3. النظرية الوظيفية

تعتبر المدرسة الوظيفية من أهم المدارس التي تهتم بموضوع الثقافة بل هي مدرسة رائدة في هذا المجال من خلال أعمال روادها وتلامذتهم فنجد مثلا مالينوفسكي، و راد كليف براون وغيرهما، اهتما بهذا الموضوع اهتماما بالغا. حيث أكد رواد هذه المدرسة أنه إذا عرفنا وظيفة النظام فإننا نستطيع تفسيره وفهمه ولذلك فإن الوظيفة تستخدم للإشارة إلى الحاجات الأساسية أو الاحتياجات التي ينبغي إشباعها حتى تستمر الجماعة في الوجود، نستطيع من خلال الوظيفة إدراك أن النظم تقام وتؤسس كأنماط سلوك تتواءم مع معايير وقيم محددة، وبهذا المعنى نجد أن النظم لا تشمل فقط المعدات الفنية المستخدمة في المجتمع من أجل حياته اليومية بل وأيضا كل الأفكار الروحية التي تميز أخلاقيته ودينه وقوانينه التي تستطيع من خلالها تنظيم فكره وسلوكه (يحي مرسي ، أصول علم الانسان ،ص53 ).

وقد أوضح مالينوفسكي في مقال كتبه عن الثقافة أن الثقافة تعتبر وحدة كلية من الممكن تحليلها إلى الأجزاء والنظم المكونة لها، وأخذ العلاقات المتبادلة بين هذه الأجزاء، مع عدم إغفال علاقة ذلك بحاجات الكائن البشري والبيئة والطبيعة، وتلك التي من صنع الإنسان، ويرى مالينوفسكي أن المجتمع ينبغي دراسته كما هو عليه في الوقت الحاضر ومن جميع جوانبه و بناءا على المؤسسات التي تكفل بقائه على قيد الحياة والتي هي مؤسسات متبادلة التبعية فهو يستبعد كل الطروحات التاريخية أو الجغرافية المتداولة في النظريات التطورية والانتشارية.

كذلك يؤكد مالينوفسكي أنه من المفترض بكل ظاهرة من الظواهر المجتمعية أن تستجيب لوظيفة معينة و أنها إذا لم تعد تلبي حاجة حيوية أو مجتمعية فإن مصيرها الزوال لا محالة، والمثل الذي يضربه على ذلك العربة التي يجرها الحصان فهو لا يرى فيها راسبا من الرواسب المتبقية في زمن المواصلات البسيطة بل يرى فيه وسيلة ضرورية من وسائل النزهة والرحلة والسياحة( جاك لومبار، مدخل إلى الايثنولوجيا ، ص( 185. فهو يرى أن الإنسان ينشئ المؤسسات لتلبية حاجاته وبالتالي تكون الحاجة والمؤسسة هما الكلمتين المحوريتين في أي ثقافة، فهو يرى أن كل العناصر المشكلة للثقافة موجودة من أجل إشباع حاجات حيوية أو مجتمعية ولا مكان لعناصر ثقافية لا تؤدي وظيفة، وبالتالي فهو يناقض الرأي التطوري الذي يتحدث عن البقايا والرواسب والآثار الثقافية، فهو يعتبر الثقافة مكون حيوي يؤدي كل عنصر من عناصره وظائف معينة لفائدة الأفراد أو المجتمع أو الثقافة في حد ذاتها.

ونجد كذلك من رواد هذه المدرسة فرانس بوا س الذي ينتقد المنهج التطوري حيث يدرس الأصول التي تتعلق بالنظم الاجتماعية عن طريق جمع المعلومات والظاهرات من مختلف الأزمنة والمجتمعات، حيث يرى أنه ينبغي قبل أن نوفق بين الظواهر يجب أن نتأكد من أنها انتزعت من سياق واحد، بمعنى إذا نزعنا ظاهرة تقديم الطفل كضحية أو قربان عن سياقها الثقافي فسوف نفهمها على أنها عملية قتل وجريمة نكراء ولكنها ومن وجهة نظر البناء الثقافي التي هي جزء منه تعتبر مثلا فريدا من أمثلة التضحية وإنكار الذات ومن ثم فالمدرسة الوظيفية تهتم بتوضيح وظيفة أي عنصر أو طقس من طقوس الثقافة وبالتالي تفتيش الباحث عن الوظيفة الحقيقية للسمة الثقافية والتي قد تكون كامنة بتعبير روبرت  ميرتو ن غير واضحة للعيان وهي تختلف عن الوظيفة الواضحة أو الظاهرة للسمة الثقافية التي يدركها أعضاء المجتمع (يحي مرسي ، أصول علم الانسان ،ص37 ).

وقد كتب الكثير من الوظيفيين عن الثقافة ويمكن تلخيص مجمل آرائهم في عدة أفكار منها أن الثقافة لا يمكن دراستها باعتبارها شيئا تاريخيا أو باعتبارها حالة انتقلت من بقعة جغرافية إلى أخرى بل يجب دراستها على ما هي عليه في الحاضر، و يجب تحليلها إلى عناصرها الأساسية ومعرفة العلاقات التي تربط بين هذه العناصر ودرجة تأثير كل عنصر في العناصر الأخرى وفي الثقافة ككل. وإن الثقافة ككل تقوم بوظيفة أساسية هي تقديم إشباع لحاجات الأفراد والمجتمع حتى وإن استخدمت الرموز في ذلك فللرموز كذلك وظيفتها الروحية والمادية، كذلك تنظر الوظيفية إلى العناصر الثقافية باعتبارها أجزاء من ثقافة وليست مستقلة كليا ، فلا يمكن فهمها إلا في السياق العام للثقافة فلا يمكن فهم الكثير من العادات والطقوس والسلوكات. إذا جهلنا دورها الديني مثلا أو القيم التي تقف وراء هذه العادات والطقوس والسلوكات وما هي الارتباطات البنائية والوظيفية بين هذه الأشياء والدين والقيم. كذلك تنفي الوظيفية فكرة وجود رواسب أو أنماط ثقافية أو سمات ثقافية متبقية من حقبات تاريخية سابقة أو انتشرت من مناطق ثقافية أخرى وليس لها دور اجتماعي فهي لا تعتقد بهذه الفكرة بتاتا بل تنظر إلى أن كل العناصر الثقافية مهما ظهرت إنها لا تقوم بوظيفة واضحة فهي في الحقيقة تلعب أدوار مهمة داخل النسق الكلي للثقافة، سواء كانت هذه الأدوار مدركة من طرف أعضاء المجتمع أو غير مدركة ، فغالبا ما تكون بعض السمات والعناصر الثقافية تقوم بوظائف كامنة وهي ضرورية لاستمرار واستقرار المجتمع وهي تلبي حاجات لا شعورية للأفراد والمجتمع. وتنظر الوظيفية إلى الثقافة نظرة موضوعية فهي لا تفرق بين الثقافات باعتبار الزمان والمكان، بل ترى أن الثقافة تكون فعالة ومتقدمة ومتطورة كلما خلقت لمجتمعها كل الضمانات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تمكن أفراد المجتمع من تلبية حاجاتهم المختلفة المادية أو المعنوية بطريقة سهلة دون وجود صراعات أ و اضطرابات اجتماعية، وبهذا تصبح الثقافة هي ذلك البناء الوظيفي الذي يساعد المجتمع على الاستمرارية والاستقرار والبقاء على قيد الحياة.