بدأ مصطلح "الصورة الشعرية" في الظهور في أواخر القرن 19، وله عدّة مرادفات أبرزها "التصوير الشعري، الصورة الفنية..." وتؤكد أغلب تعريفاته بأنّه يعني عملية التفاعل الحاصلة بين المبدع والمتلقي من ناحية الأفكار والأحاسيس والانفعالات.. حيث تبنى هذه العملية على لغة شعرية يميزها الانحراف والمشاكسة، تستند غالبا على التشبيه، والمجاز والاستعارة..إلخ. وتقوم على الإيقاع والوزن والقافية والموسيقى والرمز والإيحاء. وفيما يلي بيان ذلك:

·        أهم مكوناتها:  اللّغة، العاطفة، الخيال.

·        أهميتها: هي جوهر العمل الشعري، لا تقوم له قائمة بدونها، باعتبارها أحد أهم المعايير التي تقاس بها أصالة الشاعر وتمكنه وتمرسه، وقد تتجاوز الشعر إلى النثر، فتضفي عليه قيمة فنية خاصة.

·        وظائفها:  يمكن اختزالها في:

-الوظيفة الفنية الجمالية: لأنّ الشعر يهتم بصياغة المعاني بشكل متميز بعيدا عن اللغة المعيارية التواصلية المألوفة. مما يساعده على نقل تجربته للمتلقي في صورة مجسدة يكاد (المتلقي) يراها بعينيه، أو يلمسها بيديه.. وكذلك الحال، حال انتقالها إلى النثر.

-الوظيفة التعبيرية الانفعالية: وهي التي تنقل أفكار الشاعر عبر الأحاسيس والانفعالات، كالحبّ والكره والرفض والفخر والحماس و التنديد، والغضب والفرح... مما يساعد الفنان على  تقريب المعنى وتمكينه.

·        أهم تقنياتها:

ü  الرمز/ الإيحاء: هو قلة في الألفاظ يقابلها تعدد وتفرع في المعاني، أو هو استعمال الرمز اللغوي للدلالة على نطاق واسع وعميق من المعاني الكامنة، التي يكشفها السياق، مثل : عبارة ]دموع التماسيح[ التي ترمز للقسوة، والبكاء المزيف أو عبارة ]ورق الزيتون[ التي ترمز إلى السلام، ومثل ]رمز الحمام[، كقول محمود درويش: "يطير الحمام"، وهو يقصد غياب السلام في فلسطين.

ü     التشخيص/ التجسيم والتجسيد: وهو منح المعنوي صفات الحسّي (الجماد)، أي إبراز المعنوي في صورة محسوسة، كقول إبراهيم ناجي :

" ومن الشوق رسول بيننا/ ونديم قدم الكأس لنا

وسقانا فانتفضنا لحظة/ لغبار آدمي مسنا. "       

-  فهو يجعل الشوق  مرة رسولا/ ينقل الهوى بين العشاق، وأخرى :  نديما/ إنسانا، طالما قدم لهم الكأس.

وقوله: "وإذا قلت لقلبي ساعة/ قم نغرد لسوى ليلى أبى"

- فهو  يشخص القلب (عضو  بشري) في صورة إنسان (مخير، مقرر، له إرادة)، بوسعه أن يتخذ موقفا من طلب الشاعر، وهو الإباء. + صفة التغريد/ خاصة بالطيور.

وقوله: "ولكم صاح بيي اليأس انتزعها/  فيرد القدر الساحر: دعها."

-       هنا يجعل اليأس إنسانا (يصيح)، والقدر إنسانا آخر/ معارض للأول/ يخالفه الرأي.

ü     المجاز:  يمكن نمثل له بأثمن وأروع المجازات، التي تحملها قصيدة "محمود درويش" :

]وليس على الشعر من حرج/  إذا تلعثم في سرده وانتبه/ إلى خلل في الشبه/  هل كتبت قصيدة؟/ كلاّ !لعلّ هناك مِلْحًا زائدا أو ناقصا في المفردات/  لعل حادثة أخلت بالتوازن في معادلة الظلال. لعل نسرا/ مات في أعلى الجبال. لعل أرض/ الرمز خفت في الكناية فاستباحتها الرياح. لعلها ثقلت على ريش الخيال/ لعل قلبك لم يفكر جيدا، ولعلّ/ فكرك لم يحس بما يرجك. فالقصيدة/ زوجة الغد، وابنة الماضي، تخيم في/ مكان غامض بين الكتابة والكلام/ فهل كتبت قصيدة؟[

      مثلا عبارة "لعل نسرا/ مات في أعلى الجبال."  يمكن أن تفهم على أنّها حقيقية، ولكنها مجازية، توحي للقارئ بتساؤل الشاعر الخفي عن العلاقة بين ]النسر – القمة/ العلو – الجبل، الموت[، ومن هنا تتشكل العلاقات الخاصة، التي تتولد عنها الانفعالات المتبادلة بين الشاعر والمتلقي. ...و"الشعر هنا يبتكر حقائقه البيولوجية الخاصة؛ عن طريق اللغة الشعرية المجازية، حيث تتبادل الأعضاء وظائفها الأزلية: قلب يفكر، وفكر يحسّ، انفعال الفكرة، وفكرة العاطفة.. إنها ثنائية جديدة تضمن فيها القصيدة فوضاها وحكمتها معا..... والقصيدة هنا أعمق من زمن الشاعر وأكثر خلودا منه؛ يجعلها المجاز، تخيم بين الكتابة والكلام"، كما تقرّ لها الحقيقة بذلك. ومن هنا يتجلى البعد الانفعالي والغاية الجمالية للتشكيل اللغوي في الشعر ،عن طريق المجاز.

ü            الاستعارة:   نقرأ عبارة:  "لعل هناك مِلْحًا زائدا أو ناقصا في المفردات" في قصيدة محمود درويش السابقة، فهي تشكل استعارة مكنية شبه فيها الشاعر ]القصيدة[ بـ ]الطعام[ وحذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه ]الملح[، فـالقصيدة ]تتذوق[ من طرف المتلقي، فيحكم عليها بـ ]الّلذة [ أو عدمها ]بلا طعم[، وذلك ما عبر عنه رولان بارت مثلا بـ ]لذّة النص[، فكان عنوانا لكتاب كامل يتناول موضوع التلقي/ وهو ما يمنح كل نص -وكلّ مفردات- قيمة خاصة.  ووجه الشبه (العلاقة بينهما) هو أنّ دور الملح في الطعام هو ]تصحيح الذوق[، كما أنّ دور الأسلوب في القصيدة/ النص، هو الدور نفسه ]تصحيح الذوق[، وهذه علاقات لا يمكن أن يستخرجها ويعبّر عن فعاليتها سوى الفنّان، والأسلوب هو ما يمكنه من مشاركتها مع المتلقي.

ويمكن أن نمثل للاستعارة بقول إبراهيم ناجي في قصيدة "الأطلال":

"يا فؤادي رحم الله الهوى/ كان صرحا من خيال فهوى/ اسقني واشرب على أطلاله/ وارو عني طالما الدمع روى"

    نجد –هنا- استعارة مكنية في قوله "رحم الله الهوى" حيث حذف المشبه به (الإنسان) وأبقى على شيء من لوازمه (الموت -الترحم عليه)/ وكذلك قوله ا"لدمع روى" = جعل الدمع كالشراب الذي يروى به (الماء)،  فحذف المشبه به  (الشراب/ الماء)، وأبقى على شيء من لوازمه (يشرب ويروي العطشان)، على سبيل الاستعارة المكنية .

ü     التشبيه: هو رسم فني خاص يكشف العلاقات بين الأشياء،  يقول الشاعر"غسان مطر"  في قصيدة موجهة لابنته:

]ملكا كنتُ، غيم شعرك قصري/ ورؤاك المنوّراتُ جناني[/ حيث اعتمد الشاعر على التشبيه الضمني الاستعاري، وهو الذي يعيد إلى التشبيه فاعليته في خلق الدهشة، وفي رفد الصورة بعناصر التخيل الابتكاري. فجعل  غيم الشعر قصرا، معتمدا على الانزياح، في نسبة الغيم إلى الشعر، ليعبرّ عن (كثافته) ثم شبه هذا (غيم الشعر/ كثافته) بـ (القصر)، محيلا إليه كلّ معاني (الأمان/ الحبّ/ الدفء/ الشعور بالاستقلالية/ الرفاهية/ المتعة...إلخ). وهي المعاني الدافئة الرقيقة، التي كان يعيشها في وجود ابنته، وافتقدها بعد أن فارقته.

ü     الكناية:  لعلّ أكثر شيء يميزّ الكناية، كما هو معروف، هو إمكانية تحقق معناها الحرفي على أرض الواقع، وهنا يكمن سرّ شعريتها/ متعتها ولذتها، فاكتشاف المغالطة الدلالية، أي اكتشاف القارئ للمعنى الحقيقي/ الخفي،  المراد من وراءها هو ما ينشيه.

 قال البياتي: "وفتحت أبوابي/ للنور والظلمات أبوابي/ والتافهون وراء حائطنا/ يرنون للموتى بإعجاب/ وكلابهم تعوي / وعالمنا يصحوا على أصوات حطاب." -   فإمكانية تحقق المعنى الحرفي ]فتح الأبواب[ واردة، ولكن هناك معنى خفي في اللجوء إلى هذا التعبير، وهو ]الوعي/ كشف الحقيقة[، وعبارة ]التافهون وراء حائطنا[ تفتح باب التأويل على مصرعيه لتعدد القراءات من قبيل ]الحائط[= ]حائط المبكى[، ]التافهون = الإسرائيليون[،  عبارة ]كلابهم تعوي[ ممكنة الحصول كذلك ولكن المراد منها هو ]علو أصوات النذلة/ أصوات الظلم والزيف[ على حساب ]أصوات الحق[، أمّا العبارة الأخيرة التي مؤولها ]أصوات فأس الحطاب[، فترمز إلى التحطيم، التخريب، الظلم ...إلخ. وهذا ما يفتح باب تعدد القراءات كما أشرنا.

ü     التكثيف اللغوي: وتتجلى هذه الظاهرة من خلال عدّة آليات أهمها :

v إيقاع التكرار: حيث يمنح التكرار كثافة وتفرعا في المعنى، قال صلاح عبد الصبور: " الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنين/ من أجلها خرجت/ من أجلها صلبت." – فتكرار عبارة "من أجلها" له غرض جمالي فني؛ أضفى طابع الشعرية على القصيدة، كما أنّ له معنى خاص، وهو التأكيد على مكانة الشعر عند الشاعر، إذ اعتبره قضيته الأولى وغايته التي تخلى عن كلّ شيء في سبيلها، وهو ما يؤكده المقطع "وحينما ناديته لم يستجب/ عرفت أنني ضيعت ما أضعت" حيث تتكرر هنا صيغة "الضياع" تأكيدا للمعنى كذلك. وخدمة لحيوية الدلالة.

v   ديناميكية التناص: تكمن مساهمة التناص في التكثيف اللغوي للنص الشعري عن طريق إعادة إنتاج المعنى،  حيث يفتح باب تعدد القراءات، إضافة إلى عمله الرئيسي، وهو جعل المتلقي شريكا في إنتاج النص، وينقسم التناص إلى عدّة أنواع ( الاجتراري، الامتصاصي/ الحواري...)، ويتجلى في عدّة صور أهمها التناص  الأسطوري:  فكثيرا ما وظف الشعراء أسطورة سيزيف أو أسطورة السندباد البحري، نمثل لذلك بقول فيصل الأحمر" تفتح لي مساحة وتقول/ أيا سندباد...تعال/ ويا رحال الشرق/ أدخل مدار الحكاية"و قول صلاح عبد الصبور: "هذا محال سندباد، أن نجوب في البلاد." هذا بالإضافة إلى أنواع أخرى من التناص -لا يسع المجال هنا للتفصيل فيها كاملة- كالتناص الديني/ الصوفي، و التراثي،...إلخ.

ü     الرؤيوية والتنبؤية:  " هي محاولة لاستشفاف الغيب، عن طريق نص شعري حداثي.

 يقول البياتي: 

"إني لأؤمن في غد الإنسان، في نهر الحياة/ فلسوف يكتسح التفاهات الصغيرة والسدود/ ولسوف ينتصر الغداة/ إنسان عالمنا الجديد/ على المذابح والخرائب والوباء.../ إني لأؤمن أيهّا الموت العنيد/ بالفكر يعمر أرضنا الذهبية الخضراء بالفكر الجديد."، استعمل الشاعر مفردات توحي بالتنبؤ/ الاستبصار/ الرؤيا، مثل في غد الإنسان، سوف، ولسوف، إني لأؤمن... فهذه رؤيا استشرافية آملة للمستقبل فيها تنبؤ بالتغير  إلى الأفضل.

وفي قصيدة "موت المتنبي"، يقول:

"أرى بعين الغيب يا حضارة السقوط والضياع/ حوافر الخيول والضباع/  تأكل هذي الجيف اللعينة/ تكتسح المدينة/ تبيد نسل العار والهزيمة/ وصانعي الجريمة/ أرى على قبابك الغربان../ أرى الخفافيش على نوافذ البيوت والحيطان.

وهنا استعمل الشاعر كذلك مفردات تدل على الرؤيا والاستشراف مثل" أرى بعين الغيب، أرى/ مكررة، وهو يكشف هنا زيف الحضارة وغياب القيم الحضارية ويتنبأ  بسقوط هذه المدينة القذرة ( نسل العار والهزيمة/ صانعي الجريمة...)

      هذه بعض العناصر الخاصة بالصورة الشعرية، وهناك تقسيمات وتفريعات كثيرة فيي هذا الموضوع، كأن نقسم الصورة الشعرية إلى جزئية وكلية، أو أن نحدد إطارها في الشعر المعاصر، من خلال التركيز على عناصر:  التشخيص، توظيف الأسطورة، والتكثيف الدلالي، والإيقاع الموسيقي، والغموض، والوزن والقافية، وسيطرة الحسّ المأساوي من ناحية المضمون، أو كالتركيز على التشكيل البصري للقصيدة المعاصرة والذي يلعب دورا خاصا في إضفاء طابع الشعرية...إلخ. وكلها مواضيع سنتطرق إليها بالتفصيل لاحقا، بإذن الله.

 إلاّ أنه من الضروري أن نؤكد على أنّ اللغة الشعرية والصورة الشعرية، موضوعان لا يقتصران على الشعر/ القصيدة، فحسب بل قد يتمظهران في نصوص نثرية متنوعة، فالشعرية ليست حكرا على الشعر فحسب، ومن ذلك قراءتنا لموضوعات تغزو الساحة الأدبية النقدية من قبيل: شعرية النص القرآني، شعرية القص، شعرية المسرح، شعرية الرواية ...إلخ.




Modifié le: Friday 3 May 2024, 17:52