حققت الأسطورة نوعا من التجدد، وقفزت قفزة نوعية  بولوجها عالم الشعر، من خلال انفتاح النص المعاصر على الفنون الأخرى، الذي أدرجها ضمن أبرز آليات الشعر المعاصر (توظيف الرمز الأسطوري)، بعد أن أضحت "في مطلع ق 19، جزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني، لا سيما في مجال النقد الموضوعاتي (1964- 1967)."

 وتعتبر استعارة الرمز الأسطوري أهم آلية من آليات الشعر المعاصر، لما يتلخص فيها من معان كامنة موحية، بوسعها الخروج من دائرة الاستعمال الروتيني للغة كتعبير مألوف، إلى التدليل على معاني مبتكرة مثقلة بالدلالات.

   ولعل من أكثر الشعراء توظيفا للرمز الأسطوري الشاعر المشهور "أدونيس"/ "علي أحمد سعيد" حيث يبدو توظيفه للرمز جليا منذ اختياره للاسم المستعار من أسطورة أدونيس /]أدونيس/ إله الخصب والنماء – رمز البعث والتجدد[ ومن هنا، نجد أنه على الرغم من غزارة وتنوع رموزه المستوحاة من الأساطير، إلاّ أنّه ركز على الإحالة دائما وباستمرار على معاني (التجدد والبعث والخلق..) من خلال أسطورة تموز في البداية ثم أساطير أخرى توحي بذلك.  

أهم أسباب اللجوء إلى الرمز الأسطوري :

Ø     نقل المعنى بالطريقة الرمزية كسر للمألوف وبعث للرغبة في القراءة والتلقي.

Ø     الخوف من التصريح بالرأي، خاصة إذا تعلق الأمر بمواضيع اللا مساس.

Ø     التأثر بالغرب/ ثقليد المذاهب الغربية/ التأثر بقصيدة " الأرض والخراب – س . إليوت"

Ø     الرغبة في جعل القارئ فاعلا بإشراكه في إنتاج المعنى.

Ø     سعة ثقافة الشاعر في هذا المجال.

Ø     طبيعة الموضوع ، وهو أمر نسبي.

Ø     الهروب من الواقع واستبداله بعالم خيالي.

Ø     إضفاء نوع من الشعرية والجمالية على النص المعاصر

Ø     جاذبية الأسطورة لتفسيرها مظاهر كونية مستعصية على الفهم.

أهم مظاهر توظيف الرمز الأسطوري في الشعر المعاصر:

-         الشخصيات: مثل: السندباد، سيزيف، تموز، عشتروت، وشهريار، إزيس، نرج، كو، أوديب، بروميثيوس، أدوسيوس، أدونيس، زرقاء اليمامة ...إلخ

قال أنسي الحاج:

"يا بلادي من الأعماق لا أناديك، لم أقرأ قصتك/ وأتمناك رحما أمزقها، يا بلادي، أتزوجها لأتقذر حظك معي مبك/ تجنين، كيف لا أبالي بك، تجنين حقيقة؟ ..../ عصفورك دخان أسود، صيادك الخيبة تصرعه، يعيا، فاتحك يكمل إلى كبده/ يعلقها، يا بلادي من فتحك؟  حيث يحيل النص إلى (أسطورة أوديب) الذي تزوج أمه، من جهة وتستعمل الرمز الأسطورري المستوحى من (أسطورة طائر الفينيق) الذي يبعث من الرماد. ويتجلى هنا رفض الشاعر للواقع، والحلم بواقع مختلف.

هذا بالإضافة إلى الشاعر " صلاح عبد الصبور –  الذي يرثي جمال عبد الناصر قائلا:  

"تجمعت الكلمات حول اسم سرى كالنبض في شريانهم/ عشرون عاما كان الملاذ لهم من الليل البهيم وكان تعويذ السقيم/ وكان حلم مضاجع المرض وأغنية المسافر في الظلام/ وكان مفتاح المدينة للفقير يذوده حرس المدينة / عن حماها.

    حيث وظف الشاعر هنا ( أسطورة أوديب) توظيفا غير مباشرا، دلت عليه عبارة (مفتاح المدينة)، المفتاح الذي مكن (أوديب )من القضاء على الوحش، وتأمين المدينة بعودة السلام، وهو وجه المقارنة بين (أوديب) و(جمال عبد الناصر)/ تخليص الشعب من الخوف وجعله ينعم بالأمن والسلام. 

-         الحيوانات: طائر الفينيق أو العنقاء، حصان طروادة: قال أدونيس:

 "أرى أرى رمادك/  كأنه استعادك/ كأنه أعادك."

أبيات  تتصدرها الرؤيوية، وقد بنيت على استعارة رمز (طائر الفينيق الأسطوري - الذي يبعث من الرماد)، يقول أيضا:

"فينيق مت فينيق مت/ ولتبدأ بك الحرائق/ ولتبدأ بك الشقائق/ لتبدأ بك الحياة فينيق يا رماد يا صلاة. "

أبيات تحيل إلى الإيمان بقوة البعث، لأن تجدد الحياة يحيل إلى تجدد القوى الكامنة، وتجدد الطاقات، وتفجير الامكانات.

-         النبات: زهرة النرجس: قال صلاح عبد الصبور:

"علّ في الصمت التآسي والسلام/ فالصمت أجمل ما يكون إذا غدت سبل الكلام/ تفضي إلى نار المواجد   أو إلى ماء السراب/ فنهيم في كنّا وكان."

وقد وظّف الشاعر هنا ]أسطورة الصدى والنرجس[، التي تحكي عن معاناة فتاة جميلة اسمها (ايكو) من عدم القدرة على الكلام، ولكنها تقتنع أخيرا أنّ الصمت حكمة ونعمة. وهو في أغلب الأحيان أفضل من الكلام الذي لا طائل منه.

-         الجماد: صخرة سيزيف، يقول في مقطع آخر من قصيدته "إلى سيزيف":


أَقْسَمْتُ أَنْ أكْتُبَ فوق المَاءْ/ أَقْسَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ مع سيزيفْ/ صخْرَتَهُ الصماَءْ/ َقْسمتُ أنْ أَظَل مع سيزيفْ/ أَخْضَعُ للحِمى والشرارَْبحَثُ في المَحَاجِرِ الضريرهْ/ عنْ ريشةٍ أَخيره/ تكتب للعشب وللخريف/ قصيدَةُ الغُبار/ أقسمتُ أن أَعيش مع سيزيف.– أغاني مهيار الدمشقي وقصائد أخرى.

 

-         الأزمنة/ فصول السنة:  تموز مثلا، قال محمود درويش:

"تموز مرّ على خرائبنا / وأيقظ شهوة الأفعى/ القمح يحصد مرّة أخرى/ ويعطش للندى... المرعى. "

  وهذا ما يوضح لنا أن توظيف الرمز الأسطوري في النص الشعري المعاصر يمتاز بالقابلية للتشكيل والتحوّل، باعتباره مادة بناء سلسة معطاءة،  تثري الرصيد الفكري للنص الشعري، وتمدّه بمتعة ولذة سبر أغوار التفسير الأسطوري للقضايا والظواهر الإنسانية المعقدة، وذلك متى تجاوزت الغاية من توظيفها مجرد التنميق الجمالي، والتوظيف الديكوري البحت الذي يفتقر إلى الفاعلية والتأـثير.

ختاما: على الرغم من أنّ الأسطورة هي محاولة لفهم الطبيعة وتفسير صراعات النفس البشرية، وأنها ظاهرة  قديمة الوجود، وعلى الرغم من أنّ الرمز بشتى أنواعه موجود كذلك منذ وجود التعبير الإنساني، إلا أنّ أهمية الرمز الأسطوري تكمن في أنّه ابتكار لتعبير عذري لم يكن سائدا من قبل في سياق لغوي فريد يثير تحصيل معناه  - متى كان ناجحا- الشعور باللذة والفضول عند المتلقي .

تنبيه هام: لاحظنا خلال مطالعة الموضوع أنّ هناك من يحلّل بعض الرموز الدينية على أنّها أساطير، ولكن لا يجدر بنا الخلط بين الرموز الأسطورية والرموز الدينية، مهما كانت طبيعة أفكارنا ومعتقداتنا، ومهما كانت الديانة التي تنتمي إليها تلك الرموز. وقد صادفنا بعض القراء الذين يعتبرون حادثة ]الإسراء والمعراج[ مثلا أسطورة، أو يرون أنّ النبيين أيوب ويعقوب (ع س)،  وقابيل وهابيل...إلخ رموز أسطورية، وكثيرا ما يستقر في الأذهان أن الأسطورة عبارة عن عمل خيالي  مبتدع، وشخصيات سحرية خارقة، بينما هذه الأمثلة حقيقية . وهذا خلط لا  نظنه يغتفر.

 

Modifié le: Friday 3 May 2024, 17:59