاستهلاك ، لا للإنتاج والتطوير، ونتج إحساس عام لدى الأفراد بكونهم محكومين بنظام العالم الحديث ،لا بحداثتهم الخاصة ، أي أنهم يعتبرون أنفسهم ليسوا ذوي موضوع في الحداثة ، إلا أنهم متأثرين بها، مما جعلهم مستهلكين لكل ملامح الحداثة.
3.1. مـا بعــد الحداثــة
يرى بعض الباحثين أن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته و ما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهى مرحلة ما بعد الحداثة.
خلال الثمانينات، تنامى ظهور مبحث سوسيولوجي في بريطانيا، تحت مسمى "علم اجتماع ما بعد الحداثة " , Postmodern Sociology
لدى سكوت لاش وديفيد هارفي
, D.Harvey
وانتوني جيدنز ,A . Giddens
ومايك فيذر ستون ,M.Featherston
وكولان كامبل C. Cambell
وغيرهم ممن حاولوا التخلي عن مفاهيم ونظريات علم اجتماع الحداثة ، وقاموا بتأويل أعمال ماركس، وتكريس الكوني، والإفادة من ثورة المعلوماتية، وبشروا بمجتمع خال من الطبقات والثقافات المهيمنة ، وبنهاية الأيديولوجيات الكبرى،
وهـو ما دعا نيـل سملسر Smelser N
. إلى اعتبار هذا المبحث بداية النهاية لعلم الاجتماع الفسيفسائي المعبر عن خصوصية الدولة الوطنية
. (Lash, S. ; The Sociology of Post Modernism, 1999 , p14)
ويرى سكوت لاش أن ما بعد الحداثة نمطاً فكرياً يمكن النظر إليه من خلال التركيز على ثلاث قضايا مترابطة ومتكاملة وهى :
• التغير الثقافي: حيث أكد إنه إذا كانت الحداثة تنظر إلى التمايز الثقافي أو الاختلاف بين الثقافات فإن ما بعد الحداثة تتناول بالتحليل عملية تعميق لتلك الاختلافات.
• النمط الثقافي: حيث يرى أن من خصائص ما بعد الحداثة خلق نظام جديد من الرموز الثقافية المتصلة بالجانب الفكري أكثر من اتصالها بالجانب الحسي.
• التدرج الاجتماعي: حيث يرى أن ما بعد الحداثة تؤسس انحطاطا واضحا ومفاجئا للطبقات وكسر لها ولحواجزها.( Scott. Lash ; sociology of post modernism , 1990; p1)
وبناء على ما سبق يمكن القول بان تيار ما بعد الحداثة يستند إلى مجموعة من المبادئ التي ينطلق منها في معالجته لمختلف القضايا وهى على النحو التالي :
- العدمية : وتعنى انعدام قيمة القيم في ظل الحداثة ومنجزاتها ونقد الذات وإنكار الحقيقة والموضوعية والتاريخ , ويمثل هذا المبدأ المنطق الداخلي لتيار ما بعد الحداثة.
- التعامل مع مختلف القضايا من خلال اللغة , حيث تتركز تحليلات ما بعد الحداثة على الخطاب وهذا يعني أن تحليل النصوص أو تفكيكها قد أصبح يحظى بالمكانة الأولى في الجهد النظري لمفكري ما بعد الحداثة. .( يوسف سلامة ، نقد ما بعد الحداثة ، الحضارة بين الحوار والصراع في عصر ما بعد الحداثة ، 2000 ، ص18). ومن ثم يمكن القول بأن اتخاذ الخطاب كوحدة للتحليل قد يظهر معه انصراف مفكري ما بعد الحداثة عن تحليل الواقع أو المضامين الملموسة للحقائق , وذلك نظرا لأن الخطاب قد لا يعطي صورة حقيقية عن الواقع.
- سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تحطيم الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة والتي عادة ما تأخذ شكل الايديولوجيات , على أساس زعمها تقديم تفسير كلي للظواهر، كما أنها انطلقت من حتمية وهمية لا أساس لها. محمد سبيلا ، الحداثة وما بعد الحداثة ، 2007 م ، ص120.
- ترفض حركة ما بعد الحداثة كل عمليات التمثيل سواء أخذت شكل الإنابة بمعنى أن شخصا يمثل الآخرين أو التشابه وذلك حين يزعم المصور أنه يحاكي في لوحته ما يراه في الواقع. (محمد سبيلا ، الحداثة وما بعد الحداثة ، 2007 م ، ص123.
يقول "كروك" ورفاقه إن تكثيف بعض العمليات ضمن أعمال الحداثة قاد الى ما بعد الحداثة. فالتميز والعقلانية والتشيؤ جرى استبدالها بالتميز الواسع والعقلانية والتشيؤ الواسعين. وعلى الرغم من أن كل واحدة من هذه العمليات تنشأ من الحداثة وتكثف من عمليات الحداثة إلا أنها أثرت في تحويل بعض ميول الحداثة .
وهذا قاد الى نوع جديد من الثقافة أطلق عليه (كروك) ما بعد الثقافة. (هارلمبس وهولبورن ، سوسيولوجيا الثقافة والهوية ، 2010 ، ص88). إذن الفكرة الأساسية وراء المفهوم تقوم على الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربي في الرؤية والمعرفة والتعبير تغيّرت جذريا نتيجة التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال وتطور نظم المعلومات في العالم ككل ،مما ترتب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد على التصنيع، وازدياد الميل إلى الانصراف عن هذا النمط من الحياة الاقتصادية، وظهور مجتمع وثقافة من نوع جديد، والمجتمع الجزائري ليس بمنأى عما يحدث في العالم ، ومن المؤكد أن هذه التغيرات تغلغلت شيئا فشيئا إلى مجتمعنا ،بداية من الفئات التي تملك المقومات التي نمت فيها هذه التغيرات ،والتي نصطلح على تسميتها أحيانا بالنخبة رغم تعدد توجهاتها وإيديولوجياتها ،وستجد هذه الأفكار طريقها فيما بعد إلى بقية فئات المجتمع ، وإذا أردنا أن تكون هذه التغيرات أو هذه المرحلة في صالحنا، ينبغي أن نبنيها بمقوماتنا الخاصة وعلى أسس صحيحة حتى لا نبقى مستهلكين لوصفات لا تتلاءم مع واقعنا وهويتنا، وانطلاقا من القاعدة القانونية التي تقول بأن ما بني على باطل فهو باطل والتي لها تطبيقاتها في شتى المجالات نؤكد على أن تأدية الواجب هي أساس التمتع بالحقوق ، وأي تهاون في تأدية الواجبات سينتج عنه حتما ضياعا لكثير من الحقوق وبالتالي أنواع من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية...التي تستنزف الوقت والطاقات لمعالجتها.
إن ما بعد الحداثة تمثل حركة فكرية تقوم على نقد ، بل ورفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة، كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها هذه الحضارة، لأن مفهوم الهوية يعتمد على ذوبان الفرد في المجموع.