2. المدرسة السلوكية ومحاولة بناء نموذج علمي في السياسة المقارنة
1- المدرسة السلوكية ومحاولة بناء نموذج علمي في السياسة المقارنة
بحلول ستينات القرن العشرين المنصرم، بدأ واضحا أن السلوكية لم تعد مجرد أقلية تناضل ضد التقليد المهيمن على حقل السياسة آنذاك بل كانت طبقا لروبرت دال ، أحد أبرز منظري المدرسة السلوكية، تمثل بالفعل ثورة ناجحة، وفقا لنموذج توماس كون للثورات العلمية، حيث استطاعت الفوز بتعاطف الكادر الشاب والمتحمس من علماء الحقل، وأنها أصبحت في طريقها لخلق أجندة جديدة لعلم السياسة. ووصل الأمر بروبرت دال إلى التنبؤ بأن السلوكية ستنمو لتصبح مألوفة جدا وموضع إجماع جديد وبأنها لن تبقى مجرد اقتراب خاص. فالسلوكية كما أشار روبرت دال (1961) "ستختفي تدريجيا... أعني فقط أنها سوف تزول ببطء كنمط متميز، لأنها ستصبح ، بل أنها قد أصبحت بالفعل، جزءا من البناء الأساسي للحقل. فالنمط السلوكي لن يختفي لأنه قد أخفق وإنما سيختفي لأنه قد نجح".
لقد جاء ظهور النموذج السلوكي كما يؤكد شيل كوت Chilcothe كحركة احتجاجية من قبل بعض علماء السياسة ضد إخفاق النموذج التقليدي القانوني غير المقارن الذي كان في معظمه وصفيا وذا أفق ضيق وانحصر اهتمامه في دراسة الجوانب الشكلية والقانونية للحكومات فضلا عن التركيز على وجود علاقة متبادلة بين الحقائق والقيم. وقد أكتسب التوجه السلوكي حضورا وشعبية كبيرة في علم السياسة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية برغم أن جذوره تعود إلى عشرينات القرن الماضي متمثلة في كتابات وأعمال علماء سياسة بارزين من أمثال تشارلز مريام وهارولد لا زويل وغيرهما (انظر خصوصا (Merriam, 1962). حيث كان مريام واحدا من أبرز المندفعين نحو توجيه علم السياسة إلى التركيز على دراسة السلوك الواقعي للناس مؤكدا على فائدة النظر إلى السلوك الفعلي للأفراد والجماعات الناشطين سياسيا بدلا من التركيز فقط على تحليل القواعد الشكلية والقانونية التي يفترض أن يخضع لها أولئك الأفراد والجماعات. أي أن عالم السياسة السلوكي ينبغي أن يهتم بالبحث عن المصادر غير الرسمية والشكلية للقوة والسلطة والتي تنبع من التشعبات الاقتصادية والأخلاقية والعلاقات الاجتماعية فضلا عن اهتمامه ببناء نظريات علمية تربط حقل السياسة بحقول المعرفة الأخرى.
وجاءت الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من آثار لتمهد الطريق لمرحلة تحول حاسمة في تطور حقل السياسة كما يشير نصر عارف " أخرجت النموذج المعرفي التقليدي تماما من ساحة البحث الأكاديمي، وأتاحت الفرصة لهيمنة الحركة السلوكية على مختلف حقول العلوم الاجتماعية، وأصبح من المنطقي القول بحدوث ثورة سلوكية". ويعود السبب في ازدهار النموذج المعرفي السلوكي لعلم السياسة في تلك الفترة كما يقول روبرت دال إلى ثلاثة عوامل رئيسة على الأقل.
أولا: توفر مصادر تمويل ضخمة من قبل مؤسسات بارزة مثل كارنجي وروكفلر وفورد وغيرها لتشجيع إجراء دراسات تجريبية في العلوم الاجتماعية بهدف إحداث تغيير اجتماعي باتجاه الليبرالية الرأسمالية ليس في الدول الغربية فقط وإنما في دول العالم الثالث أيضا.
ثانيا: توفر وسائل جديدة وإمكانيات منهجية واعدة أمكن استخدامها في البحث السياسي بعد أن تم تطويرها بشكل مستقل عن علم السياسة. ومن تلك الوسائل الجديدة استطلاعات الرأي العام والدراسة المسحية بالإضافة إلى التطور المذهل في ميدان الإحصاء الرياضي والتقدم في تقنية الحاسوب.
ثالثا: الأثر الكبير للتراث الوضعي المنطقي، التي تؤكد ضرورة فصل القيم عن العلم، وكتابات ماكس فيبر التي حملها إلى الولايات المتحدة مجموعة من العلماء الأوربيين اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب في أوربا .
ويشير ايزاك Isaak (1969)إلى أن هناك تحت المظلة "السلوكية" اتجاهين واسعين على الأقل هدف أحدهما إلى التأكيد على الموضوع أو المحتوى ، بينما ركز الآخر على الأسلوب أو المنهجية.
فقد أكد الاتجاه الأول، الذي منح الحركة اسمها، وذلك من خلال التركيز على سلوك الفاعلين السياسيين إي دراسة النشاط السياسي بدلا من المؤسسات، على أن اهتمام السياسة الرئيس ليس في دراسة البناءات الشكلية كالمؤسسات ، والدساتير، والهيئات التشريعية بل في التركيز على السلوك الفعلي للناس في الحياة العامة سواء حدث هذا السلوك ضمن البناءات السياسية الشكلية أم خارجها. حيث يرى هذا الاتجاه أنه برغم أهمية المؤسسات في العملية السياسية إلا أنها وحدها لا تمثل المضمون الحقيقي للسياسة بل إن النشاط ضمن تلك المؤسسات والسلوك حولها هو ما ينبغي أن يمثل الاتجاه الرئيس لعالم السياسة. ومع أن هذا الاتجاه لا يرفض تماما الاقترابات التقليدية السابقة حيث يرى أن عالم السياسة السلوكي يمكن أن يستخدم المعلومات التاريخية عند الحاجة، ويبقى مهتما بالجوانب القانونية للنظم السياسية ولا يزال يعي أهمية المؤسسات إلا أن اهتمامه الرئيس هو السلوك. فالتاريخ بعد كل شيء ليس إلا سلوكا إنسانيا، كما أن الناس هم الذين يصنعون القوانين ويتبعونها وحتى يتجاوزونها، وأخيرا والأكثر أهمية فإن المؤسسات ليست سوى توليفة من الأنماط السلوكية.
ومع ذلك، فإن هناك وجهتي نظر متباينة بين علماء السياسة بشكل عام حول مدى أهمية سلوك كل من الأفراد والجماعات. فهناك أولا أولئك الذين يبدو أنهم يمثلون معظم التوجه السلوكي والذين يرون أن الجماعات لا تعني شيئا أكثر من مجموع أعضائها الأفراد، أي أنه ليس هناك خصائص بارزة للجماعة لا يمكن أن تنطبق على أفرادها. أما علماء السياسة الآخرون فيؤكدون بأن هناك سمات خاصة بالجماعة لا يمكن أن تنطبق على أفرادها ومن ثم فإن الجماعات هي أكثر من مجرد مجموع أفرادها. ويمثل هذا التوجه تقليدا مهما في التحليل التاريخي والاجتماعي كما كان له تأثير على عدد من علماء السياسة. وكما يبدو فإن معظم السلوكيين يتبنون الموقف الفردي الذي يؤكد على أهمية السلوك الفردي واعتباره اللبنة الأساسية في بناء علم السياسة، ولذا يبدو أن هناك تلازما بين السلوكية والفردية.
أما الاتجاه الثاني في السلوكية، والذي وإن كان وثيق الصلة بالأول إلا أنه مع ذلك حظي بدرجة من الأهمية استحق معها اعتبارا خاصا، فقد هدف إلى تحويل الدراسات السياسية إلى علم قابل للتحقق من خلال تشجيع طلاب السياسة على توظيف المنهجية العلمية الطبيعية واعتبار السلوكية مرادفا للطريقة العلمية للسياسة. حيث كان هناك اقتناع صريح بدرجة أو بأخرى بالمنهجية العلمية التجريبية التي يمكن أن تتدرج من فكرة ضيقة للعلم ( بمعنى أي شيء نسقي وتجريبي) وصولا إلى مجموعة متكاملة من الافتراضات والمبادئ العلمية. وطبقا لهذا الاتجاه أضحت السلوكية شعارا للحركة العلمية في علم السياسة التي تتلخص أهدافها في تطوير تعميمات تجريبية ونظرية نسقية واستخدام كل ذلك في تفسير الظاهرة السياسية.
كذلك أمل هذا الاتجاه إلى التوصل إلى إلغاء الحواجز التي تفصل العلوم الاجتماعية عن بعضها انطلاقا من القاعدة المنهجية التي يطلقون عليها "وحدة العلوم الاجتماعية" والتي تعني ببساطة أن العلوم الاجتماعية جميعها تدرس الشيء نفسه- سلوك الأفراد أو مجموعة من الأفراد. فبرغم أن علماء السياسة يدرسون ما يسمونه السلوك السياسي، والاقتصاديون يدرسون السلوك الاقتصادي، وعلماء النفس السلوك النفسي - وهذه هي القاعدة التي بنيت عليها الحدود الفاصلة بين الحقول الاجتماعية- إلا أن الملاحظات الأساسية لأي علم اجتماعي هي نفسها. ولذلك فإن العلوم الاجتماعية بالنسبة لأنصار هذا الاتجاه موحدة بالنظر إلى اهتمامها المشترك بالسلوك، فضلا عن أنها متحدة في الأسس المنهجية – فكل العلوم اجتماعية أو طبيعية- تفترض نفس الافتراضات وتتتبع نفس المبادئ. ولهذه الوحدة نتائج هامة بالنسبة لعالم السياسة السلوكي لأنها تتيح له وبشكل مشروع استخدام المعلومات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وغيرها في محاولته شرح وتفسير الظاهرة السياسية.
أما على المستوى الفلسفي فقد تبنت السلوكية عددا من الافتراضات النقدية فيما يتعلق بطبيعة العلم. فقد رفضت الزعم الذي أثاره عدد كبير من النقاد بأن العلوم الاجتماعية فريدة في متطلباتها المنهجية وأنها تتضمن أدوات ومهارات معرفية وإجراءات عملية مختلفة عن تلك السائدة في العلوم الطبيعية. وأصر السلوكيون على أن هناك طريقا واحدا فقط للعلم وان الحديث عن وضع خاص فيما يتعلق بعلم السلوك الإنساني يعني في الواقع تجاهل مكانته العلمية.
فالحقيقة ، كما تزعم السلوكية، يمكن إدراكها فقط من خلال خصوصيتها أي في مظاهرها الفعلية المحددة ولذلك فهي تحصر ما يمكن أن يمثل معرفة في العبارات الاستقرائية، الكمية، القابلة للتحقق، والمحددة، بينما ترفض كل العبارات التي تستند على أسس أخرى باعتبارها لا تستند على أدلة أو ذاتية أو حتى عديمة المعنى. وأكثر تلك العبارات رفضا من قبل التوجه السلوكي تلك التي تدعي استنادها على الحكمة أو الاستبصار أو الحدس. ولذا تصر السلوكية على أن الروحانيات والأساطير والغيبيات التي ترفض أن تحول نفسها إلى تجارب راسخة وتصر على أنها أكثر من مجموع عناصرها المكونة وترفض الخضوع للمجال العلمي الصارم إنما تبقي نفسها خارج إطار الخطاب العلمي القابل للتحقق.
وتؤكد الاقترابات السلوكية على أهمية التحليل الإمبريقي بل إن عددا من علماء السياسة يؤكدون أن السلوكية في الواقع مرادفة إلى حد كبير للأمبريقية. ومع أن الاتجاه التقليدي لعلم السياسة كان امبريقيا فيما يتعلق بوصف الظاهرة السياسية محل الدراسة إلا أن السلوكيين أكثر هوسا في التفاصيل وأكثر صرامة في إمبريقيتهم ولذا فهم يفضلون في الغالب استخدام نماذج التحليل الإحصائية والحسابية والاقتصادية لأنها تسمح بقدر من التحليل الإمبريقي الدقيق للظاهرة السياسية. ونظرا لتركيزها على التجريبية فإن السلوكية تميل إلى رفض التحليل التاريخي لأنها ترى من غير المنطقي البحث في الماضي عن (تفسيرات ورؤى وأفكار حول شئون السياسة) عندما تكون الملاحظة الطريق الأكثر اعتمادا للوصول إلى المعرفة. كذلك يتناقض التوجه السلوكي تجاه تحليل ما هو (ملاحظ) مع التوجه الذي يهتم بما ينبغي أن يكون. بل أن أحد السمات الرئيسة للسلوكية يتمثل في رفضها للمسائل المعيارية (القيمية) المرتبطة بالتوجه التقليدي لعلم السياسة.
وقد لخص أحد المنتمين لهذا التوجه وهو ديفيد آيستن النموذج السلوكي في ثماني خصائص رئيسة هي:
1- الانتظام (Regularities). حيث هناك تماثل يمكن اكتشافه في السلوك السياسي. ويمكن التعبير عن هذه الانتظامية من خلال تعميمات أو نظريات ذات قيمة تفسيرية وتنبؤية.
2-التحقق أو التأكد(Verification). فلا بد أن تكون صدقية تلك التعميمات قابلة للاختبار.
3- طرائق البحث (Techniques). لا يمكن التسليم تماما بوسائل جمع وتفسير المعلومات إذ أنها لا تخلو من مشاكل وتحتاج إلى فحصها بدقة وتنقيتها حتى يمكننا إيجاد وسائل صارمة لملاحظة وتسجيل وتحليل السلوك.
4- القياس الكمي(Quantification). تتطلب الدقة في تسجيل البيانات وإعلان النتائج قياسا وتقديرا كميا ليس من أجل القياس لذاته وإنما فقط عندما يكون ممكنا وذا صلة ومعنى على ضوء الأهداف الأخرى.
5- القيم (Values). يتضمن التقويم الأخلاقي والتفسير التجريبي نوعين مختلفين من الافتراضات ولذا ينبغي التمييز بينهما في التحليل من أجل الوضوح. ومع ذلك ليس محظورا على دارس السلوك السياسي التأكيد على افتراضات أي منهما منعزلة أو مجتمعة طالما يمكنه تمييز كل منهما عن الآخر.
6- التناسق والتراتبية(Systematization). ينبغي أن يكون البحث متناسقا أي أنه يجب أن تبدو النظرية والبحث كأجزاء مترابطة لكيان معرفي متماسك ومنتظم. فالبحث الذي لا يسترشد بنظرية يمكن أن يكون تافها وكذلك النظرية التي لا تدعمها معلومات.
7-العلم الصرف(Pure Science). أن تطبيق المعرفة يمثل جزءا من الفهم النظري بنفس القدر الذي نجده في المؤسسة العلمية. إلا أن فهم وتفسير السلوك السياسي منطقيا يسبق ويقدم الأسس لجهود توظيف المعرفة السياسية لحل المشاكل العملية الملحة في المجتمع.
8- التكامل(Integration). نظرا لأن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الحالة الإنسانية بكاملها فإن تجاهل البحث السياسي لنتائج الحقول الأخرى يمكن أن يضعف مصداقيته ويقوض تعميم نتائجه. وعليه فإن تسابق العلوم الاجتماعية نحو تأكيد استقلالها يمكن أن يؤدي إلى تقويض دعائم العلم نفسه.