نظرية العصبية :

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: الفكر الخلدوني
Livre: نظرية العصبية :
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Saturday 23 November 2024, 03:24

Description

تعتبر " نظرية العصبية "عند ابن خلدون من اهم اسهاماته  في علم  الاجتماع السياسي و العلوم السياسية

1. مقدمة :

يرى ابن خلدون أن العصبية هي المحرك للتاريخ الاجتماعي للمجتمعات ، وهي وراء عملية التغير الاجتماعي بشكل عام ، منطلقا في تفكيره من مبدأ العلاقات الجدلية بين العمران البدوي والعمران الحضري ، مفسرا نشأة الدول وانحلالها بناء على آلية العصبية ، فهي التي تؤدي إلى الملك ، وهي نفسها التي تؤدي إلى زواله ، ونعتقد أن نظريته هذه لا تقل في الأهمية عن اكتشافه لعلم العمران البشري والاجتماع الإنساني (علم الاجتماع).
وهو يرى أن العصبية ظاهرة اجتماعية ملتحمة بالعمران البدوي على الخصوص ، وتظهر بشكل أقل حدة في العمران الحضري ، وهي تحمل معنى وظيفيا ، نظرا لما يترتب عليها من آثار في قيام الدول وانهيارها في العمران الحضري ، وتنظيم حياة الأفراد في العمران البدوي ، وهي الوعاء الذي يحفظ حياة المجتمع الإنساني وأساس بقائه وصيرورته ، أي إن لها وظائف اجتماعية وسياسية مهمة في المجتمع بدويا كان أم حضريا.
ولا شك أن نظرة ابن خلدون للعصبية ووظيفتها الاجتماعية والسياسية ، كانت مشتقة من بيئته الخاصة ، وهي بيئة كانت الصلة فيها قوية بين الحياة البدوية بمجتمعاتها القبلي من جهة ، والحياة الحضرية بمجتمعها السياسي من جهة أخرى ، وكان التأثير قويا ومستمرا بينهما ، إلا أن طابع الحياة القبلية غالبا كان هو المسيطر ، حيث كانت الدول تقوم وتنهار من جراء تآلب القبائل أو تشتتها.

1.1. تعريف العصبية:اولا

والعصبية أو العصبة التي يقصدها ابن خلدون لا تعني مطلق الجماعة وإنما الأفراد الذين تجمع بينهم رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الولاء بالإضافة إلى شرط الملازمة بينهم من أجل أن يتم التفاعل الاجتماعي ، وتبقى مستمرة ومتفرعة بوجود هؤلاء الأفراد واستمرار تناسلهم ، فينشأ بين أفرادها شعور يؤدي إلى المحاماة والمدافعة وهم يتعصبون لبعضهم حينما يكون هناك داع للتعصب ، ويشعر الفرد بأنه جزء لا يتجزأ من أهل عصبته ، وفي هذه الحالة يفقد شخصيته الفردية بحيث تذوب في شخصية الجماعة ، وهو شعور جماعي مشترك لدى أفراد العصبة فهو ذو صبغة جمعية أساسية بين الفرد والمجموعة ، وليس بين فرد وآخر فقط ، وفي حال تعرض العصبة إلى عدوان فيظهر في هذه الحالة "الوعي" بالعصبية ، وهذا " الوعي العصبي " هو الذي يشد أفراد العصبة إلى بعضهم وهو ما يسميه ابن خلدون " بالعصبية " التي بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه .

2. المفهوم السوسيولوجي للعصبية :

يرى ابن خلدون أن للعصبية مفهوما سوسيولوجيا متميزا فقد اعتبرها ظاهرة اجتماعية بالإضافة إلى كونها ظاهرة طبيعية في المجتمع الإنساني ملازمة لوجود العصبية ، ملازمة العوارض الذاتية ، أي إن وجود العصبة يستدعي وجود العصبية ، فالعصبية موجودة فيها " بالقوة " وتصبح موجودة " بالفعل " حين وقوع عدوان على أهل العصبة ، ووظيفة العصبية يلخصها ابن خلدون من الناحية العامة بجملة ذات دلالة مهمة قائلا : " إن العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه " .

3. مميزات العصبية :ثانيا

ومن أهم ميزات هذه الرابطة " العصبية " أنها ليست علاقة محصورة بين فرد وآخر داخل العصبة ، وإنما هي رابطة بين الفرد والمجموعة في وحدة متكاملة ، فالفرد حينما يتعصب لعصبته فإنما يتعصب لنفسه ، وكذلك العصبة حينما تناصر أحد أفرادها فإنما هي في الحقيقة تناصر نفسها ، أي أن هناك تضامنا متبادلا بين الفرد وعصبته في الداخل والخارج ، فيكون مجال التواصل بين الفرد وغيره محدودا بحدود عصبته. فهي تمارس ضغطا على الأفراد من أجل الخضوع لها ، فهي بهذا تضمن التماسك بين أعضائها ، وفي هذا سر قوتها ، بالإضافة إلى أن التضامن المتبادل بين الفرد ومجموعته لا يسمح بقيام فوارق أو درجات للاستغلال داخل العصبة بين الأفراد ، وإنما قد يكون الامتياز الوحيد الذي يحظى به الفرد داخل العصبة ، هو ذلك الاعتبار في كونه قد قدم خدمات لصالح العصبة مجتمعة ، بمعنى أن الامتياز يرتبط في درجته بقدر تقديم خدمة لأهل عصبيته لا بما يحصل عليه الفرد منها ، ومهما يكن الأمر ، فإن الأساس الذي يبنى عليه الاعتبار هو مدى خدمة الفرد للمجموعة لا ما يحققه من منافع لنفسه .
وتتضامن العصبة مع الفرد بقدر تضامنه معها واحترامه لمصالحها ، وإذا تسبب في الضرر لها سرعان ما تنبذه ، فيفقد الحماية والتعاون والتعاضد ، الأمر الذي يضطره إلى أن ينضم إلى عصبة أخرى ، لأنه لا يستطيع العيش في مجتمع قبلي قائم على العصائب ، وهذا ما حدا به إلى القول إن من ضرورات العصبة التلازم بين أفرادها ، وفي إطار المجتمع القبلي فإن الفرد لا يجد حريته ومنعته وقوته إلا داخل العصبة ، فهي الحقل الذي يمارس فيه الفرد نشاطه الاجتماعي ، فضلا عن كونها القوة الجماعية التي تمنح الفرد القدرة على المواجهة.

3.1. ثالثا : وظيفة العصبية :

ويرى ابن خلدون أن وظيفة العصبية تنشأ في مبدأين أساسيين :
المبدأ الأول : ضرورة التجمع الإنساني ، أي ضرورة أن يعيش الأفراد داخل مجتمع انطلاقا من شعور كل فرد بضرورة تعاونه مع الآخرين من بني جنسه من أجل قضاء الحاجات الضرورية لبقائه ، لأنه عاجز واقعيا عن القيام بقضاء كل حاجاته منفردا وقد قال بهذه الضرورة مفكرون عديدون قبل ابن خلدون منهم الغزالي والفارابي ، وأرسطو على سبيل المثال ، وقد أقر ابن خلدون بذلك معتبرا العصبية ظاهرة طبيعية من ظواهر الاجتماع الإنساني .
المبدأ الثاني : ضرورة وجود الوازع لأن الشر أو العدوان أمر طبيعي متأصل في النفس البشرية ، باعتبار الإنسان مجبولا على الخير والشر معا ، على التعاون والعدوان ، فقيام الحياة الاجتماعية يتطلب ضرورة وجود وازع ، والوازع عند ابن خلدون هو الحاكم وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم ، بمعنى وجود سلطة تحفظ للمجتمع تماسكه وتعمل على تقوية التعاون بين أفراده وكبح عدوان بعضهم على بعض ، ويقول ابن خلدون " واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم ، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم".

4. الوظائف الاجتماعية للعصبية :1

يرى ابن خلدون أن الوظائف الاجتماعية للعصبية هي:
1- تؤدي إلى تنظيم علاقات القبيلة في الداخل والخارج ، أي بين أفراد القبيلة الواحدة من جهة ، وبين أفراد القبيلة والقبائل الأخرى من جهة ثانية ، أي أنها تكون الإطار التنظيمي لأهل العصبيات ، فتتأطر بموجبها العلاقات الاجتماعية كافة .
2- تؤدي العصبية إلى التعاون بين أهل العصبية الواحدة من جهة ، وأهل العصبيات المتحالفة من جهة أخرى ، ويبدو ذلك في دفع العدوان ، أو القيام به  من أجل تحقيق مصلحة مشتركة ، أي أنها الوسيلة الوحيدة لهذا التعاون ، لعدم توافر أية وسيلة أخرى في ظل الأوضاع السائدة في المجتمع القبلي .
3- تؤدي إلى حفظ كيان القبيلة ، أي كيان المجتمع القبلي بالمحافظة على بنائه الاجتماعي من خلال التضامن ، والتكتل ، ومجابهة الصراع الذي هو صراع وجود ، نظرا لقساوة الظروف الطبيعية ، وضآلة الإنتاج ، فيصبح الصراع أمرا طبيعيا من أجل حفظ كيان القبيلة من الانقراض والذوبان ، أي أنها تحفظ استقلالية المجتمع القبلي في نهاية الأمر.
4- تحافظ العصبية على شجرة النسب من خلال التلاحم العصبي الذي يكون أقوى في النسب القريب منه في النسب البعيد ، رغم تأكيد ابن خلدون على أن النسب أمر "وهمي" لكنه مع ذلك يعتبر حقيقة واقعة في المجتمع القبلي.
5- تقوم العصبية باعتبارها أساس التطور الاجتماعي بتدعيم المساواة بين أفرادها في الحقوق والواجبات ، وإلغاء التمايز الطبقي من حيث المبدأ العام ، وإن وجد تمايز في المكان الاجتماعية ، إنما يعود ذلك لما يقدمه الفرد نحو أهله أكثر من غيره ، فهي تدعم " الغيرية " على حساب " الذاتية " أي ذوبان الأنا في سبيل الأناء العصبي . وبموجبها يتأطر سلم القيم من شجاعة ، وكرم ، وخلال حميدة ، أي أنها تسير أخلاق المجتمع القبلي في نهاية الأمر ، وتكون ناجحة إذا عملت على إحلال العلاقات التعاونية والتضامنية محل العلاقات التنافسية بين أهل العصبية.

5. الوظيفة السياسية للعصبية :2

ـ يرى ابن خلدون أن للعصبية وظيفة سياسية ، وهي الوصول إلى الملك والاحتفاظ به ، أي بناء الدولة ، وهي وظيفة تلتقي اليوم مع وظيفة الأحزاب السياسية التي جوهر عملها وهدفها الوصول إلى السلطة ، ويقرر ابن خلدون " أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك " مبينا سبب ذلك " أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع يحكم بعضهم عن بعض ، فلابد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية ، فالتغلب الملكي غاية العصبية .
ويرى أن وظيفة العصبية تتمثل في صد العدوان ، لأن الطبيعة الإنسانية تنزع إلى العدوان بالفطرة لذا كان لابد من وازع أي حاكم ، ولا شك أن مسألة الوازع قد أولاها ابن خلدون اهتماما كبيرا ، انطلاقا من نظريته المتكاملة عن العصبية ، إذ ينظر إلى الوازع نظرة ثنائية انسجاما مع تقسيمه للعمران البشري إلى نوعين : العمران البدوي ، والعمران الحضري ، ولكل منهما وازع خاص لصد العدوان ،
 فهو يرى أن أحياء البدو معرضة إلى نوعين من العدوان :
1. العدوان الداخلي : ومصدره من داخل القبيلة ، أي اعتداء أفرادها على بعضهم ، فالوازع لهذا العدوان يكون من قبل أكابرهم ومشايخهم ، لما لهم من الوقار والاحترام عند قومهم ، وهذا نابع من مكانتهم المميزة لدى قومهم.
2. العدوان الخارجي : ومصدره من خارج القبيلة كالغزو أو ما في معناه ، فالوازع لهذا العدوان يكون من قبل شجعان القبيلة ، وأما حللهم فيذود عنها حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة.
أي أن السلطة ـ الحكم ـ لا يكون إلا بالعصبية ، غير أن ابن خلدون يوضح بأن السلطة لا تكون إلا للعصبية القوية من أجل التغلب على العصائب الأخرى لكي تلتحم معها فتشكل في النهاية عصبية واحدة كبرى ـ عصبية مركبة ـ وإذا لم تتوافر لها مثل هذه القوة القاهرة ، فإنها لن تصل إلى السلطة " فلا بد من عصبية تكون أقوى من جميعها تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها ، وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى ، وإلا وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتنازع.
ويرى ابن خلدون أن العصبية الحاكمة لا تبقى قوية ، وإنما تنتهي ، وتقوم على أنقاضها عصبية أخرى قوية ، وهذه بدورها تضعف وتقوم مقامها أخرى وهكذا دواليك ، أي أن العصبية لا تبقى على قوتها الأولى ، وإنما يعتريها الوهن الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الدولة ، وبزوالها تزول الدولة .
ويعلل ابن خلدون ضعف الدولة ثم زوالها بضعف عصبيتها ـ أي العصبية الحاكمة ـ وذلك باستبعاد أهل العصبية والانفراد بالمجد والانغماس في الترف والنعيم مما يؤذن بزوالها ، ويقرر ذلك " فلا يزال الملك ملجأ في الأمة إلى أن تنكسر سورة العصبية منها أو يفنى سائر عشائرها " .

6. ترجع أسباب ضعف الدولة التي هي أسباب ضعف العصبية إلى ما يلي :رابعا

1. سعة الملك مع عدم توافر العدد الكافي من أهل العصبية لتسيير دفة الحكم ، الأمر الذي يضعف سيطرة المركز على الأطراف ، فيستعين من أجل ذلك بقوم من خارج أهل عصبته .
2. التناصر والاختلاف على الحكم بين أهل العصبة ، فيأخذ الحاكم بالانفراد بالمجد والتنكر لقومه ، مما يؤدي إلى ضعف عصبيتهم ، لأن العصبية في هذه الحالة لم تحقق شرط قوتها ، وهو المصلحة العامة المشتركة ، والتلازم بين أهل العصبة الواحدة ، مما يؤدي إلى ظهور عصبات مطالبة بالحكم ، مما يحول دون استقرار الدولة .
3. انغماس الحاكم في الملذات والترف والتبذير ، والركون إلى الدعة من العوامل التي تؤذن بفساد العصبية ، ويقعدها عن تأدية وظيفتها ، حيث يعتقد ابن خلدون أن ذلك ينسيهم حالة " التوحش " الذي يعتبره من المقومات الأساسية من أجل انبثاق العصبية القوية.
4. وجود عصبية مناهضة أقوى من العصبية الحاكمة تقوم بالمطالبة بالملك ، وإلا فإن الضعف قد يطول ، وحين تدخل الدولة في مرحلة الهرم ، تعمل الظروف المصاحبة لهرم الدولة على إيقاظ الوعي العصبي لدى أهل العصبات المضطهدة  انطلاقا من وعيهم للضغط الاقتصادي الذي يهدد كيانهم ، فتتوحد عصبياتهم في عصبية واحدة ثائرة.