5. الوظيفة السياسية للعصبية :2
ـ يرى ابن خلدون أن للعصبية وظيفة سياسية ، وهي الوصول إلى الملك والاحتفاظ به ، أي بناء الدولة ، وهي وظيفة تلتقي اليوم مع وظيفة الأحزاب السياسية التي جوهر عملها وهدفها الوصول إلى السلطة ، ويقرر ابن خلدون " أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك " مبينا سبب ذلك " أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع يحكم بعضهم عن بعض ، فلابد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية ، فالتغلب الملكي غاية العصبية .
ويرى أن وظيفة العصبية تتمثل في صد العدوان ، لأن الطبيعة الإنسانية تنزع إلى العدوان بالفطرة لذا كان لابد من وازع أي حاكم ، ولا شك أن مسألة الوازع قد أولاها ابن خلدون اهتماما كبيرا ، انطلاقا من نظريته المتكاملة عن العصبية ، إذ ينظر إلى الوازع نظرة ثنائية انسجاما مع تقسيمه للعمران البشري إلى نوعين : العمران البدوي ، والعمران الحضري ، ولكل منهما وازع خاص لصد العدوان ،
فهو يرى أن أحياء البدو معرضة إلى نوعين من العدوان :
1. العدوان الداخلي : ومصدره من داخل القبيلة ، أي اعتداء أفرادها على بعضهم ، فالوازع لهذا العدوان يكون من قبل أكابرهم ومشايخهم ، لما لهم من الوقار والاحترام عند قومهم ، وهذا نابع من مكانتهم المميزة لدى قومهم.
2. العدوان الخارجي : ومصدره من خارج القبيلة كالغزو أو ما في معناه ، فالوازع لهذا العدوان يكون من قبل شجعان القبيلة ، وأما حللهم فيذود عنها حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة.
أي أن السلطة ـ الحكم ـ لا يكون إلا بالعصبية ، غير أن ابن خلدون يوضح بأن السلطة لا تكون إلا للعصبية القوية من أجل التغلب على العصائب الأخرى لكي تلتحم معها فتشكل في النهاية عصبية واحدة كبرى ـ عصبية مركبة ـ وإذا لم تتوافر لها مثل هذه القوة القاهرة ، فإنها لن تصل إلى السلطة " فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها ، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى ، وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع.
ويرى ابن خلدون أن العصبية الحاكمة لا تبقى قوية ، وإنما تنتهي ، وتقوم على أنقاضها عصبية أخرى قوية ، وهذه بدورها تضعف وتقوم مقامها أخرى وهكذا دواليك ، أي أن العصبية لا تبقى على قوتها الأولى ، وإنما يعتريها الوهن الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الدولة ، وبزوالها تزول الدولة .
ويعلل ابن خلدون ضعف الدولة ثم زوالها بضعف عصبيتها ـ أي العصبية الحاكمة ـ وذلك باستبعاد أهل العصبية والانفراد بالمجد والانغماس في الترف والنعيم مما يؤذن بزوالها ، ويقرر ذلك " فلا يزال الملك ملجأ في الأمة إلى أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها " .