نظريات الثقافة
يعتبر موضوع الثقافة من أكثر الموضوعات تعقيدا وتشابكا وتنوعا، لذا نجد طرق دراساته ومناهجها مختلفة ومتنوعة و النتائج التي خلصت إليها الدراسات كذلك متنوعة ومتعددة لهذا نجد أن النظريات التي تطرقت إلى هذا الموضوع عديدة وكثيرة وربما لا يمكن حصرها بشكل جيد نظرا لتعدد المداخل النظرية وخضوعها في أغلب الأحيان لرؤى وتصورات إيديولوجية وهكذا يصبح موضوع الثقافة كغيره من المواضيع الإنسانية تتقاذفه الأيديولوجيات و المذاهب الفكرية المختلفة، إلا أن هذا لا يعني الاستسلام لهذا الأمر واعتباره قدرا محتوما. فرغم الخصائص السابقة التي ذكرناها لهذه النظريات إلا إنها لا تخلو من جوانب موضوعية لبعض جوانب الموضوع في تصوراتها وفي ما وصلت إليه من حقائق حول موضوع الثقافة. ولهذا سنحاول أن نتعرض ما وسعنا الجهد لأهم النظريات التي تناولت موضوع الثقافة ولجهود بعض العلماء الكبار، وسوف نتناول بعض النظريات الكلاسيكية الكبرى مثل النظرية التطورية والنظرية الانتشارية والنظرية الوظيفية ثم نتعرض لبعض النظريات المحدثة والتي هي في الحقيقة تطوير للنظريات السابقة مثل النظرية التطورية المحدثة ونظرية الانتخاب الثقافي، والقابلية الاجتماعية والثقافية للنمو والنظرية الإيكولوجية. وهي كلها نظريات حاولت معالجة موضوع الثقافة من وجهات نظر مختلفة و بتناولنا لها كلها ربما يتضح لنا الموضوع أكثر ونستوعب كل جوانبه على الأقل الظاهرة منها .
2. النظرية الانتشارية
تعتقد النظرية الانتشارية على أن انتشار السمات الثقافية بين الثقافات المتباعدة والقريبة يساعد على تهيئة الشروط الكفيلة بإحداث التغير الثقافي والانتقال من مرحلة إلى أخرى ومن ثم أبرزوا أهمية الاتصال الثقافي أو التفاعل بين الجماعات وبالتالي انتقال السمات الثقافية من مجتمع لآخر، وفي إطار المدرسية الانتشارية توجد ثلاث مدارس رئيسية؛ هي المدرسة البريطانية وتمثلها إليوت سميث و وليام بيرى و ريفرز وترى أن هناك مركزا رئيسيا للحضارة هو مصر التي عرفت الزراعة وبناء الأهرامات وعبادة الشمس ومنها انتقلت هذه الثقافة إلى الكثير من أنحاء العالم، وهناك المدرسة النمساوية ويتزعمها جروبينر و شميدت حيث ترى وجود دوائر ثقافية أو بؤرا ومراكز حضارية متعددة وليس مركزا حضاريا واحدا وهذه الدوائر تشترك في سمات ثقافية واحدة، وتشتد أو تزداد كثافة هذ ه السمات كلما كانت أقرب إلى المركز وهناك المدرسة الأمريكية، ويمثلها كلارك ويسلر و كروبير وكلاكهو ن ( تؤيد هذه المدرسة فكرة أن الملامح المميزة لثقافة ما وجدت أولا في مركز ثقافي جغرافي محدد ثم انتقلت إلى مناطق أخرى وإن كانت هذه المدرسة ترى إمكانية التطور المتوازي المستقل وأن الناس مبتكرين بطبعهم) ( جاك لومبار، مدخل إلى الايثنولوجيا ، ص 74.)
وعموما يمكن تلخيص أراء النظرية الاستشارية في مجموعة أفكار أساسية فهي تعتقد نشأها شأن التطورية بالمساواة بين البشر و بالتفاوت بين الثقافات إذ نجد في أنحاء العالم بؤرا ثقافية متقدمة على غيرها لكنها بالمقابل لا تعرب على الثقة نفسها بعبقرية الإنسان و بقدرته على التقدم الدائم عن طريق الاختراعات، فالانتشارية ترى أن نمو الثقافات تم أكثر ما تم عن طريق الأخذ والتقليد وذلك بفعل الاحتكاكات الثقافية بين الشعوب وهي احتكاكات أكثر بكثير مما يظنه التطوريون ، فانتشار النظم الاجتماعية وتقسيم العمل، وتنظيمه تم نقله من منطقة إلى أخرى عن طريق الوسائل المختلفة لنقل الثقافة ، كالحروب ، والتجارة، والهجرات المختلفة التي عرفتها البشرية، ولا مجال لعنصر الابتكارو الاختراع في نظر الانتشاريين.
والمدرسة الانتشارية لا تدرس الثقافات باعتبارها نماذج ممثلة لمراحل متعاقبة عبر الزمن بل هي ترفض اعتبار البشرية بمثابة الكائن الذي ينمو كما تنمو الخلايا المغلقة والمنطوية على ذاتها حيث يرى الانتشاريون أن هذه الاختراعات فضلا عن العناصر الثقافية، تنتشر من مجتمعات إلى أخرى إما بفعل الهجرات أو الحروب...الخ. وبشكل مختصر إذا كانت التطورية تبحث عن أسباب التفاوت بين الثقافات فإن الانتشارية تبحث عن صيغ الانتشار من ثقافة إلى أخرى، كيف ينتقل عنصر ثقافي من ثقافة إلى أخرى ، وإذا كانت التطورية تتناول الثقافة بنظرة تاريخية فإن الانتشارية تتناول الموضوع بنظرة جغرافية. (يحي مرسي ، أصول علم الانسان ،ص 366.)
وبهذه النظرة أصبح للمدرسة الانتشارية كيان نظري خاص بها فكونت لنفسها مجموعة من المفاهيم والمسائل مثل الدائرة الثقافية، والمنطقة الثقافية والجغرافيا الثقافية إلى غير ذلك من المفاهيم التي تدل على المضامين الفكرية لهذه النظرية.