طرق وضع الدستور
يمر وضع أي دستور بمرحلتين، هما: مرحلة الإعداد، ومرحلة الإقرار والمصادقة. ومن خلال مدى مشاركة الشعب في هذين المرحلتين من عدمها، فإن الفقه الدستوري يقسم طرق وضع الدستور إلى نوعين: طرق غير ديمقراطية وطرق ديمقراطية.
الطرق غير الديمقراطية
وتتمثل هذه الطرق في طريقتين قديمتين، هما: طريقة المنحة، وطريقة التعاقد.
طريقة المنحة
تمثل المنحة الأسلوب غير الديمقراطي الخالص في وضع الدساتير، وهذا لأن نشأة الدستور في هذه الحالة تعود إلى الإرادة المنفردة للحاكم الذي يقرر بمحض إرادته منح شعبه دستورا يتنازل فيه عن بعض سلطاته أو يلتزم فيه بأن يمارس سلطاته وفقا لبعض الضوابط والإجراءات، ولا يهم في ذلك أن يكون تم عن قناعة شخصية منه أو تم نتيجة الضغط الذي مورس عليه من رعاياه. وفي الواقع يعتبر أسلوب المنحة الأداة التي استعملت في تحويل النظام الملكي من مطلق إلى مقيد. وأبرز الأمثلة على الدساتير التي وضعت في فرنسا وفق هذا الأسلوب نجد دستور 1814 الذي بين في ديباجته الملك لويس الثامن عشر (18) بصريح العبارة بأنه قد منحه للشعب بمقتضى إرادته الملكية الحرة. وللإشارة فإن الشعب لا يعتبر هذا النوع من الوثائق سوى تعهد من قبل الحاكم، وهذا لأنه لم يشارك في وضعها لا في مرحلة الإعداد ولا في مرحلة الإقرار من جهة، ولأن الحاكم يستطيع التراجع عنها في أي وقت مدامت قد وضعت بإرادته المنفردة فقط من جهة أخرى، وذلك إذا كان في مركز أقوى مما كان عليه وقت وضعها، أي يستطيع إجبار الشعب مجددا على قبول حكمه المطلق.
طريقة التعاقد
يوضع الدستور هنا على إثر ثورة أو انقلاب أو ضغط الشعب أو ممثليه على الحاكم لإجباره وإكراهه على توقيع وثيقة دستورية يفرضون فيها مطالبهم. وعليه فهذا الدستور يظهر في شكل اتفاق أو عقد يجبر فيه الحاكم على الإذعان لإرادة الشعب أو ممثليه من خلال جمعية أو مجلس منتخب، وإلا تعرض للإطاحة من عرشه ومنصبه فيفقد بذلك سلطاته بالكامل عوض أن يفقد بعضها من خلال السماح للشعب أو نوابه بمشاركته في ممارستها. ومن أمثلة دساتير التعاقد: الدستور الفرنسي لسنة 1830، الدستور الكويتي لسنة 1962، والدستور البحريني لسنة 1973. ويعتبر هذا النوع من الطرق غير ديمقراطي لأن الدستور لا يعبر بصفة خالصة عن إرادة الشعب باعتباره صاحب السيادة في الدولة.
الطرق الديمقراطية
نظرا للدور التشاركي الذي يلعبه الشعب من خلال هذه الطرق في وضع الدستور، فإن الفقه الدستوري يعتبرها طرقا ديمقراطية، وهي تتمثل في كل من: أسلوب الجمعية التأسيسية، وأسلوب الاستفتاء الدستوري (التأسيسي).
أسلوب الجمعية التأسيسية
في هذا الأسلوب يقوم الشعب بانتخاب مجموعة من الأشخاص ليكونوا هيئة تأسيسية تعرف عادة بالجمعية أو المجلس التأسيسي مهمتها وضع الدستور بمفردها، وذلك من خلال إعداده وإقرارها له ومصادقتها عليه بصفة نهائية؛ أي يكون واجب النفاذ دون الحاجة إلى إجراء آخر أو موافقة الحاكم عليه. وهذا الأسلوب ديمقراطي سواء من حيث الإعداد أو من حيث الإقرار والمصادقة، وهذا على الرغم من عدم تدخل الشعب بصفة مباشرة في عملية المصادقة. ومن بين الدساتير التي وضعت عن طريق الجمعية التأسيسية، دستور الولايات المتحدة الأمريكية الاتحادي لسنة 1787، والدساتير الفرنسية لسنوات 1791، 1848، و1875، والدستور السوري لسنة 1950، والدستور التونسي لسنة 1959.
وتجدر الإشارة إلى أن صلاحيات الجمعيات التأسيسية قد تكون محصورة في وضع الدستور فقط كما كان عليه الحال في الو.م.أ، وقد تكون لها بالإضافة إلى تأسيس الدستور صلاحيات أخرى، كانتخاب رئيس الجمهورية، أو تعيين الحكومة، والقيام بالتشريع ومراقبة الحكومة، ويحدث هذا عادة بنية ربح الوقت وتجنب تنظيم عدة عمليات انتخابية في آن واحد أو في وقت متقارب مما قد يثقل كاهل الخزينة العمومية ويرهق مؤسسات الدولة، وقد وقع ذلك في فرنسا أين أضفيت الصفة التأسيسية على البرلمان بالنسبة لدساتير: 1848، 1875، 1945، و1946. وبالنسبة للجزائر فإنها لم تطبق ذلك إلا مرة واحدة منذ استقلالها، وهذا بموجب القانون المؤرخ في 02/09/1962 الذي حدد للمجلس الوطني التأسيسي ثلاث مهام رئيسية، وهي: وضع دستور للبلاد، تعيين حكومة مؤقتة، والتشريع باسم الشعب الجزائري.
أسلوب الاستفتاء الدستوري
في هذا الأسلوب لا يمكن اعتبار الدستور ساري النفاذ، وبالتالي قابلا للتطبيق، إلا إذا وافق عليه الشعب؛ ذلك لأن للشعب وحده سلطة إقرار النص النهائي لوثيقة الدستور الذي يكون قد تكفلت بإعداده والمصادقة عليه مبدئيا:
جمعية أو مجلس تأسيسي، وقد وقع العمل بهذا الأسلوب عند وضع الدستور الفرنسي لسنة 1946، والدستور الجزائري لسنة 1963.
لجنة حكومية أو لجنة برلمانية أو لجنة من الخبراء التي يتم تعيينها من قبل رئيس الدولة، وقد أتبع هذا الأسلوب في وضع عدة دساتير، من بينها: الدستور الفرنسي لسنة 1958، والدساتير الجزائرية لسنوات 1976، 1989، و1996.
مجموعة محددة من الناخبين، ويحدث هذا بالنسبة للدول التي تتبنى ما يسمى بالاقتراح الشعبي كسويسرا مثلا أين اقترحت طائفة من الشعب تعديل الدستور بشكل كلي.
وللإشارة، فإن دور الشعب يقتصر في هذا الأسلوب على الموافقة على كامل النص المعروض عليه أو رفضه دون إمكانية مناقشته أو التعديل فيه أو المشاركة في صياغته. هذا وتبقى أفضل طريقة لوضع الدستور هي تلك التي تجمع بين أسلوب الجمعية التأسيسية في مرحلة الإعداد خاصة ما إذا توافرت في أعضائها الكفاءة والخبرة، وكانوا يتمتعون بالاستقلال في أداء مهمتهم، وأسلوب الاستفتاء الدستوري في مرحلة الإقرار الذي وحتى يحقق الغاية المرجوة منه يستحسن أن يكون في إطار نظام سياسي قائم على وجود فعلي لتعددية سياسية وإعلامية قادرة على توعية الشعب وتنويره بمدى ضرورة المصادقة أو عدم المصادقة على مشروع الدستور المعروض عليه.