مفهوم الغموض:

   عرفه الزمخشري في أساس البلاغة : "يقال للأمر الخفي والمعتاص : أمر غامض، وكلام غامض غير واضح ...إلخ" ويقول الشاعر الانجليزي وليام سامسيون، في كتابه سبعة أنماط من الغموض: "هو المجال الذي يفسح لردود أفعال بديلة للمقطوعة اللغوية الواحدة."  / ويعرفه بالمر بأنه "عدد من القراءات لجملة ما. " ويرى أدونيس أنه: " وصف يطلقه القارئ على نص لم يقدر أن يستوعبه، أو أن يسيطر عليه ويجعله جزءا من معرفته. "

     ومن هذا المنطلق نجد أن هناك تعريفات عديدة للغموض، ولكن ما نقصده في هذه الوحدة هو الغموض كصفة طبيعية يواجهها القارئ العادي – الطالب، في النصوص الشعرية المعاصرة، فـ "إثارة مشكلة الغموض، من صميم البحث في جوهر الشعر، لأن الشعر يقوم أساسا على الغموض." بصفة النص الشعري نص أدبي فني خاص، غالبا ما يكتنز الكثير من الدلالات والمعاني، التي يصعب تأويلها، والوقوف على معانيها دون الارتكاز على مرجعيات ثقافية معينة. مما يفضي إلى تعدد قراءات النص الشعري الواحد.

مصادر الغموض:

يمكن حصرها في 3 مصادر أساسية، لا تخرج عن عناصر التواصل الأساسية: (المرسل، الرسالة ، المرسل إليه):

1.   المرسل/ الشاعر: ويصدر الغموض هنا عن الشاعر نظرا لعدّة أسباب متباينة، أهمها:

-         حدة الشعر وكثافة الطاقة الشعرية.

-         التقليد الأعمى للغرب.

-         الاستجابة لدواعي الحداثة – حسب رأي البعض- من خلال الخروج عن المألوف.

-          اللجوء القصدي للغموض: رغبة في إخفاء المعنى:

يقول الشاعر محمود درويش، في محاولة لإضفاء الغموض على نفسه وشعره:

طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ /طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ

وكذلك يقول في موضع آخر:

لَنْ تَفْهَمُونِي دُونَ مُعْجِزَةٍ/ لِأَنَّ لُغَاتِكُمْ مَفْهُومَةٌ/ إِنَّ الوُضُوحَ جَرِيمَةٌ. 

-         رقي ثقافة الشاعر، وتعدد مناهله الثقافية.

-         طبيعة أسلوب الشاعر: مهما يحاول الشاعر أن يكون واضحا ومباشرا يبدو غامضا ومستعصيا، نظرا لطبيعة أسلوبه .

-         الخوف من  عواقب الوضوح / مواضيع اللا مساس.

يقول الشاعر أدونيس: أتغير/ أغير ما يغيرني/ غموضا، حَيْثُ الغُمُوضُ أَنْ تَحْيَا/ وضوحا،حَيْثُ الوُضُوحُ أَنْ تَمُوتْ . " ويقول كذلك، " لماذا كلما أوضحت ازدادت غموضا."

-         ضعف الموهبة الشعرية، إذ يختلف الأمر بين شاعر محترف وشاعر هاوي/ ضعف المقدرة اللغوية للملكات الشعرية.

2.   الرسالة/ النص الشعري:

-         خصوصية اللغة الشعرية: الانزياح، المفارقة...إلخ.

-         طبيعة الموضوع، فالشعر تعبير عن تجربة شعورية، وغالبا ما يعجز الشاعر عن نقل أحاسيسه وأفكاره ومشاعره بالشكل الكاف نظرا لمحدودية اللغة كأداة للتعبير./ يعجز القلم عن التعبير.

-         غموض المعنى رغم بساطة الألفاظ والتراكيب/ الحاجة إلى التأمل والتدبر.

-         بناء النتائج على مقدمات غير واضحة أو الوصول إلى نتائج لا مقدمات لها/ غياب الترابط بين الأفكار.

-         طبيعة المفردات والتراكيب:

ü    الكلمات والألفاظ الغريبة، غير المألوفة

ü    هجونة التراكيب

ü    الألفاظ المفتوحة الدلالة/ لا تقرن بما يضبط معناها

ü    الإفراط في طول العبارات، فيضعف الترابط بين أجزائها

ü    العبارات مفرطة الإيجاز، أو المختلة المعنى عن طريق الحذف.

3.   المرسل إليه/ المتلقي: 

-         ضعف الذائقة الشعرية.

-         ضعف ثقافة ومعرفة المتلقي.

-         اختلاف درجة التأثر أو الانفعال الشعوري مع النص الشعري حسب تجربة القارئ.

أنواع الغموض:

1.   الغموض الطبيعي: وهو نوع من الغموض الدال على عمق المعنى وجمال النص، فالشاعر المجيد في عمل الشعر يعد هذا الغموض عنصرا من عناصر بنيته الشعرية الجديدة، لأنه يضيف إلى شعره مظهرا فنيا من مظاهر الإثارة، والمتعة والإيحاء.

 

2.   الغموض المصطنع: يعتبر هذا النوع شكلا من أشكال التعقيد والإبهام، فهو السبب الأساسي في قطع العلاقة بين النص والمتلقي. لأن امتناع القارئ عن قراءة هذا النص المبهم كان بفعل التعقيد والتعمية في الشعر. فالشاعر يلجأ إلى هذا الشكل المردود من أشكال الغموض حين يضيق أفقه وينضب معينه، فيبني شعرا لا علاقة له بالشعر.

وبناء على هذا فإنّ"الغموض فن،  ولكن لا يجب أن يقصد إليه قصدا بذاته كأسلوب وإنما يجب أن ينتج عفويا دون قصد، يتولد تلقائيا مع البنية التعبيرية. "

أهم مظاهر الغموض الفني في النص الشعري المعاصر:

1.   غموض اللغة الشعرية: ومن أمثلة ذلك التلاعب بالألفاظ،  ومفارقة العبارات التي تنجم عن جمع المتناقضات في سطر واحد، أو معنى واحد. يقول أدونيس:

"لمن يفتح الفجر شباك عيني/ ويحفر فوق ضلوعي طريقه/ لم الموت ينبض ملء كياني/  ويربط عمري بخفق الثواني؟ عرفت دمي رحما للزمان وفي شفتي مخاض الحقيقة."    

2.   غموض الصورة الشعرية:  يقول أدونيس:

" أمس على أرضين مخضرتين/ كتبت أشعاري في لحظتين/ وشئتها على هوى ريشتي/ هنا سنونو وهنا برعمين.

3.   غموض الرمز الشعري:  يقول محمود درويش – تموز والأفعى:

" تموز مرّ على خرائبنا/ وأيقظ شهوة الأفعى/ القمح يحصد مرة أخرى/ ويعطش للندى... المرعى/ تموز عاد ليرحم الذكرى...عطشا وأحجار من النار.

    وبهذا، فقد فرضت ظاهرة الغموض نفسها على الشعر المعاصر، استجابة لعدة مستجدات أهمها النزعة اللاّ عقلية، التي تعتمد على تفكيك العالم والواقع وإعادة بنائهما، لتشكيل رؤية جديدة وقراءة متفردة، بعيدا عن القراءات الروتينية الموروثة من أجل مسح الابتذال، وعقد شراكة مع القارئ لإنتاج المعنى. فالقصيدة كما يرى (يونغ)، حلم. وبالتالي فهي بحاجة لعمليات (تفسير وقراءة وتأويل) تنبني كل عملية منها على معطيات الذوق والثقافة والتجربة الخاصة.

 

Modifié le: Friday 3 May 2024, 18:06