1. انواع نقد المصدر التاريخي

1.6. أمانة المؤلف

ه-أمانة المؤلف:

إنَّ النقد الإيجابي يعرفنا فقط بما أراد المؤلف أن يقوله، لذلك يبقى علينا أن نحدد:
أ- ما اعتقده فعلاً إذ يمكن أن لا يكون أميناً.
ب- ما عرفه فعلاً إذ يمكن أن يكون قد أخطأ.
ولهذا يمكن التمييز بين نقد الأمانة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان مؤلف الوثيقة لم يكذب ، وبين نقد الدقة الذي يستهدف معرفة ما إذا كان المؤلف لم يخطئ في النقل ، ويمكننا التوصل إلى الهدفين عن طريق سلسلتين من الأسئلة .
السلسلة الأولى من الأسئلة باتجاه كشف الأمانة : فنتساءل هل كان المؤلف في ظرف من شأنه أن يميل بالمرء عادةً إلى عدم الأمانة ، ويجب أن نبحث ما هي هذه الظروف بالنسبة إلى مجموع الوثيقة بوجه عام وبالنسبة إلى كلِّ قول بوجه خاص . والجواب تقدِّمه التجربة ، فكلُّ كذبة، صغيرة كانت أو كبيرة سبَّبها القصد الخاص عند المؤلف لإحداث تأثير خاص في قارئه ، وهكذا يرد ثبت الأسئلة إلى ثبت بالمقاصد التي يمكن أن تدفع المؤلفين عادةً إلى الكذب ، فهل يحاول المؤلف أن يجرّ لنفسه أو جماعته منفعةً عمليةً ، وهل كان يكره جماعة أو شخصاً فحمله ذلك على تشويه الوقائع ابتغاء أن يعطي فكرة سيئة عن خصومه ،أو كان يتعاطف فحمله عطفه وحبَّه على تشويه الوقائع وإعطاء فكرة حسنة عن أصدقائه، أو كان متملِّقاً لجمهوره أو أراد أن يتجنَّب صدمة جمهوره فأغفل ذكر الحقائق أو علَّق جمهوره بحيل أدبية فشوَّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوُّره للجمال من خلال ذكره لتفاصيل أو خطب وقصائد وغير ذلك .

والسلسلة الثانية من الأسئلة باتجاه كشف الدِّقة : فهل وجد المؤلف في ظرف من الظروف التي تسوق الإنسان إلى الخطأ ، إنَّ الخبرة العملية المستفادة من العلوم تُعرِّفنا ما هي ظروف المعرفة الدقيقة بالوقائع ، وليس ثمَّة غير مسلك علمي واحد لمعرفة واقعة ما ، وهو (الملاحظة) وينبغي أن تكون هذه الملاحظة قد تمَّت على وجه صحيح ، ويمكن وضع ثبت الأسئلة الخاصة بدوافع الخطأ ابتداءاً من التجربة التي تبيِّن لنا الأحوال المعتادة لوقوع الخطأ ، فهل كان الملاحظ في موضع يستطيع أن يشاهد أو يسمع جدِّياً (مرءوس يدعي رواية المداولات السرية التي جرت في مجلس رؤساء) وهل تحوَّل انتباهه فيها أو أهمل لأنَّ الواقعة التي كان عليه أن يشاهدها لم تكن تهمه ، وهل افتقر إلى خبرة خاصَّة أو إدراك عام لفهم الوقائع ؟ وهل خلط بين وقائع متمايزة ، وخصوصاً ينبغي أن نتساءل متى سجَّل ما رأى أو سمع ؟ وهذه نقطة رئيسة ، وذلك أنَّ الملاحظة الدقيقة الوحيدة هي تلك التي تسجَّل بمجرد وقوعها ، والانطباع الذي لم يسجل إلاَّ فيما بعد مجرد ذكرى معرَّضة للاختلاط في الذاكرة بذكريات أخرى ، و(المذكرات) التي كتبت بعد الوقائع بعدة سنوات وأحياناً في أخريات حياة المؤلف قد أدخلت في التاريخ أخطاء لا تعدُّ ولا تحصى ، ولذلك تعتبر المذكرات وثائق من الدرجة الثانية.