2. المشهد الإعلامي في ظل التعددية السياسية
أسفر قانون الإعلام الجديد عن تحولات عميقة في الخريطة الإعلامية انعكست بالإيجاب على قطاع الإعلام المكتوب خاصة، فظهرت الصحافة المستقلة كمميز للتجربة الديمقراطية في الجزائر لما تلعبه من دور إعلامي بل وحتى ادوار سياسية في العملية السياسية من تكوين وبلورة الرأي العام والمشاركة في صنع القرار السياسي، على أساس أن المجتمعات الديمقراطية هي تلك المجتمعات المؤمنة بحرية الصحافة واستقلالها.وتمثلت في:
الصحافة العمومية: وهي التابعة للقطاع العام وتعمل تحت وصاية الدولة، وهي الموروثة عن النظام السابق وازدهرت أكثر بفعل العامل التاريخي والمالي.
الصحافة المستقلة: وهي التي ظهرت كنتيجة لقانون الإعلام الجديد، وسميت كذلك لأنها قانونيا وظاهريا لا تمارس نضالا أو تحيزا لأي حزب أو نزعة سياسية معينة وهي مستقلة عن الدولة، وقد ظهرت بشكل كبير وملفت للانتباه.
الصحافة الحزبية: وهي ما تعرف بصحف الرأي أو الصحف الملتزمة، مهمتها الدفاع عن خط حزب معين، ويتمثل شاطها في تزويد جمهور القراء بكل ما يتعلق ببرامج ومشاريع ذلك حزب. و مادامت السياسة الإعلامية كغيرها من السياسات العامة تتأثر بمحيطها، فإنه وتماشيا والوضع العام الذي عرفته الجزائر منذ تبني التعددية السياسية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين رئيسيتين وهما:
أولا:المرحلة الأولى 1990-2011
استنادا إلى معيار الممارسة يمكن تقسيمها هي الأخرى إلى ثلاث فترات وهي:
1- فترة العصر الذهبي 1990-1991
أدى إقرار التعددية الإعلامية إلى تحولات عميقة في الخريطة الإعلامية حيث عرفت قفزة نوعية من حيث الكم والكيف وتجسد ميدانيا مبدأ التعددية الإعلامية خاصة في قطاع الصحافة المكتوبة التي بلغت أوجها في هذه الفترة، وهو ما عكسه عدد الصحف اليومية والأسبوعية المتداولة آنذاك،حيث ارتفع العدد من 49 عنوانا سنة 1988 إلى 74 عنوانا سنة 1991، بسحب إجمالي قدر بـ 1437000 نسخة في اليوم، .
بالموازاة مع ذلك عرفت الصحافة الحزبية ازدهارا كبيرا بحيث أصبح لكل حزب بالتقريب صحيفة ناطقة باسمه، نذكر على سبيل المثال المنقذ الناطقة باسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتي قدر متوسط سحبها بحوالي 500 ألف نسخة أسبوعيا، إضافة إلى الفرقان والنور والإرشاد التي بلغ سحبها حوالي 230 ألف نسخة أسبوعيا17،غير أنها سرعان ما راحت تختفي تدريجيا بسبب عدد من المشاكل تأتي في مقدمتها قلة الخبرة المهنية وقلة مصادر التمويل إضافة إلى عدم قدرتها على تكييف توجهاتها وخطاباتها مع المجتمع.
إلى جانب الكم الهائل من الصحف الذي ميز الساحة الإعلامية في هذه الفترة، ظهرت العديد من الهياكل الممثلة للصحفيين كاتحاد الصحفيين والمترجمين UJET، وحركة الصحفيين الجزائريين MJA، وجمعية الصحفيين الجزائريين AJA.
هذا الانفجار الإعلامي الحر، حوالي 140 عنوانا عموميا، خاصا وحزبيا والذي لم يسبق له مثيل في العالم العربي وربما الإسلامي لم يعمر طويلا وهذا بسبب مشاكل مهنية عدة مرتبطة بارتفاع تكاليف السحب ومشاكل الطباعة والإشهار والتوزيع وعدم كفاية دعم الدولة للحق في الإعلام فيما يخص التوزيع، والتمييز المفرط بين الصحف في التعامل الإعلامي مما ساعد على ارتباط بعض مديري الصحافة الخاصة بالمال ومراكز القرار.
قطاع السمعي البصري وعلى الرغم من احتكار الدولة له إلا أن ذلك لم يمنعه من مواكبة مرحلة التحول الديمقراطي، فالتلفزة الوطنية انفتحت أكثر على الوضع الجزائري وعلى الأحزاب والفعاليات النقابية وساهمت من خلال برامجها في تكريس التعددية الإعلامية، فقد اتسمت برامجها مع بداية الانفتاح السياسي بالصبغة الديمقراطية في الطرح والمعالجة تماشيا والوضع السائد وهامش الحرية الممنوح، وشهدت تلك الفترة برامج حوارية رائدة سبقت في سخونتها وجرأتها البرامج الحوارية التي تبثها الفضائيات العربية اليوم، هذه البرامج تمثلت في حصص سياسية واجتماعية وثقافية كان أغلبها يبث بشكل مباشر من الأستوديو، وقد لقيت شهرة كبيرة في أوساط الجمهور لاسيما السياسية منها، نذكر منها لقاء الصحافة، حصة الحدث، حصة حوار، وهي التي قيل عنها أنها أكثر مصداقية للرسالة الإعلامية جاءت لتكسر الحواجز وتفتح الحوار المباشر مع الجمهور والخروج من النمطية التي كرستها الممارسات الإعلامية في فترات سابقة، وإن عرفت تراجعا مع الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد إلا أنها سرعان ما كانت تعود إلى الانفتاح خلال المواعيد السياسية ببرامج حوارية ساخنة، لكنها لا تلبث أن تتوقف بمجرد انتهاء الموعد السياسي حيث تعود لتعبر عن وجهة نظر النظام. و بالمثل عرفت الإذاعة الوطنية انفتاحا على المجتمع حيث أنها هي الأخرى انتعشت بعد إقرار التعددية واستطاعت أن ترتقي بالممارسة الإعلامية خاصة وأنها كانت تتلقى الدعم الحكومي دائما.
مرحلة الازدهار هذه لن تعمر طويلا وذلك بفعل التدهور الأمني في البلاد والذي أدى إلى إعلان حالة الطوارئ في فبراير 1992، وفي هذا الشأن يقول الأستاذ إبراهيم براهيمي: "إن صدور قانون حالة الطوارئ 1992 بسبب التدهور الأمني جعل من الصعوبة بمكان الحديث عن الاحتكام للتشريعات المنظمة لقطاع الإعلام بأطيافه الثلاثة المكتوبة والسمعي والمرئي".
2.مرحلة التقهقر 1992-1998
عرفت بداية هذه الفترة استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في 11 جانفي 1992وإلغاء الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التعددية ومجيء المجلس الأعلى للدولة في 14 جانفي 1992 وإعلان حالة الطوارئ في 9 فبراير 1992 فاغتيال الرئيس محمد بوضياف في 29 جوان 1992، كل هذه المستجدات انعكست سلبا على قطاع الإعلام، حيث بدا واضحا هيمنة السلطة السياسية على الصحافة خاصة المكتوبة بحجة استرجاع هبة الدولة وذلك عن طريق اقتحام عناصر الأمن لمقرات الصحف واعتقال الصحفيين وتوقيف الصحف عن الصدور بقرار من وزارة الداخلية. وجاء إلغاء المجلس الأعلى للإعلام بمقتضى المرسوم رقم 93-13 المؤرخ في 26 أكتوبر 1993 ليزيد من تعقد الوضع، وهو الإلغاء الذي اعتبره البعض بمثابة إلغاء لقانون الإعلام في حد ذاته وذلك بالنظر إلى المهام والمسؤوليات الموكلة له، وبذا يكون قد دشن لفترة التراجع والتقهقر خاصة مع صدور القرار الوزاري المشترك بين وزارة الداخلية والاتصال المؤرخ في 7 جوان 1994 والمتعلق بالإعلام الأمني والرقابة المسبقة في المطابع الأربعة التي تمتلكها الدولة و الذي رسم الخطوط الحمراء للممارسة الإعلامية، ومن جملة ما نص عليه القرار التزام الصحف ووسائل الإعلام بعدم نشر أي أنباء أو معلومات عن العنف السياسي وعن النشاط الأمني والعمليات العسكرية وإذاعتها إلا من خلال البيانات الرسمية التي تذيعها وزارة الداخلية باعتبارها المصدر الوحيد المأذون له، إضافة إلى ضرورة التزام الصحافيين والناشرين والصحف بالتوصيات المحددة .
عملا بهذا المنشور أصبحت عملية رقابة ومصادرة الصحف شبه تلقائية وهذا بمجرد التعرض بالنقد لسياسة الدولة أو مناقشة مواضيع لا تتماشى وما أصبح يطلق عليه بالإعلام الأمني، وتعززت عملية الرقابة هذه بدءا من 11 فبراير 1996 بوضع لجان قراءة على مستوى المطابع تتولى مراقبة مضمون الصحف قبل نشرها، يضاف إلى ذلك احتكار الدولة لوسائل الطباعة والإشهار، وهو الاحتكار الذي يسمح لها بممارسة الرقابة على مضمون الصحف وتوقيف إصدارها لأسباب اقتصادية. كل هذه الإجراءات إضافة إلى حالة الطوارئ أدت إلى اختفاء وتعليق الكثير من الصحف، حيث سجل ما بين جانفي 1992 وديسمبر 1994 تعليق 24 صحيفة،وما بين فبراير 1992 وسبتمبر 1995 اختفت 18 صحيفة جلها لصعوبات مالية، وفي سنة 1996 تراجع عدد الصحف اليومية إلى 19 يومية بمعدل546 398نسخة يوميا مقابل 27 يومية سنة 1994 بمعدل 905 528 نسخة يوميا.
أمام هذا الوضع أصبح التفكير في قانون جديد للإعلام أمرا ملحا بالنظر إلى التحولات التي عرفتها الساحة الإعلامية وكذا التحولات الدولية في مجال الإعلام. وكانت البداية بتعليمة الرئيس اليامين زروال المؤرخة في 13 نوفمبر 1997 التي تضنمت عدة مقترحات عملية للنهوض بقطاع الاتصال بما في ذلك السمعي البصري والتي ركزت على نقطتين رئيسيتين وهما: الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير ومبدأ الخدمة العمومية، واتبعت بعد ذلك بالمشروع التمهيدي لقانون الإعلام لسنة 1998 والذي جاء كمحصلة لعملية التشاور بين رجال الإعلام والقانون والمثقفين والمختصين.وأهم ما ميز هذا المشروع هو تقديمه لأول مرة لمصطلح الاتصال السمعي البصري بعدما كانت القوانين السابقة تعتبره مجرد سند إذاعي أو صوتي أو تلفزي يمارس من خلاله الحق في الإعلام، فالمادة 01 منه نصت على: "يكفل القانون الحالي حرية الصحافة والاتصال السمعي البصري"، بينما أشارت المادة 28منه إلى إمكانية فتح القطاع أمام الخواص حيث نصت على أنه "يمكن للمؤسسات العمومية للبث الإذاعي المسموع والمرئي أن تفتح رأسمالها في إطار الشراكة مع مؤسسات متخصصة تابعة للقطاع الخاص وفقا للتشريع المعمول به.
ثالثا: مرحلة التعددية الإعلامية المقيدة 1999-2011
على الرغم من الانفراج الأمني النسبي الذي عرفته البلاد بفعل قانون الرحمة إلا أن ذلك لم ينعكس بالإيجاب على المشهد الإعلامي إذ تميزت بداية هذه الفترة بتجميد مشروع قانون الإعلام الجديد لسنة 1998، وتأكيد مواصلة العمل بقانون 1990، واتضح موقف السلطة الجديدة في الإبقاء على احتكار الدولة لقطاع السمعي البصري، ففي مقابلة له مع قناة MBC صرح الرئيس بوتفليقة قائلا: "إن الدولة هي التي تمول الإذاعة والتلفزيون وهما موجودان للدفاع عن سيادة الدولة ولم تنشأ هذه الإذاعات وهذه التلفزة لمنحها لأولئك الذين يهاجمون الدولة ويتسببون في نكسة شعبهم، وعلى أي حال فهناك صحافة حرة ومجال لحرية التعبير فمن أراد التعبير فله ذلك ولكن وسائل الدولة ملك للدولة".
هذا التصريح دشن بداية عهد تميز بالتوتر بين رئيس الجمهورية وبعض الصحف الخاصة والتي اتهمها الرئيس بكونها سبب إشعال الفتنة التي عرفتها البلاد مما أدى إلى فتح حملات إعلامية شرسة على الرئيس ومحيطه، وبدأت قيود الممارسة الإعلامية تظهر للعلن، وتجلت أكثر ليس فقط مع تعديل قانون العقوبات سنة 2001 الذي جاء ليجرم الصحفي. و احتفاظ الدولة باحتكار شراء الورق والمطابع والإشهار وسياسة تعليق الصحف ومعاقبتها، ففي سنة 2003علقت يوميات الخبر وle Matin, la Tribune, d’Algérie, Le Soirبحجة عدم تسديد ما عليها من مستحقات، وعليه يمكن القول بأن السنوات الأولى من هذه الفترة تميزت بتشديد الرقابة على الصحافة.
في ظل هذه الظروف طرح مشروع قانون إعلام جديد سنة 2002، وقد برر المشرع طرح مثل هذا المشروع إلى تطور الوضع الدولي الذي يفرض تعديلات تتماشى والسياسة التي تتبعها البلاد من أجل الانضمام إلى مسار العولمة لاسيما المجتمع الدولي، وإلى الخلل الذي أصاب نص القانون 90-07 بسبب التعديلات التي أدخلت عليه بواسطة المرسوم التشريعي 93-13 المؤرخ في 26 أكتوبر 1993 والمتمثل في إلغاء المجلس الأعلى للإعلام. ترتكز فلسفة المشروع الجديد على مبدأ حرية الإعلام في إطار احترام الأسس الدستورية وقوانين الجمهورية واحترام كرامة وشرف وكذا تقدير الأشخاص، وعلى ضرورة فتح قطاع السمعي البصري وهو ما نصت عليه المادة 35 من المشروع والتي حددت آليات وأدوات ممارسة النشاط الاتصالي البصري بما يلي:
مؤسسات وهيئات القطاع العام.
المؤسسات والشركات الخاضعة للقانون الجزائري الخاص وطبقا لأحكام هذا القانون والقوانين اللاحقة في إطار حدود العوائق التقنية المتعلقة بالموجات الكهرو إذاعية.
غير أن هذا القانون عرف هو الآخر نفس مصير مشروع 1998بحيث جمد بسبب الأولويات الاجتماعية والاقتصادية حسب تصريح لأحد أعضاء الحكومة.
مع بداية العهدة الثانية لرئيس الجمهورية راحت لهجة الخطاب السياسي تتغير قليلا عما كانت عليه من قبل وانعكس ذلك بنوع من الإيجاب على الصحافة المكتوبة خاصة، فعلى سبيل المثال عرفت سنة 2007 ارتفاعا ملحوظا في عدد اليوميات بحيث ارتفع إلى 52 يومية بسحب إجمالي يساوي 1.697.225 نسخة، بينما عرفت سنة 2008 ارتفاعا في عدد العناوين وصل إلى 291 عنوانا بمعدل سحب قدر بـ 2.428.507 نسخة بعدما كان العدد يقدر بـ 103 عنوانا سنة 1999 ، غير أن الإبقاء على القيود الواردة في قانون الإعلام من جهة وقانون العقوبات لسنة 2001 من جهة أخرى دفع بالأسرة الإعلامية للتحرك مطالبة بمزيد من الحرية ورفع القيود أمام مهنة الصحفي وتعالت الأصوات المنددة بذلك خاصة سنتي 2010 و2011 .