المحاضرة الثانية

الموقع: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
المقرر: السياسة المقارنة
كتاب: المحاضرة الثانية
طبع بواسطة: Visiteur anonyme
التاريخ: Sunday، 5 May 2024، 1:29 AM

الوصف

   نتناول في  هذة المحاضرة النموذج المعرفي وإسقاطاته على السياسة المقارنة كما نتناول كذلك أهم مرحلة في الدراسات السياسية المقارنة وهي المرحلة السلوكية ومحاوله بناء نموذج علمي في السياسة المقارنة يرقى إلى التصور الذي طرحه توماس كوهن.

 

1. المنهج المقارن والنموذج المعرفي عند توماس كوهن

1   توماس كون والنموذج المعرفي لتطور العلم

لكي نقدر جيداً تحدي كون المثير للتقاليد السائدة في فلسفة العلم فيجب أولاً أن نلقي بعض الضوء على نظرة توماس كون لتطور العلم التي حاول فيها أن يربط بين تاريخ العلم وفلسفته ويلفت الانتباه إلى الصعوبات الجمة التي تواجه المبدعين من المنظرين والباحثين إن هم أرادوا تجاوز التوجه العلمي السائد. وثانيا ماذا يمكن أن تقدمه لنا تلك النظرة في مجال التحليل النقدي للموقف السلوكي الذي هيمن على مجال البحث والتنظير في علم السياسة خلال النصف الثاني من القرن العشرين والذي وبرغم إخفاقه والهجوم المتواصل عليه لا يزال يحظى بأتباع كثر إلى اليوم. وبعد ذلك سنصبح في وضع أفضل يتيح لنا تقويم تأثير تحدي توماس كون واستكشاف تبعاته على حاضر و مستقبل علم السياسة.

كيف يتطور العلم؟ حتى وقت قريب كان مؤرخو العلم يعتقدون أن العلم يتطور بشكل تراكمي مستمر ومتصاعد. فالعلماء يصوغون النظريات ثم يثبتونها أو ينفونها بناء على الاختبار التجريبي لتنبؤاتها المشتقة من النظريات ذاتها. وللقيام بهذه المهمة يحتكم العلماء إلى إجراءات علمية تحدد ضوابط الأمانة الفكرية، والنقد المنظم، والموضوعية. إي أن العلم يعتبر مؤسسة عقلانية منطقية وتقدمية. فعندما تخفق نظريات قديمة تصاغ أخرى جديدة ويتم تبنيها لقدرتها التفسيرية الأقوى. وبقيت هذه النظرة شائعة حتى جاء توماس كون لينسف ذلك الاعتقاد من خلال تأكيده- في كتاب "بنية الثورات العلمية"- على أن العلم لا يتقدم من خلال التراكم المعرفي وإنما من خلال ثورات متعاقبة تحدث على مستوى النموذج المعرفي Paradigm الذي عنى به كون تقليدا متماسكا للقوانين العلمية، والنظريات، والفرضيات والمقاييس والمفاهيم والمناهج والممارسات التي تشكل اقترابا متميزا للمشاكل التي تواجه حقلا معرفيا ما.

لقد وجد توماس كون، بخبرته، أن جماعات العلم الطبيعي كانت أقل مشاكسة واختلافا من جماعات العلوم الاجتماعية فيما يتعلق بتحديد كل من المشاكل الهامة في الحقل والمنهجية الملائمة للبحث. إن هذه المحاولة لتفسير هذا الاختلاف هي التي قادته إلى فكرة النموذج المعرفي ومزاعمه بشأن التغير العلمي الثوري. ولكن برغم استنتاجه أن العلوم الاجتماعية لم تكن عرضة لمثل تلك الدوغمائيات المهيمنة، إلا أنه لاحظ أن كل من تاريخ العلم والمعارف الشخصية جعلته يشك في أن الممارسين للعلوم الطبيعية يمتلكون إجابات أكثر تماسكا وثباتا لمثل تلك التساؤلات من نظرائهم في العلوم الاجتماعية. ولذلك يؤكد توماس كون أن سوسيولوجية العلوم الطبيعية وليس موضوع اهتمامها هو الذي حول تلك العلوم إلى نماذج معرفية، لكنه يزعم بأن الجدل حول ما إذا كان هناك بناءات وتحولات مشابهة في العلوم الاجتماعية أم لا لم يحسم بعد.

ويؤكد توماس كوهن أن النماذج المعرفية تقوم بدور حاسم في تطور العلم وأنه بدون نموذج معرفي موجه سيجد الباحثون صعوبة في تحديد المشاكل المهمة في حقلهم ومعرفة أفضل السبل لحلها. فالنموذج المعرفي هو الذي يحدد ماذا ندرس، وما هي الأسئلة التي ينبغي أن توجه وكيف تصاغ وما هي الإجراءات المتبعة في تفسير نتائج البحث.

وفي هذا السياق، يشير إلى أنه خلال فترة "العلم العادي" - التي يعني بها توماس كون الفترة التي يهيمن فيها نموذج معرفي معين- يكون لدى العلماء والمفكرين فكرة واضحة جدا عن حلول المشاكل التي يواجهونها، إلا أنه وبالتدريج تبرز مشاكل عديدة تستعصي على الحل. وعندما يتعاظم عدد هذه المشاكل يدخل العلم في مرحلة الأزمة التي يظهر فيها التحدي للنموذج المهيمن واضحا وخاصة عندما يدرك جماعة العلماء أن النموذج القائم عاجز عن حل المشاكل القائمة. وتنفرج هذه الأزمة عندما يبرز نموذج جديد من خلال ثورة علمية تحدث قطيعة معرفية مع النموذج المعرفي القديم وتعيد تنظيم رؤيتنا بطريقة لا نعد نرى معها العالم بالطرق القديمة. وهذا ما حدث مثلا مع نموذج بطليموس الفلكي الذي كان يقوم على أساس مركزية الأرض للنظام الشمسي والذي بقي مهيمنا على علم الفلك خلال العصور الوسطى برغم أن إخفاقاته، كما يزعم كون، كانت واضحة لكل من يريد أن يراها إلا أن رد الفعل المألوف لتلك الإخفاقات كان العمل على تحسين التعديلات والتصحيحات بدلاً من تخيل طرق بديلة لرؤية السماء حتى مجيء الفلكي البولندي كوبرن يكوس (1473م-1543م).

ويمضي توماس قائلا أن اعتبارات التدبر كان ينبغي أن تقود كوبرن يكوس لتخصيص مواهبه البارزة لتنقيح وتحسين النسق القائم بدلاً من الاندفاع بقوة إلى أرض مجهولة لم يكن لديه عنها إلا تصوراته الخيالية، إلا أنه لم يفعل ذلك. حيث لم يجر أي تحسينات على النظرة القائلة بمركزية الأرض من خلال الاستجابة للمشاكل المحددة والنتائج المتناقضة التي واجهتها تلك النظرة، ولم تكتف نظرته الجديدة للفلك القائمة على مركزية الشمس بتجاوز خطاب بطليموس من خلال تطهيره من أخطائه وإنما كانت بداية جديدة وقطيعة واضحة، وإعادة ترتيب مثيرة وشاملة لكل ما كان معروفاً سابقاً، ففي ومضة إلهام تأملي تم اختراع مصطلحات خطاب فلكي جديد  لكن كيف يمكن تفسير التأثير الذي تركته فكرة كوبرن كوس عن السماوات على الممارسين الآخرين وهي التي كانت تفتقد لأي أساس للملاحظة أو البرهان. وما هو أكثر أهمية أن قبولها تطلب نبذ الإطار الراسخ للمعرفة المتراكمة- الذي كان كثيراً منه لا زال عملياً – الذي قدمه الفلك البطلمي. وإذا كانت الثورات العلمية تبدأ فقط بافتراضات غير مدعومة بالأدلة فكيف يمكننا أن نحدث أي تقدم في المجتمع العلمي؟

بشكل أساسي، يقول كوهن، من خلال إشعال خيال الجيل الشاب من الباحثين المتحمسين للأمل بفكرة جديدة والذين يصبحون متيقظين من خلال إمكانيتها المستقبلية لاستبدال المألوف والعادي بمغامرة الكشف. وهذه الموجة من التوقعات المنعشة تنتشر بسرعة في أوساط أعضاء الحقل الجدد، لأن قابلية هؤلاء الخاصة لإغراء المغامرة الفكرية ليست صعبة مقارنة بزملائهم الأقدمين الذين قد قضوا أجزاء هامة من حياتهم للعمل مع مفاهيم وافتراضات محددة، مما يجعلهم غير مسلّمين بذلك نسبياً، فضلاً عن أن لديهم اهتماماتهم القائمة. فهذا ماكسي بلانك يشير في أسى إلى أن "الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر عن طريق إقناع خصومها وجعلهم يرون الضوء، بل أنها تنتصر لأن خصومها قضوا ووافتهم المنية، وشب جيل جديد على ألفة معها. أي أن الأسباب الرئيسة لنجاح الثورات العلمية تقع خارج نطاق العلم وأن تلك الأسباب أكثر قابلية للشرح والتفسير بمعايير المجتمع العلمي الاجتماعي والنفسي منها بمنطق الكشف العلمي .

ومن المثير أن توماس كوهن يؤكد أن الجدال بين وجهات النظر القديمة والجديدة حول العالم هو عديم الجدوى حيث لا يمكن حسمه من خلال التوجه إلى "الحقائق" لأنه لا يمكن تحديد ما سيعتبر حقيقة، كما أن الأهمية النسبية لهذه الحقائق مهما كانت هي ذاتها موضوعاً خلافياً. ولذلك فإن انتصار وجهة النظر الجديدة لا يعود إلى قوة حجتها وإنما إلى توقعات الحياة الأكبر لدى مؤيديها. فعندما تموت وجهة النظر القديمة مع جيل العلماء الأكبر سناً يبدأ المنظور الجديد عملية التمكن والاستقرار في الروتين العلمي ويتحول ما كان فرضا ثوريا إلى روتين. أي أنه مهما كانت لحظات النشوء مبهجة فإن الأفكار التي ألهمتها يجب أن تتحجر لتصبح تقليداً حاكماً لكي يمكن للنشاط العلمي أن يصبح مرتباً ومستقراً .

وفي هذا السياق يؤكد توماس كوهن أن هناك اختلافات حادة بين العلم الثوري أو الاستثنائي والعلم الذي أصبح روتيناً، فالأول يعتد فقط بالمحيط الخارجي لخيال العالم والباحث بينما يكون الثاني مقيداً بشدة بالمبدأ التسلطي والإجراءات الإجبارية. وللمفارقة فإن خصائص الثاني وليس الأول هي المحبذة والمرغوبة حقيقة للتقدم العلمي. فبدون توفر إجماع واسع حول ما هي سبل ممارسة النشاط العلمي وبدون اتفاق أساسي ومبدئي حول ما نريده من المعرفة وبدون مفهوم مشترك للحكم على ما هو حسن وما هو قبيح وبدون – ربما فوق كل شيء – رؤية مقبولة حول شكل العالم وما هي الطريقة المقبولة لبحثنا، فإن الحقل العلمي لن يكون ممكناً. فالعلم هو نشاط منظم ومثل كل النشاطات المنظمة يتطلب بناءات سلطوية ومعايير  ضابطة لترتيب وتنظيم عمله. وعندما لا توجد مثل تلك البناءات والمعايير فإن العلم يمكن أن يستمتع بمناقشة عامة للتنازلات المتبادلة بدون قواعد وبديهيات أو مقاييس ضابطة، ويمكن أيضاً أن يشهد فترة من الإبداعية اللا مسئولة – وهي ما أطلق عليها كون "العلم الاستثنائي"- لكنه لن يزدهر أو يتطور إطلاقاً.

وبعكس "العلم الاستثنائي" يؤكد توماس كون أهمية تلك الفترات المتسمة بما سماه "العلم العادي أو المتعارف عليه". وهذه أوقات أو فترات تحكمها حكمة "الكتاب المدرسي"، حيث يتم التعليم وفقاً لمبادئ مقبولة عالمياً يجب على العالم الفلكي أو الإحيائي أو السياسي أو النفسي الناشئ أن يعرفها لكي يصبح محترفاً. كما تحكم تلك المبادئ مهمة تقرير ما هي مشاريع البحث التي تمول، وما الأبحاث التي تنشر، ومن هو المتقدم الذي سيمنح الوظيفة طبقاً للإجماع السائد لما يعتبر إنجازا علمياً أهلاً للمكافأة. ويطلق توماس كون على هذا الإجماع السلطوي - فيما يتعلق بطبيعة العلم، والعالم الذي يصفه، وأهدافه، وطرقه، وموضوعه المناسب- مصطلح "Paradigm" " النموذج المعرفي." ولذا يعتبر توفر نموذج معرفي مهيمن شرطاً للعلم العادي، كما أن العلم العادي يعتبر شرطاً للتطور العلمي(كون، 1992،ص ص. 153-154) .

ونظراً لأن النماذج المعرفية تحدد بشدة ما هو مقبول علمياً فإنها تؤسس لغة مشتركة ومعايير مشتركة كما أنها تشجع أيضا التركيز المشترك على مشاكل محددة تحظى باتفاق على أهمية إيجاد حلول لها. وبالتالي، فإن كل النشاط العلمي المثمر حقاً يجب أن يتم ضمن حدود النموذج السائد مما يجعل الفرضيات التي تخالف افتراضاته تستبعد بطبيعتها. وكل هذا يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أن اعتقاداتنا العلمية الأكثر أهمية وأساسية لا يمكن دحضها بواسطة مجرد دليل، وهذا يعني بشكل أساسي أن النموذج المعرفي للعالم أو الباحث هو فوق الدحض.

ولذا فإن توماس كون يعتقد أنه لا يمكن قط قلب نموذج معرفي إلا عندما يأخذ نموذج معرفي أخر مكانه، لأن الأدلة يجب أن تقّوم وفقاً لافتراضات وإجراءات النموذج المعرفي المهيمن في الوقت الحاضر، ويجب أن يصاغ أي تحد للنموذج ذاته وفقاً لمعايير ذلك النموذج المعرفي و إلا فإنه سيتم تجاهله. وبوضوح فإنه إذا كان النموذج المعرفي السائد هو الذي يحدد منذ البداية ما هو مقبول، فليس هناك من فرصة كافية للتحديات.

وإذا لم يكن ممكنا دحض النماذج المعرفية إلا أنه يمكن مع ذلك استبدالها. إلا أن الاستبدال لا يشتق من عملية المحاولة والخطأ المستندة إلى برهان نقدي وإنما يمثل، كما يزعم توماس كون، انقطاعاً عن الماضي، إعادة توجيه متنامية وهائلة للبديهيات والأهداف. ومن الواضح في هذه الحالة أنه لم يتم دحض النماذج المعرفية المستبدلة بقدر ما تم الاستيلاء عليها وإهمالها. وليس من الصعب الشعور بالتناقض الموجود في هذه التأكيدات الصارمة. فعندما يكون الدحض ممكناً (في افتراضات من الدرجة الثانية) فإنه يكون أقل أهمية نقدية وعندما يكون الافتراض ذا أهمية نقدية فإن الدحض يكون مستحيلاً.

ولذا يرى كوهن، أن دحض افتراضات النموذج المعرفي يجعل التقدم العلمي غير ممكن، لأن العلم يتطلب ثباتا على الأقل فيما يتعلق بافتراضاته الأساسية. وأن العلم يزدهر فقط عندما تصبح تلك المعتقدات الأساسية غير قابلة للنقاش أو عرضة للهجوم، وعندما تقتصر جهود "العلماء العاديوّن" حصراً على "أحاجي" الترتيب الثاني التي ينشئها النموذج المعرفي. ومن ثم يمكن الزعم بأن "جمهورية العلم" لا تزدهر إلا عندما ينظر إلى الحقيقة من خلال فئات غير قابلة للنقاش، وعندما تصبح مبادئ العالم الأولى حقائق وعندما يكون التقليد المألوف ملزماً وعالمياً. 

كما نشير كذلك إلى هذا الرابط للإستفاضة أكثر في الموضوع:

guelma.moontada.net/t5155-topic

و لتوضيح أكثر نستعين بالفديو أدناه الموسوم بسم توماس كوهن والنماذج الإرشادية والثورات العلمية لـ أحمد سعد زايد: 

2. المدرسة السلوكية ومحاولة بناء نموذج علمي في السياسة المقارنة

1- المدرسة السلوكية ومحاولة بناء نموذج علمي في السياسة المقارنة 

بحلول ستينات القرن العشرين المنصرم، بدأ واضحا أن السلوكية لم تعد مجرد أقلية تناضل ضد التقليد المهيمن على حقل السياسة آنذاك بل كانت طبقا لروبرت دال ، أحد أبرز منظري المدرسة السلوكية، تمثل بالفعل ثورة ناجحة، وفقا لنموذج توماس كون للثورات العلمية، حيث استطاعت الفوز بتعاطف الكادر الشاب والمتحمس من علماء الحقل، وأنها أصبحت في طريقها لخلق أجندة جديدة لعلم السياسة. ووصل الأمر بروبرت دال إلى التنبؤ بأن السلوكية ستنمو لتصبح مألوفة جدا وموضع إجماع جديد وبأنها لن تبقى مجرد اقتراب خاص. فالسلوكية كما أشار روبرت دال (1961) "ستختفي تدريجيا... أعني فقط أنها سوف تزول ببطء كنمط متميز، لأنها ستصبح ، بل أنها قد أصبحت بالفعل، جزءا من البناء الأساسي للحقل. فالنمط السلوكي لن يختفي لأنه قد أخفق وإنما سيختفي لأنه قد نجح". 

لقد جاء ظهور النموذج السلوكي كما يؤكد شيل كوت Chilcothe كحركة احتجاجية من قبل بعض علماء السياسة ضد إخفاق النموذج التقليدي القانوني غير المقارن الذي كان في معظمه وصفيا وذا أفق ضيق وانحصر اهتمامه في دراسة الجوانب الشكلية والقانونية للحكومات فضلا عن التركيز على وجود علاقة متبادلة بين الحقائق والقيم. وقد أكتسب التوجه السلوكي حضورا وشعبية كبيرة في علم السياسة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية برغم أن جذوره تعود إلى عشرينات القرن الماضي متمثلة في كتابات وأعمال علماء سياسة بارزين من أمثال تشارلز مريام وهارولد لا زويل وغيرهما (انظر خصوصا (Merriam, 1962). حيث كان مريام واحدا من أبرز المندفعين نحو توجيه علم السياسة إلى التركيز على دراسة السلوك الواقعي للناس مؤكدا على فائدة النظر إلى السلوك الفعلي للأفراد والجماعات الناشطين سياسيا بدلا من التركيز فقط على تحليل القواعد الشكلية والقانونية التي يفترض أن يخضع لها أولئك الأفراد والجماعات. أي أن عالم السياسة السلوكي ينبغي أن يهتم بالبحث عن المصادر غير الرسمية والشكلية للقوة والسلطة والتي تنبع من التشعبات الاقتصادية والأخلاقية والعلاقات الاجتماعية فضلا عن اهتمامه ببناء نظريات علمية تربط حقل السياسة بحقول المعرفة الأخرى.

وجاءت الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من آثار لتمهد الطريق لمرحلة تحول حاسمة في تطور حقل السياسة كما يشير نصر عارف " أخرجت النموذج المعرفي التقليدي تماما من ساحة البحث الأكاديمي، وأتاحت الفرصة لهيمنة الحركة السلوكية على مختلف حقول العلوم الاجتماعية، وأصبح من المنطقي القول بحدوث ثورة سلوكية". ويعود السبب في ازدهار النموذج المعرفي السلوكي لعلم السياسة في تلك الفترة كما يقول روبرت دال إلى ثلاثة عوامل رئيسة على الأقل.

 أولا: توفر مصادر تمويل ضخمة من قبل مؤسسات بارزة مثل كارنجي وروكفلر وفورد وغيرها لتشجيع إجراء دراسات تجريبية في العلوم الاجتماعية بهدف إحداث تغيير اجتماعي باتجاه  الليبرالية الرأسمالية ليس في الدول الغربية فقط وإنما في دول العالم الثالث أيضا.

ثانيا: توفر وسائل جديدة وإمكانيات منهجية واعدة أمكن استخدامها في البحث السياسي بعد أن تم تطويرها بشكل مستقل عن علم السياسة. ومن تلك الوسائل الجديدة استطلاعات الرأي العام والدراسة المسحية بالإضافة إلى التطور المذهل في ميدان الإحصاء الرياضي والتقدم في تقنية الحاسوب.

ثالثا: الأثر الكبير للتراث الوضعي المنطقي، التي تؤكد ضرورة فصل القيم عن العلم، وكتابات ماكس فيبر التي حملها إلى الولايات المتحدة مجموعة من العلماء الأوربيين اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب في أوربا .

ويشير ايزاك  Isaak (1969)إلى أن هناك تحت المظلة "السلوكية" اتجاهين واسعين على الأقل هدف أحدهما إلى التأكيد على الموضوع أو المحتوى ، بينما ركز الآخر على الأسلوب أو المنهجية.

فقد أكد الاتجاه الأول، الذي منح الحركة اسمها، وذلك من خلال التركيز على سلوك الفاعلين السياسيين إي دراسة النشاط السياسي بدلا من المؤسسات، على أن اهتمام السياسة الرئيس ليس في دراسة البناءات الشكلية كالمؤسسات ، والدساتير، والهيئات التشريعية بل في التركيز على السلوك الفعلي للناس في الحياة العامة سواء حدث هذا السلوك ضمن البناءات السياسية الشكلية أم خارجها. حيث يرى هذا الاتجاه أنه برغم أهمية المؤسسات في العملية السياسية إلا أنها وحدها لا تمثل المضمون الحقيقي للسياسة بل إن النشاط ضمن تلك المؤسسات والسلوك حولها هو ما ينبغي أن يمثل الاتجاه الرئيس لعالم السياسة. ومع أن هذا الاتجاه لا يرفض تماما الاقترابات التقليدية السابقة حيث يرى أن عالم السياسة السلوكي يمكن أن يستخدم المعلومات التاريخية عند الحاجة، ويبقى مهتما بالجوانب القانونية للنظم السياسية ولا يزال يعي أهمية المؤسسات إلا أن اهتمامه الرئيس هو السلوك. فالتاريخ بعد كل شيء ليس إلا سلوكا إنسانيا، كما أن الناس هم الذين يصنعون القوانين ويتبعونها وحتى يتجاوزونها، وأخيرا والأكثر أهمية فإن المؤسسات ليست سوى توليفة من الأنماط السلوكية.

ومع ذلك، فإن هناك وجهتي نظر متباينة بين علماء السياسة بشكل عام حول مدى أهمية سلوك كل من الأفراد والجماعات. فهناك أولا أولئك الذين يبدو أنهم يمثلون معظم التوجه السلوكي والذين يرون أن الجماعات لا تعني شيئا أكثر من مجموع أعضائها الأفراد، أي أنه ليس هناك خصائص بارزة للجماعة لا يمكن أن تنطبق على أفرادها. أما علماء السياسة الآخرون فيؤكدون بأن هناك سمات خاصة بالجماعة لا يمكن أن تنطبق على أفرادها ومن ثم فإن الجماعات هي أكثر من مجرد مجموع أفرادها. ويمثل هذا التوجه تقليدا مهما في التحليل التاريخي والاجتماعي كما كان له تأثير على عدد من علماء السياسة. وكما يبدو فإن معظم السلوكيين يتبنون الموقف الفردي الذي يؤكد على أهمية السلوك الفردي واعتباره اللبنة الأساسية في بناء علم السياسة، ولذا يبدو أن هناك تلازما بين السلوكية والفردية.

أما الاتجاه الثاني في السلوكية، والذي وإن كان وثيق الصلة بالأول إلا أنه مع ذلك حظي بدرجة من الأهمية استحق معها اعتبارا خاصا، فقد هدف إلى تحويل الدراسات السياسية إلى علم قابل  للتحقق من خلال تشجيع طلاب السياسة على توظيف المنهجية العلمية الطبيعية واعتبار السلوكية مرادفا للطريقة العلمية للسياسة. حيث كان هناك اقتناع صريح بدرجة أو بأخرى بالمنهجية العلمية التجريبية التي يمكن أن تتدرج من فكرة ضيقة للعلم ( بمعنى أي شيء نسقي وتجريبي) وصولا إلى مجموعة متكاملة من الافتراضات والمبادئ العلمية. وطبقا لهذا الاتجاه أضحت السلوكية شعارا للحركة العلمية في علم السياسة التي تتلخص أهدافها في تطوير تعميمات تجريبية ونظرية نسقية واستخدام كل ذلك في تفسير الظاهرة السياسية.

   كذلك أمل هذا الاتجاه إلى التوصل إلى إلغاء الحواجز التي تفصل العلوم الاجتماعية عن بعضها انطلاقا من القاعدة المنهجية التي يطلقون عليها "وحدة العلوم الاجتماعية" والتي تعني ببساطة أن العلوم الاجتماعية جميعها تدرس الشيء نفسه- سلوك الأفراد أو مجموعة من الأفراد. فبرغم أن علماء السياسة يدرسون ما يسمونه السلوك السياسي، والاقتصاديون يدرسون السلوك الاقتصادي، وعلماء النفس السلوك النفسي - وهذه هي القاعدة التي بنيت عليها الحدود الفاصلة بين الحقول الاجتماعية- إلا أن الملاحظات الأساسية لأي علم اجتماعي هي نفسها. ولذلك فإن العلوم الاجتماعية بالنسبة لأنصار هذا الاتجاه موحدة بالنظر إلى اهتمامها المشترك بالسلوك، فضلا عن أنها متحدة في الأسس المنهجية – فكل العلوم اجتماعية أو طبيعية- تفترض نفس الافتراضات وتتتبع نفس المبادئ. ولهذه الوحدة نتائج هامة بالنسبة لعالم السياسة السلوكي لأنها تتيح له وبشكل مشروع استخدام المعلومات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وغيرها في محاولته شرح وتفسير الظاهرة السياسية.

    أما على المستوى الفلسفي فقد تبنت السلوكية عددا من الافتراضات النقدية فيما يتعلق بطبيعة العلم. فقد رفضت الزعم الذي أثاره عدد كبير من النقاد بأن العلوم الاجتماعية فريدة في متطلباتها المنهجية وأنها تتضمن أدوات ومهارات معرفية وإجراءات عملية مختلفة عن تلك السائدة في العلوم الطبيعية. وأصر السلوكيون على أن هناك طريقا واحدا فقط للعلم وان الحديث عن وضع خاص فيما يتعلق بعلم السلوك الإنساني يعني في الواقع تجاهل مكانته العلمية.  

فالحقيقة ، كما تزعم السلوكية،  يمكن إدراكها فقط من خلال خصوصيتها أي في مظاهرها الفعلية المحددة ولذلك فهي تحصر ما يمكن أن يمثل معرفة في العبارات الاستقرائية، الكمية، القابلة للتحقق، والمحددة، بينما ترفض كل العبارات التي تستند على أسس أخرى باعتبارها لا تستند على أدلة أو ذاتية أو حتى عديمة المعنى. وأكثر تلك العبارات رفضا من قبل التوجه السلوكي تلك التي تدعي استنادها على الحكمة أو الاستبصار أو الحدس.  ولذا تصر السلوكية على أن الروحانيات والأساطير والغيبيات التي ترفض أن تحول نفسها إلى تجارب راسخة وتصر على أنها أكثر من مجموع عناصرها المكونة وترفض الخضوع للمجال العلمي الصارم إنما تبقي نفسها خارج إطار الخطاب العلمي القابل للتحقق.

    وتؤكد الاقترابات السلوكية على أهمية التحليل الإمبريقي بل إن عددا من علماء السياسة يؤكدون أن السلوكية في الواقع مرادفة إلى حد كبير للأمبريقية. ومع أن الاتجاه التقليدي لعلم السياسة كان امبريقيا فيما يتعلق بوصف الظاهرة السياسية محل الدراسة إلا أن السلوكيين أكثر هوسا في التفاصيل وأكثر صرامة في إمبريقيتهم ولذا فهم يفضلون في الغالب استخدام نماذج التحليل الإحصائية والحسابية والاقتصادية لأنها تسمح بقدر من التحليل الإمبريقي الدقيق للظاهرة السياسية. ونظرا لتركيزها على التجريبية فإن السلوكية تميل إلى رفض التحليل التاريخي لأنها ترى من غير المنطقي البحث في الماضي عن (تفسيرات ورؤى  وأفكار حول شئون السياسة) عندما تكون الملاحظة الطريق الأكثر اعتمادا للوصول إلى المعرفة. كذلك يتناقض التوجه السلوكي تجاه تحليل ما هو (ملاحظ) مع التوجه الذي يهتم بما ينبغي أن يكون. بل أن أحد السمات الرئيسة للسلوكية يتمثل في رفضها للمسائل المعيارية (القيمية) المرتبطة بالتوجه التقليدي لعلم السياسة.

وقد لخص أحد المنتمين لهذا التوجه وهو ديفيد آيستن النموذج السلوكي في ثماني خصائص رئيسة هي:

1- الانتظام (Regularities). حيث هناك تماثل يمكن اكتشافه في السلوك السياسي. ويمكن التعبير عن هذه الانتظامية من خلال تعميمات أو نظريات ذات قيمة تفسيرية وتنبؤية.

2-التحقق أو التأكد(Verification). فلا بد أن تكون صدقية تلك التعميمات قابلة للاختبار.

3- طرائق البحث (Techniques). لا يمكن التسليم تماما بوسائل جمع وتفسير المعلومات إذ أنها لا تخلو من مشاكل وتحتاج إلى فحصها بدقة وتنقيتها حتى يمكننا إيجاد وسائل صارمة لملاحظة وتسجيل وتحليل السلوك.    

4- القياس الكمي(Quantification). تتطلب الدقة في تسجيل البيانات وإعلان النتائج قياسا وتقديرا كميا ليس من أجل القياس لذاته وإنما فقط عندما يكون ممكنا وذا صلة ومعنى على ضوء الأهداف الأخرى.

5- القيم (Values). يتضمن التقويم الأخلاقي والتفسير التجريبي نوعين مختلفين من الافتراضات ولذا ينبغي التمييز بينهما في التحليل من أجل الوضوح. ومع ذلك ليس محظورا على دارس السلوك السياسي التأكيد على افتراضات أي منهما منعزلة أو مجتمعة طالما يمكنه تمييز كل منهما عن الآخر.

6- التناسق والتراتبية(Systematization). ينبغي أن يكون البحث متناسقا أي أنه يجب أن تبدو النظرية والبحث كأجزاء مترابطة لكيان معرفي متماسك ومنتظم. فالبحث الذي لا يسترشد بنظرية يمكن أن يكون تافها وكذلك النظرية التي لا تدعمها معلومات.

7-العلم الصرف(Pure Science). أن تطبيق المعرفة يمثل جزءا من الفهم النظري بنفس القدر الذي نجده في المؤسسة العلمية. إلا أن فهم وتفسير السلوك السياسي منطقيا يسبق ويقدم الأسس لجهود توظيف المعرفة السياسية لحل المشاكل العملية الملحة في المجتمع.

8- التكامل(Integration). نظرا لأن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الحالة الإنسانية بكاملها فإن تجاهل البحث السياسي لنتائج الحقول الأخرى يمكن أن يضعف مصداقيته ويقوض تعميم نتائجه. وعليه فإن تسابق العلوم الاجتماعية نحو تأكيد استقلالها يمكن أن يؤدي إلى تقويض دعائم العلم نفسه.

3. النقد الموجه للمدرسة السلوكية

النقد الموجه للسلوكية في السياسة المقارنة

3 ـــ نقد السلوكية

  لقد تحقق تنبؤ روبرت دال في جزء منه بالفعل حيث تحولت السلوكية إلى توجه رئيس – بل إن البعض أصر على أنها التوجه الرئيس- في علم السياسة. إلا أن توقعه بأنها ستصبح النموذج المهيمن غير المنازع لم يتحقق بعد ولا يبدو أنه سيتحقق، إذ إنه وبعد فترة ليست طويلة من توقعات روبرت دال تلك بدأ هذا التوجه يواجه منعطفا حادا نحو الأسوأ وأصبح موضوعا لانتقادات لاذعة وحادة فاقت حدتها وكثرتها تلك الموجهة لأي اقتراب آخر. ولم تقتصر الانتقادات على النقد المعتاد للمنهجية الجديدة بل أنها كانت في جزء منها ذات بعد سياسي خاصة وأن البيئة التي برزت فيها تلك الانتقادات في الولايات المتحدة كانت مشحونة بأحداث حاسمة مثل الثورة الطلابية، ومعارضة التورط الأمريكي في فيتنام، واحتجاجات السود في الستينات. وقد تغلغلت الخلافات الفكرية لتلك الفترة المضطربة عميقا في حقل السياسة وخلقت مجموعة من الأولويات البحثية والقيمية التي كان من الصعب توافقها مع النموذج السلوكي وتركت بصمة واضحة على جيل من العلماء الذين يشكلون اليوم العمود الفقري لحقل علم السياسة في الولايات المتحدة.

    ومن أبرز الانتقادات التي وجهت للمنظور السلوكي لعلم السياسة تلك التي تضمنتها مقالة كريستيان باي Christian Bay المعنونة "السياسة والسياسة الزائفة" "Politics and Pseudo Politics". وتركز محور الانتقاد الرئيس في دراسة باي تلك في أن السلوكية كانت تطرح الأسئلة الخطأ أو أنها ربما كانت تسأل بعض الأسئلة المشروعة لكنها تجاهلت الأسئلة الأكثر أهمية، لأن السلوكيين، كما يزعم، أرادوا التوصل إلى الصرامة العلمية على حساب استثناء معظم جسد وروح السياسة. فروبرت دال مثلا تحدث عن السياسة على أنها " أنماط العلاقات الإنسانية التي تتضمن بشكل كبير القوة والسلطة" وهذا لا غبار عليه، كما يقول باي، لكن السلوكية فشلت فيما لم تستطع استيعابه وهو غاية النشاط السياسي، فلا ينبغي أن تقتصر السياسة على القوة والسلطة بل ينبغي أن تهتم ببعض جوانب الرفاه الإنساني أو الصالح العام.

كذلك لم تقتصر حدود البحث السلوكي على السلوك الملاحظ فقط- متجاهلا بذلك الأهداف الأخلاقية ووجهات النظر الإنسانية التي تثري الحياة السياسية- بل إنها افتقرت أيضا للمعايير التي تحكم البحث الإمبريقي نفسه. فعندما نستثني المواصفات غير القابلة للتجربة التي توجه النشاط السياسي تجاه أهداف إنسانية فكيف يمكننا إذن الحكم بأن بحثنا يعالج مواضيع هامة أم هامشية؟ ولذلك تساءل باي ، بتهكم، "السنا نتنازل عن كل الأهمية السياسية لعملنا إذا رفضنا دراسة مجال الاهتمامات المعيارية وركزنا حصرا على ما يحدث بالفعل ضمن إطار علاقات القوة؟".

    وبينما يعتبر السلوكيون ماهرين في التعامل مع مسائل السياسة بمعايير التكلفة، والاقتصاد، والبدائل وغيرها، إلا أنهم يرفضون تحدي تقييم الأهداف التي توجه تلك المعايير لتحقيقها، ولذلك فهم مهتمون بالعقلانية الشكلية للوسائل بينما يرفضون مواجهة العقلانية الأساسية للغايات. أنهم يرفضون باستمرار، كما يزعم باي، "كمبدأ منهجي التفكير مليا في الاختيارات والقيم السياسية التي تشكل جوهر ما يدرسون ويفضلون بدلا من ذلك التركيز على ما هو حاضر ، فوري، وفي متناول اليد". ومع ذلك، فإن تجاهل التوجه السلوكي للتحليل المعياري لم يمنع استغلال أعماله لأغراض معيارية. فقد تم توظيف الأعمال البحثية لهذا التوجه خلال الستينات، كما يقول باي، "لتبرير الأهداف غير العقلانية للتعصب الأعمى في السياسة الداخلية [الأمريكية] أو الشوفينية المتطرفة وجنون العظمة والمقامرة بفرصنا للبقاء في السياسة الخارجية". ونظرا لأن أبحاثهم كانت تتم في ظل فراغ قيمي فإن قيم الآخرين – وعادة ما تكون القيم المهيمنة في المجتمع- ستسرع لملء ذلك الفراغ. والنتيجة، كما يؤكد باي، "لن تؤدي إلى علم سياسة محايد وإنما علم سياسة غير مكترث بالتفضيلات القيمية التي تحدد أنشطته".

   وأتهم باي التوجه السلوكي "بالنفاق" عندما يدّعي أنصاره الحياد القيمي الصارم في نفس الوقت الذي يبدون فيه التزاما بارزا بالقيم الليبرالية- التعددية- الفردية- الديموقراطية وخاصة تلك السائدة في الدول الأنجلو أمريكية، وعندما ينظرون لأنفسهم كأبطال للديموقراطية الليبرالية ويكتبون بإيجابية عن الديموقراطية باعتبارها أكثر الترتيبات السياسية إقناعا. إي أنهم يسمحون لأنفسهم، كما يقول باي، بطرح أحكام قيمية ولكن فقط عندما تكون غامضة أو غير محددة. إنهم يؤكدون على الديموقراطية الليبرالية بكل الوسائل الممكنة لكنهم يخفقون في الإفصاح عن أو تبرير المبادئ القيمية التي تستند عليها. وختم باي مقالته بالدعوة إلى علم سياسة إنساني يضع وبدون استحياء هدف تحقيق الاحتياجات الإنسانية في قلب اهتماماته.

   كذلك اتهم التوجه السلوكي من قبل آخرين بأنه يميل إلى تبرير حالة اللا مساواة الصارخة في المجتمع الأمريكي من خلال التأكيد على مساهمة تلك الحالة في تعزيز الديموقراطية والاستقرار السياسي. فقد خلصت عدة دراسات سلوكية ومن بينها دراسة ديفيد ريكي إلى أن الأغنياء أكثر ميلا للمشاركة في السياسة ودعم القيم الديموقراطية من الطبقات الفقيرة في المجتمع. وبالمقابل أظهرت تلك الدراسات أن للفقراء والأقل تعليما والأقل اطلاعا ميولا أكبر نحو التسلطية وغير مبالين بالديموقراطية. وبناء على نتائج تلك الدراسات توصل عدد من السلوكيين إلى خلاصة لافتة: فنظرا لأن النخب أكثر ميلا لدعم القيم الديموقراطية فإن القوة غير العادية التي يستحوذون عليها يمكن تبريرها بل تحبيذها. كما لا يخفي أولئك سرورهم لأن الفقراء وهم الأقل احتمالا لدعم العملية الديموقراطية هم أيضا الأقل احتمالا للانخراط فيها.  

   أما ليو شتراوس (1962) Leo Strauss فقد مهد لانتقاداته للتوجه السلوكي بالتمييز بين ما سماه "علم السياسة القديم" - الذي يغطي فترة تمتد إلى الوراء حتى الفلسفة الإغريقية وقدم، بنظره، للتراث الفكري الغربي إضافات هامة في المجال السياسي من خلال إسهامات عدد من المفكرين البارزين- و"علم السياسة الجديد" الذي مثله التوجه السلوكي. وبناء على ذلك يؤكد "أن علم السياسة القديم قد عالج الخاصية الأساسية لكل المواقف السياسية وبالتالي فليس هناك سبب مقنع لتجاوز ذلك من قبل علم السياسة الجديد". فشتراوس كان يرى بوضوح أن علم السياسة السلوكي الجديد يعتبر أقل شأنا وأهمية من علم السياسة القديم. وقد تركز نقد شتراوس بشكل رئيس على المزاعم المنهجية للتوجه السلوكي وخاصة افتراضهم وجود "الملاحظ المحايد" الذي ينظر للإنسان، بزعمه، "كنظرة المهندس للمواد اللازمة لبناء الجسور". وهذا الموقف يمنع علماء السياسة حتى من مجرد التفكير في أهمية الصالح العام أو الفضيلة أو القيم التي تسهم في توفير حياة عامة جيدة.

كذلك يؤكد شتراوس أن محاولة الفصل بين الحقيقة والقيمة في التوجه السلوكي والاعتماد على الأولى وتجاهل الثانية هي التي أدت إلى نشوء النسبية التي تمثل تهديدا للديموقراطية الصحيحة. "فمن خلال تأكيد مساواة كل القيم، وتجاهل حقيقة أن هناك أشياء ذات قيمة عليا وأخرى أقل قيمة فضلا عن تجاهل حقيقة أن هناك فرقا جوهريا بين الناس والبهائم، فإن علم السياسة الجديد يسهم بدون قصد في انتصار القذارة". ومع ذلك لاحظ  شتراوس أنه وبرغم ادعاء علماء السياسة الجدد بأن تحليلاتهم كانت موضوعية ومحايدة قيميا إلا أن عملهم كان منحازا بشكل صارخ لافتراضات وقيم الديموقراطية الليبرالية. فضلا عن أن مناهج السلوكيين قد قيدت ممارسيها بالزمان والمكان الذي يعيشون ويقومون بأبحاثهم فيه. ومن ثم أكد أنه لا يستطيع تصور قدرة علم السياسة السلوكي الممارس في الولايات المتحدة على أن يضع وبشكل مشروع مزاعم لها طابع العمومية والعالمية في نتائجها أو مفاهيمها. ولا يزال أنصار شتراوس يؤكدون أن علم السياسة القديم يعطينا استبصارا عن حقائق السياسة أكثر مما نجده في الدراسات المسحية المعتمدة على الأطر الإحصائية فضلا عن استمرارهم في التأكيد على الأهمية الحاسمة للقيم في التحليل السياسي.  

   وتعتبر دراسة ديفيد ريكي  واحدة من أهم المعالجات النقدية لعلم السياسة السلوكي. فقد تتبع ريكي تطور علم السياسة كحقل معرفي في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر وصولا إلى ثمانينات القرن العشرين الماضي وتركز معظم تحليله على القوة التنظيمية في أوساط الحقل التي يعتقد بأنها انحرفت بمسار دراسة السياسة بعيدا عن الارتباط بالأحداث الحقيقية. وأشار إلى أن عددا من الناشطين المحترفين من ذوي الاختصاصات المتداخلة قد دعموا التوجه "الوصفي الأمبريقي" للمدرسة السلوكية. حيث طور أولئك المهتمين بقولبة هوية الحقل وإفراغه من مضمونه والباحثين عن الزعامة كادرا من الزملاء والأتباع الذين سيطروا على التعيينات في الجامعات الرائدة وعملوا "كحرس للبوابة" من خلال تحكمهم في فرص النشر في المجلات الرئيسة للتخصص.

وأنتقد ريكي بوجه خاص اللغة الاصطلاحية- التي أورد نماذج منها- التي أشاعتها تلك المحاولات الاحترافية في حقل السياسة. وأكد أنه يتم غالبا تبرير صياغة واستخدام تلك المفردات المعقدة في الحقل على أنها ضرورة للدقة في النقاش برغم أن الحقائق السياسية كانت بعيدة عن التعريف الدقيق. وخلص ريكي إلى القول بأن اللجوء إلى اللغة الاصطلاحية لم تجعل قراءة عدد من المقالات الأكاديمية مستحيلا فقط بل أنها أسهمت أيضا في تعزيز مواقع العلماء المتنفذين واستبعاد أولئك الذين لم يستطيعوا فهم ما تعنيه تلك المصطلحات. ويرجع ريكي السبب في ذلك إلى أن "الأفراد يميلون للتخصص وبناء سمعتهم الاحترافية ، جزئيا على الأقل، على أساس التظاهر بالتمكن من شيء لا يستطع غيرهم الإلمام به بنجاح"، ويبدو واضحا أن استخدام التوجه السلوكي لغة مفرطة في تعقيدها ورطانتها قد أثر سلبا على علم السياسة.

   كذلك انتقد ريكي علماء السياسة ذوي التوجه السلوكي لإخفاقهم في اكتشاف أو صياغة "قوانين" للسلوك السياسي، وأكد أنهم لم ينتجوا أي شيء يقترب من التفسيرات العالمية للسلوك السياسي الذي يسمح بأي تنبؤ موثوق. وفي محاولة للتعتيم على ذلك الإخفاق لجأ السلوكيون، كما يؤكد ريكي، إلى وسائل مختلفة للمراوغة لتجنب مواجهة تبعات تقصيرهم في هذا المجال من بينها الزعم بأنه لم يتم جمع معلومات كافية لجعل التوقع ممكنا. أما الوسيلة الأخرى فتمثلت في الزعم بأن المعرفة تتقدم بخطوات تراكمية صغيرة وأن التعميمات القابلة للاستخدام ستظهر في نهاية الأمر. وهذا ما يفسر اختتام الأبحاث السلوكية، غالبا، بعبارات تشير إلى أن نتائجها مبدئية أو أنها مجرد دلالات للطريق تجاه مجالات بحثية مستقبلية.

ولذلك يملكن النظر إلى الثورة السلوكية من خلال عيون توماس كوهن بطريقين مختلفين جداً. فالسلوكية كانت في المقام الأول محاولة نشطة من قبل الكادر الشاب والطموح من العلماء لإحكام القبضة حول نموذج معرفي معين وتحويله إلى تقليد ملزم لعلم السياسة. فالسلوكية - من منظور توماس كون - لا تمثل تقدماً على نماذج معرفية سابقة بقدر ما تمثل نقطة حشد مهمة لإعادة تنظيم الحقل. ومع ذلك فإنها في حماستها التنظيمية قد خلقت الشروط للاستقرار والتقدم. وفي هذا السياق فإن نجاح السلوكيين في إزاحة الاقتراب القانوني المؤسسي الأقدم وأمانيهم ورغبتهم في فرض المنهجية التجريبية الجديدة، وسيطرتهم التدريجية على مؤسسات الحقل وإصداراته (وكثيراً منها أوضحت في مقالة روبرت دال "الاقتراب السلوكي في علم السياسة"  (The Behavioral Approach in Political Science) كل ذلك يتبع نموذج كون للثورة العلمية بشكل دقيق. وحالما يستبدل النموذج المعرفي الصاعد حديثاً تقليد ما قبل السلوكية بنظام صلب، قسري، وعالمي من الافتراضات، والمنهجية والأهداف(وهو ما لم يحدث بعد) فإنه يحقق وعده في فرض النظام والترتيب الذي يمثل شرطاً ضرورياً لمؤسسة علمية مزدهرة.

ولكن من منظور آخر لكوهن، فإن الموقف السلوكي لا يستطيع أن يصمد أمام التحليل الدقيق. فعلى سبيل المثال لم يكن ممكنا الدفاع عن الاعتقاد بأن التجريبية وفرت مساراً داخلياً للحقيقة. فالحقيقة يمكن الوصول إليها فقط من خلال إطارات تحليلية محددة، ولرؤيتها مطلقاً يتطلب اختيار منظور محدد يستطيع الباحث من خلاله أن يضع ملاحظاته. وبالطبع فإن ما يراه أحدنا يعتمد على أين يقف. إن الفكرة "التي تزعمها السلوكيون المتشددون" القائلة بأن علماء السياسة يستطيعون تجاوز الإطار الفكري الذي كانوا جزءاً منه، وملاحظة "المعلومات الأولية" التي يواجهونها بنزاهة والتوصل إلى نتائج علمية غير متأثرة بالتوقعات، والافتراضات، والمصالح المفروضة من قبل النموذج المعرفي المهيمن قد تلقت ضربة قاسية من قبل رؤية توماس كون للنشاط العلمي.

    وللمفارقة فقد كان هذا هو المصير المحتوم الذي فاجأ السلوكية فالنموذج المعرفي السلوكي لم يكن بالطبع قابلاً للدحض ولا يزال في الوقت الحاضر يستأثر بقطاع كبير من التابعين المتحمسين، إلا أن الآثار المتراكمة لحرب فيتنام، وثورة السود، والثورة الطلابية، خلال ستينات القرن العشرين المنصرم، ومجموعة عوامل اجتماعية وتاريخية أخرى برزت في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها جعلته منعزلاً اجتماعياً. كما أن طبيعته غير الملتزمة ايديولوجياً جعلته غير مرغوب لدى جيل جديد من العلماء يرى أن علم السياسة يتطلب شخصية أكثر إنسانية والتزاما مما كان متوافراً في التوجه السلوكي. ولذا فقد تم تحدي السلوكية ليس فقط بسبب إخفاقات معينة تسببت فيها وإنما لأن وجهة نظر أخرى أكثر جاذبية لما ينبغي أن يكون عليه البحث السياسي قد ناضلت ضد هيمنتها.

لقد تم تتبع انتقادات محددة ذات قوة كبيرة أظهرت نقاط الضعف في التوجه السلوكي – وهي نقاط اضطر حتى السلوكيون للاعتراف بها. فقد انتقد كل من  Bachrach and Baratz في مقالتهما العنونة "وجها القوة" Two Faces of Power التوجه السلوكي بشدة متهمينه  بعدم الكفاءة لتركيزه حصراً على السلوك السياسي العلني. ولا زال المخلصون لنموذج توماس كون يميلون للنظر إلى هذه المزاعم على أنها ذكية ومقنعة مع أنها لم تكن السبب المباشر للانسحاب من السلوكية بقدر ما كانت المزاعم الواضحة والمبررة التي قدمها المتحررون من الوهم السلوكي لتبرير تخليهم عن توجه لم يعد يحمل أي اهتمام أخلاقي أو فكري بالنسبة لهم.

    وبرغم حدة وقسوة الانتقادات التي وجهت لعلم السياسة خلال العقدين الماضيين وتسببها في إثارة قدر كبير من الجدل في أروقة الحقل إلا أنها مع ذلك قد أثمرت بعض التغييرات المحبذة ومنها الاعتراف بحالة التشتت التي آل إليها الحقل وضرورة إعادة النظر في كثير من مسلمات علم السياسة السلوكي.

4. المشاكل التي تواجه السياسة المقارنة

مشاكل السياسة المقارنة

3 ــــ المشاكل التي تواجه السياسة المقارنة بشكل عام

يواجه السياسة المقارنة عددا من المشكلات ومن أبرزها:

- عدم دقة المصطلحات.

- مشكلة تحديد المتغيرات أو العناصر الأولى بالبحث المقارن:

أ- الموند وبأول: البنية والثقافة السياسية، التعبير عن المصالح تجميع المصالح، الأبنية والوظائف الحكومية الاتصال، قدرات النظام، أنماط السياسة، والتنمية السياسية.

ب- روي مكر يدس: صنع القرار، القوة، الأيديولوجية.

ج- بلو ندل: الأبنية، السلوك، القانون.

د- ميركل: التنشئة والمشاركة والتجنيد السياسي، الثقافات السياسية، المركز والحواف.

هـ- كيرتس: المجتمع والدولة، تصنيف النظم السياسية، التمثيل والتصويت.

و- ايكشتين وابتر: الحكم التمثيلي والدستوري، النظم الانتخابية، جماعات الضغط، الأحزاب.

د- استخدام أحد المناهج (منهج النظم، أو المنهج البنائي الوظيفي أو منهج الاتصال أو منهج الصفوة، أو التحليل الطبقي أو التحليل النفسي)

3 ــــ مشكلة تحديد وحدة المقارنة، فالبعض يرى أن النظام السياسي ككل أكثر الوحدات السياسية ملائمة للتحليل المقارن، وهناك من يركز على الحكومة ويرها الآخرون في الدولة.

         4  ــــ  كيفية معالجة الظاهرة السياسية: هنا يمكن أن تخضع الظواهر السياسية للبحث المقارن بوصفها      غايات، أي نتيجة عوامل يندر أن تكون من طبيعة سياسية.                      

5 ــــــ بناء المؤشرات: لقد مر بنا أنه قلما يتفق الدارسون على مجموعة مؤشرات تدل بوضوح ودقة على الظاهرة السياسية قيد البحث المقارن ونضيف أن المؤشرات الخاصة بمتغير أو ظاهرة ما ربما كانت دالة بالنسبة لمجتمع وغير ذلك بالنسبة لمجتمع آخر.

6 ـــــــ مدى وفرة المعلومات، فأحيانا قد لا يجد الباحث الحقائق أو المعلومات التي تسمح له بالمقارنة.