الخطوط العريضة للقسم
-
مُميَّز
المحاضرة الثانية: علم الأسلوب النشأة والتطور1
لقد مثلت الانعطافة المعرفية التي أحدثتها اللسانيات الحديثة مع فردينان دي سوسير تحولا بينا في جملة المعارف اللغوية، سواء ما تعلق باللغة في ذاتها، وهو ما ركزت عليه البنيوية، أو من منظورا إليها بالاستخدامات المتجاوزة للافتكارات، ولعل علم الأسلوب يعد من من أهم العلوم التي تشكلت في مرحلة ما بعد البنيوية في مجال المنجز اللغوي الذي مداره النص/ الخطاب، تحت عباءة التوجه اللساني الذي كان يسعى دائما إلى عقلنة المعرفة.
إن الناظر في تطور علم اللغة يلاحظ أن القرن التاسع عشر كان بمثابة الصورة المشرقة للنزعة العقلانية الفلسفية في دراسة اللغة الإنسانية؛ حيث كان يعتبرها مادة يمكن التعامل معها كتعامل المخبري مع المادة على نسق ما يجري في مخابر العلوم البحتة، وقد توجه الاهتمام بداية الأمر إلى الأصوات اللغوية بحكم ارتباطها بالحس وخضوعها للتكميم والملاحظة، ثم إلى الوحدات الصرفية، وصولا إلى التراكيب، كل ذلك تحت نزعة تاريخية وأحيانا تاريخية مقارنة يستمر تأثيرها إلى غاية نهاية القرن التسع عشر وبداية القرن العشرين، ولنا في أعمال المحامي واللساني الإنجليزي وليم جونز الذي درس اللغة السنسكريتية وقارنها باللغات الأوروبية في أصواتها وتصريفها ليصل إلى القول بعودتها جميعا إلى أصل واحد. أما الأسلوب فلم يحظ بمثل هذه الاهتمامات اللسانية لبعده عن التحديد والضبط والعقلنة كما يجري في باقي المستويات الدنيا التي أشير إليها.
غير أن التغيرات التي طرأت في مجال دراسة اللغة بعد ذلك، أعادت الأسلوب إلى بؤرة الاهتمام مع التيار المثالي، الذي يعد امتدادا لتوجهات الفيلسوف الألماني همبولت، وبعيدا عن ربط حيوية اللغات بالأجناس والأعراق البشرية، والقول بالتأثير المتبادل بين بنية اللغة والسلالة (التفرد الفكري) اللذين يقول بهما همبولت، فإن اللغة لها مظهران:
أـ جمعي يتسم بالسلبية أو السكونية، وهي من هذه الزاوية مجرد نظام قائم على الاحتمالية، أو هي بتعبير المناطقة طاقة كامنة أو وجود بالقوة متعلقة بالروح الجمعية وليس لها وجود جوهري مستقل.
ب ـ فردي، يختص بكونه تصرفا في الإرث الجماعي، لكنه ليس تصرفا إلى غير نهاية في إمكاناته، بل هو محدود بأطر يزكيها العرف الجمعي، وهو الذي يعطي لكل فرد أسلوبه، أي إنه تصرف قائم على إعادة تحكم في مسارين: تصرف في الاختيارات، وتصرف في التوزيعات، يجري هذا في اللغة اليومية كما يجري في اللغة الأدبية النوعية، وهو ما يشير إليه همبولت في حديثه عن الإبداع الشعري على سبيل المثال: "وربما نعتبر بالقياس الفعل الإبداعي الخالص للشاعر فعلا يمثل التعبير الحر عن شخصيته المنفردة، ومع ذلك يكتب الشاعر وينتج الشعراء دائما ضمن سياق تاريخي خاص وهو سياق تميز في جزء منه بالأعراف الخاصة بالصيغة الشعرية، وفي هذه الحالة يجب أن يصب العمل الحر الخالص والإبداعي التلقائي عند الشاعر في قالب موجود سلفا تحدده أعراف الوقت الحاضر، وهذه الأعراف هي ذاتها تركة من الأفعال الإبداعية الأولى التي تحكم صياغة القصيدة، وتشكل هذه الأعراف إذا قواعد اللغة التي قد يأتي الفعل الجديد ضمنها ويحدث كونها جزءا منها".
إن هذه التحكمات الفردية هي ذاتها الوقائع الأسلوبية التي تشبه النبرة في الصوت والبصمة في الأصبع، وهي تشمل كل مظهر فردي حري بالوقوف عنده والالتفات إليه لفرادته وتميزه، وفي الاتجاه المثالي نفسه نجد ليو سبتزر يدعو، في حمله على العقلنة المفرطة، إلى تجاوز الوقائع الأسلوبية لكونها مجرد مظاهر، وإلى عدم الوقوف عندها طويلا؛ لأنها مجرد أشكال قد يعوزها الثبات، ويدعو، في المقابل، إلى النفاذ إلى الروح التي تقبع خلف تلك الأشكال، أو التي تحرك تلك الوقائع الأسلوبية وتتصرف فيها، وتلك الروح هي النظام المتحكم، بما يوفره من الفضاء الذي من خلاله فقط تتحقق تلك الوقائع، إنه "تصميم من خلق الروح التي أرادته وتصورته ونفذته، فإن اللغة ينبغي أن ينظر إليها في علاقتها بالروح التي أبدعتها أي في أسلوبها".
إن هذه الخصوصية هي مدار عمل المثالية عموما، كما نجده عند شلايرماخر الذي يرى في النحو الإطار العام الجامع الذي يحكم صرامته التي تضمن استمرار الروح الجماعية للغة في ثباتها، وفي المقابل تمثل المقاربة النفسية/ التقنية قياس الفارق الذي كرسه مستعمل النحو للتعبير عن شيء لا ينتمي إلى الميدان المشترك، فإذا كان "النحو يؤسس العمومي بالنسبة للمجموعة اللغوية، فإن التأويل التقني يحاول أن يوضح كيف يقلب المتكلم الخاص حسب ميولاته هذه الشفرة المشتركة وهذا يسجل تميزه تاركا أثرا في الشفرة".
وتجدر الإشارة إلى انتقال تأثير المدرسة المثالية إلى مدرسة دو سوسير اللسانية التي طرحت بديلها في مقاربة اللغة، وهي تنتقد المدرسة التاريخية المقارنة، معتبرة اللغة إنتاجا إنسانيا خالصا، يؤدي دور التواصل، وهي ذات وجهين: وجه مادي يتمثل في الصوت، ووجه نفسي بما أنها تعبير، وبدل ثنائية (الثبات/الخلق) المثالية تقوم عند دوسوسير ثنائية (اللغة/الكلام).