المفهوم والتجليات:

    يرى معظم المنظرين لتفشي هذه الظاهرة في الشعر المعاصر، أنها ظاهرة جديدة، شرعت في التجلي  بوضوح بعد نكبة فلسطين، وفشل مشروع تحريرها، فأصيب الشعراء عموما والملتزمون منهم بصفة خاصة بخيبة أمل كبيرة، وراحو ينقلون حزنهم وأساهم ويعبرون عن خيبة الشعوب العربية، عبر أشعارهم المأساوية.التي كثيرا ما تعلقت بالوطن والإنسان، وصراعاته المختلفة في شتى مناحي الحياة. 

  ويتلخص مفهوم هذه الظاهرة – باختصار- في الكم الهائل من مشاعر الحزن المسيطر على الشعر المعاصر خصوصا في الآونة الأخيرة، على الرغم من أنّ الشعر القديم عرف غرض الرثاء المعبر عن حزن الشاعر. وقد عرف الشعر عبر عصوره الزمنية المختلفة تطور غرض الرثاء هذا، إلا أنّ اعتبار الحزن ظاهرة فكرية ترتكز على وجهات نظر ثقافية واقعية أي "ترتكز على مواقف ذات فلسفة محددة فلم يعرفه الشعر العربي إلا في الشعر الجديد مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وهو حزن جديد اعتمد على إدراك الإنسان لمأساة الوجود ككل ومأساة وجوده داخل هذا  الوجود.

 

أسباب الحسّ المأساوي في الشعر المعاصر:

1.    الأسباب السياسية:

Ø     نكبة فلسطين، كسبب رئيسي. حيث شعر الشاعر الملتزم بخيبة أمل كبيرة، وضياع لجهوده  في محاولة نشر الوعي الوطني والقومي، والدفاع عن الوطن.  

Ø     الشعور بتخاذل الحكام العرب، وعدم تحملهم المسؤولية.

Ø     سوء الأوضاع السياسية في بعض البلدان العربية، جراء الاحتلال بأنواعه.

 

2.    الأسباب الاجتماعية:

Ø     تضاؤل القيم الروحية ، وشعور الإنسان بضآلته أمام مشاكل عصره.

Ø     تراجع المثل العليا

Ø     وطغيان  النزعة المادية

 

3.    الأسباب الثقافية / الأدبية:

Ø     التأثر بالغرب، سارتر، كامو، إليوت، والأدب الوجودي.

Ø     تشتت النموذج الكلاسيكي للكتابة الشعرية

أبرز الرواد: نازك الملائكة، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، نزار قباني،  البياتي.ملك عبد العزيز، أحمد معطي حجازي، محمد مهران، بدر شاكر السياب (وصل قمة الحزن/ الإحساس بالموت)،

أهم خصائص ظاهرة الحس المأساوي في الشعر المعاصر:

ü     تداول المعجم الشعري الحزين بكثرة.

ü     عكس الشعور بالاغتراب (الوطن ، المدينة، القلق، الكآبة، غربة الروح)

ü     عكس الشعور بالضياع (الخيبة، تلاشي الأمل في ايجاد الحلول)

ü     عكس الصراع النفسي/ الانقلاب على الذات (مهاجمة الوطن، مهاجمة الحكام، البحث عن المسؤول عن هذا الحزن)

ü     عكس التجارب الذاتية لبعض الشعراء: النفي، التهميش، ..إلخ.

ü     التميز بالغموض .

أبرز تجليات الحسّ المأساوي في الشعر المعاصر:

1.    ظاهرة الهروب من الواقع: لقد أعلن الشاعر الحرب على واقعه المتخلف أملا في حدوث تغيير، وكان في أتم الاستعداد والقوة، حيث دافع من أجل خلق التوازن ذاته والنظام الخارجي. وكان في كلّ مرة يحاول ويعيد المحاولة في صبر واستماتة، ولكنه عندما أحس بطول الانتظار الذي أتعب كيانه شعر بخيبة أمل كبيرة ومريرة. عندئذ فقد الأمل في أن يواصل محاولة أعادة البعث والبناء واستسلم لليأس، وتأكد أن نظام الوجود الخارجي مليء بالفساد والشرور الروحية، في حين أن نظام ذات الشاعر المعاصر مليء بالبساطة والبراءة، وحين اصطدمت نفسية الشاعر بالنظام الخارجي أحس حينها بالانهيار والسقوط .

تقول نازك الملائكة:

"أين أمشي؟ / مللت الدروب/ وسئمت المروج/ والعدو الخفي اللجوج/ لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب."

2.    ظاهرة القلق من المدينة:  لقد ظهرت معاناة الشاعر من مظاهر الحياة في المدينة بسبب معايشته للواقع , والبحث عن الوجود الاجتماعي والسياسي، حينما رحل إلى المدينة آمالا أن يجد فيها ذاته, لكنه اصطدم مرة أخرى بالوجود ليجد الحياة مذبحة لـأحلامه ورغباته، فالمدينة تقتل البراءة والقيم الإنسانية، فهي قاسية لا ترحم، تحاصر وتخنق لانعدام الروابط الإنسانية والاجتماعية فيها.

ونمثل لذلك بما كتبه "عبد المعطي حجازي" في ديوان: (مرثية العمر الجميل):

"ها أنا ذا أنتهي في مدينة بائدة/ أخرج من تحت الركام/ أفلت من دم الفريسة الذي يسكنني/ من وجوه أصدقائي العنكبوتية.

ويقول صلاح عبد الصبور:

"في زحمة المدينة المنهزمة/ أموت لا يعرفني أحد/ أموت لا يبكيني أحد."

3.    ظاهرة القلق العاطفي: ونمثل لذلك بالشاعر "خليل حاوي" الذي قضى عمره كله حزينا عن أخته التي ماتت، ومن أهم القصائد التي كتبها فيها ( قصيدة الرعد الجريح).

4.    ظاهرة الشعور بالضياع والغربة:   

قال صلاح عبد الصبور: "ينبئني شتاء هذا العام/ أن ما ظننته شفتاي كان سِّمي/ وأنّ هذا الشعر حين هَّزني أسقطني/  ولست أدري كم من السنين قد جرحت. "

 

5.    ظاهرة القلق من أمراض العصر: مع أن هذه الظاهرة ليست جلية بالحجم المطلوب، ولكنها تتمثل في أعظم الأمراض النفسية بالدرجة الأولى؛ كالتوتر والاكتئاب وانفصام شخصية الشاعر...إلخ، وبعض الأمراض العضوية مثل، وباء كوفيد 19، الذي ظهر في السنوات الأخيرة وجرف عدة أقلام للكتابة فيه، ومثل ما عبرت عليه "فدوى طوقان" في قصيدتها الرائجة (الكوليرا) إثر تفشي داء الكوليرا:

-         تقول فدوى طوقان: "في عمق الظلمة...تحت الصمت على الأموات/ صرخات تعلو... تضطرب/ حزن يتدفق...يلتهب/ يتعثر في صدى الآهات/ في كل فؤاد غليان/ في الكوخ الساكن أحزان/ في كل مكان روح تصرخ في الظلمات."

-         قال صلاح عبد الصبور:

"تعالى الله، هذا الكون موبوء / ولا براء/ ولو ينصفنا الرحمن/ عجل نحونا بالموت تعالى الله/ هذا الكون لا يصلحه شيء/ فأين الموت/ أين الموت، أين الموت؟ "

    إنّ ظاهرة الحس المأساوي ظاهرة قديمة في الشعر العربي، ولكنها لم تكن مستفحلة شأنها في الشعر المعاصر، فقد تجلت موسيقى الحزن في الشعر بوضوح في العصر العباسي اثر تتالي الانقسامات والمشاكل السياسية، والهجنة الاجتماعية... كما تجلت بوضوح عند شعرا المهجر الأمريكي. ولكنها طغت تماما عند الشاعر المعاصر بوصفه لسان قومه، لما استفحل في هذا العصر من تضارب للقيم والمثل، وتلاشي للهويات والقوميات وهبوب لريح القلق والتذمر، والشعور بالاغتراب، وضياع الذات.  

 

Modifié le: Friday 3 May 2024, 17:41