1. الرواية الشفوية

تمهيد:  

  لقد درجت في الآونة الأخيرة على ألسنة العديد من المؤرخين والأساتذة والباحثين والطلبة الإشارة إلى أهمية وجدارة وشرعية الكتابة التاريخية بالاستناد على الروايات الشفوية بجميع أصنافها، وكأن الرواية الشفوية أمر مستحدث في هذا المضمار، والواقع أن تاريخ التاريخ يفيد أن دراسة الماضي الإنساني ومعرفته من خلال الروايات الشفوية ليست أمرا جديدا، فقد وجدت المصادر المدونة والمصادر الشفهية جنبا إلى جنب عبر التاريخ وحتى العصور الحديثة، فإذا ألقينا نظرة في عجالة على بعض استخدامات المعلومات الشفوية في الماضي، ربما يكون “هوميروس” هو أو مؤرخ شفهي معروف ومثله “هيرودوت”، فأعمالهم جمعت استخدام الرواية الشفوية من الرواة والمعاينة للمواقع وللأحداث ومن خلال الرحلات الميدانية والبحث والتحقيق في البقايا والآثار، كما اعتمد المؤرخون الإغريق والرومان في مرحلة لاحقة على التقاليد والرواية الشفوية من حاشية الحكام والزعماء وكبار الموظفين.
وفي الجانب الآخر من العالم الإسلامي، ظهر مثال للمؤرخين الإخباريين في الإغريق وأوروبا، حيث اعتمد المؤرخون المسلمون بشكل مباشر وغير مباشر على المادة التاريخية الشفهية والمصادر المدونة على حد سواء وإن كانت للثقافة الإسلامية خصوصية الثقة أو تفضيل شهود العيان على المصادر المدونة ويتضح ذلك جليا في سلسلة “العنعنة” الطويلة التي نلاحظها في كتابات المؤرخين العرب.
إلا أنه طرأ انزلاق خطير بعد المؤرخ بن خلدون، نتيجة تأثيرات المدارس الغربية التي كرست خلال فترات الاعتماد على الوثيقة المكتوبة دون غيرها ، فانجذبت أجيال من المهتمين بالتاريخ إلى الوثائق والمواد الأرشيفية غير آبهة بالتاريخ الشفوي. ومع ظهور مدرسة التاريخ الجيد، إلى جانب ما توصلت إليه العلوم الإنسانية الأخرى كالأنثروبولوجيا والاثنولوجيا وعلم الاجتماع من خلاصات ومبادئ، تحولت الأنظار من جديد إلى أهمية المرويات والأدب الشفوي والتراث اللامادي بشكل عام. لكن ما يعوز المهتمين بهذا المجال أو الذين ينوون إدراجه ضمن أبحاثهم هي الاختيارات المنهجية اللازم اتباعها بهدف تحويل المعطيات المنطوقة إلى مكتوبة على الورق.
في هذه المحاولة المتواضعة، سنحاول أولا التعريف بالرواية الشفوية والتراث الشفوي مع بسط سريع لأهم الإشكالات والمشكلات التي من المحتمل أن تعترض الباحثين في مساعيهم، مقترحين جملة من الشروط التي من شأنها المساعدة على تفادي هذه المشكلات، متوجين هذا العمل باقتراح ووضع منهجية مكونة من عدة عمليات عملية، في أفق التأريخ بالاعتماد على الرواية الشفوية جنبا إلى جنب مع الوثيقة المكتوبة أو العادية.