اللغة الشعرية [poétique] هي باختصار شديد ما يميز لغة الأدب الفني (الشعر/ النثر) عن بقية اللّغات في الأجناس والفنون والعلوم الأخرى، حيث تفجر القوى التعبيرية المكتنزة في جوف اللّغة العادية، مما يجبرها أحيانا على الخروج عن المعايير والقواعد السائدة[deviation from  the norm]  دون أن يخترق ذلك - طبعا- أنظمة وقواعد اللغة.  وهي في الغالب لغة تتولى عملية كشف انفعالات الفنان (شعرا/ نثرا)، كانسان مميز، لا يهمه تصوير الوقائع الواقعية، بقدر ما يركز على تصوير وقع تلك الوقائع؛ أي تأثيرها على الإنسان/ الفنان، وطريقة انفعاله معها. وهذا أبرز ما يميزها، ما دامت اللغة هي الأداة الأساسية لنقل الأفكار وتحديد القراءات والرؤى وتمييز كلّ تعبير عن الآخر.. ويمكن توضيح هذا المفهوم من خلال الأمثلة التالية:

·        الانزياح المتعلق بتزاوج اللفظ :

      ويتضح من خلال الانحراف عن مبادئ اختيار الرمز اللغوي وما يفترض أن يقابله، مثل استعمال ألفاظ غريبة بدل المألوفة، أو وضع المؤنث في مكان يفترض التذكير، أو وضع اسم حيوان في مكان يفترض اسم إنسان، أو اقتران الضدّين...إلخ، نقرأ ذلك في عنوان قصيدة نزار قباني "مصلوبة الشفتين"، وقصيدة البياتي "في صليب الألم". وقصيدة  "الألحان الصامتة"  لأحمد زكي أبو شادي... حيث يقابل العنوان بين ثنائيتين أو أكثر، غير مألوف الجمع/ المقابلة بينهما، فالشفاه –عادة – لا تصلب، والألم/ معنوي لا يُقدِّس الصليب، والألحان لا تصمت، وإنّما تمت المقابلة بين هذه الألفاظ على سبيل الانزياح/ اللغة الشعرية. حيث  تجلى الانزياح   -هنا- في العنوان.

وقد تتشكل شعرية العنوان كذلك، عن طريق ظواهر أخرى من الانحراف عن المألوف، كالانزياح التركيبي، أو التقديم والتأخير، أو الحذف والإضمار، كقصيدة "لو... "، وقصيدة "ربما..." لنزار قباني.، وقصيدة الشاعر معين بسيسو "لا..." حيث شمل الحذف -هنا-  أكثر من تركيب.

 كما يحصل مثل هذا الانحراف في المتن/ متن القصيدة، ولا يقتصر على العنوان فحسب، ويمكن أن نمثل له بقول "أحمد مطر": " وجد الألثغ مدهوسا بالصدفة عمدا !".

حيث اقترن الضدان، ]الصدفة/ التعمد[/ على سبيل الانزياح الدلالي، وهو ما يوحي بديكتاتورية الحاكم، وغياب حرية التعبير.

·        القيمة الإيحائية للأصوات

        ونمثل لذلك بقصيدة "الألثغ يحتج" لأحمد مطر: "جنّ الألثغ.../ كان الألثغ مشغوفا بالحاكم جدّا/ بصق الألثغ في المنشور، وأرعد رعدا/ (يا أولاد الكلب كفاكم حقدا، /حاكمنا وغد وسيبقى وغدا)، /يعني وردا !/ وجد الألثغ مدهوسا بالصدفة ...عمدا ".

نلاحظ أنّ تغيير حرف واحد فقط (الراء)، أدى إلى تغيير الدلالة/ المعنى بصفة جذرية، وذلك بتحوّل لفظة (ورد)، المقصودة إلى دلالة أخرى منافية تماما/ قلبت المعنى رأسا على عقب/ وهي لفظة (وغد).

الأصوات المجهورة: ونلاحظ طغيانها على القصيدة، وقد تمثلت في حرف العين: (أرعد، رعدا، عمدا)، الغين: (الألثغ، مشغوفا، المنشور)، القاف: (بصق،حقدا، سيبقى)، الجيم: (جدا وجد)، الياء: (سيبقى، يعني)، النون: (جنّ، كان، المنشور، حاكمنا، يعني)، الميم: (مشغوفا، الحاكم، المنشور، مدهوسا، عمدا)،  الواو: ( واو المدّ، واو الاستئناف، وغد، ورد...). وغالبا ما يقال بأنّها حروف تعبّر عن القوّة، الرفض، التحدي، مع أنّها لا تعني بالضرورة هذه المعاني، وإنما تفهم دلالاتها من السياق الذي وظفت فيه.

الأصوات المهموسة:  ويرى البعض أنّها تحمل دلالات الحزن والخوف، وغالبا ما تعبر عن المشاعر الإنسانية، كالحبّ والحنين،  ونلاحظ أنه لا وجود للكثير منها، هنا، مثل:  ]للهاء، الخاء، التاء[،  ومع ذلك نلاحظ وجود بعضها مثل: الحاء: (الحاكم، حقدا،حاكمنا)، الكاف: (كان، الحاكم، الكلب، كفاكم). الشين: (مشغوفا، منشور)، السين: (سيبقى / مدهوسا)، الثاء: (الألثغ)، الفاء: (مشغوفا، في، كفاكم،الصدفة)، الصاد: (بصق،الصدفة).   وقد عبرت عن مشاعر الرفض والتهكم.

توازي الأصوات:  ونعني به الاشتراك في صوتين أو أكثر   لبناء المفردات، مما يشكل نوعا من الاشتراك في الوزن والإيقاع الصوتي، إضافة إلى اشتراك الصوتين في شكلهما / شكل الكتابة، وقربهما في المخارج الصوتية، ونمثل لذلك بـ (جدّا، رعدا، حقدا، وغدا، عمدا)، التي أضفت موسيقى خاصة للقصيدة /قافية.  وخاصة مفردتي: (وردا/ وغدا) اللتين تمحور حولهما موضوع القصيدة. 

·        القيمة الإيحائية للألفاظ:  

قال الشابي/  إرادة الحياة: "ألا انهض وسر في سبيل الحياة/ فمن نام لن تنتظره الحياة".

       في هذا البيت تحفيز صارخ، ودعوة للحياة، حيث توحي الألفاظ المستعملة هنا بديناميكية، وحيوية، وعزم متقد، يبثه الشاعر، بل ينفثه كالسحر، في النفوس اليائسة، المتهاونة، المستسلمة، وهو يصور ]الحياة[ في صورة ]إنسان[ يتقدم إلى آفاق واعدة، يسير قُدما ، ولا ينتظر ]النيام[ بل يتجاوزهم، وهنا يشعر المتلقي بأهمية مواكبة مستجدات الحياة، والسير قدما، في مسالكها.

وقال أيضا:  "لا ينهض الشعب إلاّ حين يدفعه/ عزم الحياة إذا ما استيقظت فيه/ والحبّ يخترق الغبراء مندفعا/ إلى السماء إذا هبّت تناديه.".

       وهنا، يصور ]الحياة[= ]+ معنوي[، ]+ متاع[، ... في صورة ]إنسان[ /كان نائما واستيقظ =  ]+عاقل[، ]+مخير[، ]+مستعد للتغيير[، ويصور الحبّ/ ]حبّ الحياة [=+]شعور،[ ]+ معنوي[، ]+ نبيل[ في صورة محارب يخترق المعركة الهيجاء/ الغبراء، فيمنحه خصائص جديدة ]+ شجاع[، ]+ مقدام[، ]+بطل[، ]+ مندفع [ حتىّ أنه يخترق عنان السماء، دون خوف.

·          جمع المتناقضات: مثل قول البياتي:

"ستعودين مع الميلاد والموت نبية/ تشعلين النار في هذي السهوب الحجرية، إلى أن يقول: "ستعودين، ولكن لن تعودي".  فالموت   الميلاد،  والعودة اللاّ عودة، فالشاعر يجمع الشيء وضدّه ليدلّ على تناقضات الحياة،  وقد نجح في نقل انفعالاته إلى القارئ، الذي سرعان ما يدرك أنّ الشاعر يعيش صراعا مع واقعه المرفوض. 

- يقول في قصيدة "إلى جواد سليم": "الموت في الميلاد/ والخريف في الربيع/  والماء في السراب/ والبذور في الصقيع"، ونجد أن ]الموت الميلاد[، ]الخريف الربيع[، ]الماء السراب[، ]البذور الصقيع[.  وهو ما يعبرّ عن صراع الطبيعة/ الذي انعكس على ذات الشاعر، المغطاة بثقل القلق والرفض والسلبية، ]الموت + الخريف+ السراب + الصقيع [التي تشكل حقلا للحزن، من جهة، ومحاولته التخلص من هذه المشاعر واستبدالها بالأمل والنماء والايجابية ]الميلاد، الربيع، الماء، البذور[ من جهة أخرى. 

·        تنوع المعجم الشعري:  

        قال إليا أبو ماضي: "إذا ألقى الزمان عليك شرّا/  وصار العيش في دنياك مرّا/ فلا تجزع لحالك بل تذكّر/ كم أمضيت في الخيرات عمرا/ وإن ضاقت عليك الأرض يوما/ وبتّ تئن من دنياك قهرا/ فربّ الكون ما أبكاك إلاّ/ لتعلم أنّ بعد العسر يسرا/ وإن جار الزمان عليك فاصبر/ وسل مولاك توفيقا وأجرا."

    نلاحظ تضافر عدّة معاجم شعرية لتكوين هذه القصيدة،  لتحقيق غاية (النصح والمواساة)، أهمها: معجم الأحزان: (شرّا،مرّا، ضاقت الأرض،تئن، قهرا،أبكاك، العسر،جار الزمان.)، معجم الأمل: ( لا تجزع،الخيرات، يسرا، توفيقا)،معجم الإيمان: ( تذكر، رب الكون، اصبر، سل مولاك، أجرا)، معجم الزمان: (الزمان،العيش، عمرا، بعد.. ).

·        الحذف والإضمار:   

قال صلاح عبد الصبور: " لا لم يمت .../ وتظل أشتات الحديث ممزقات في الضمائر".

       فالشاعر لم يصرّح باسم المرثي، ووضع بدلا عن ذلك ثلاث نقاط .../، تعبرّ عن حذف اسمه، ولكن ملامح الشخصية  تتضح من خلال مواصلة قراءة تفاصيل القصيدة التي تدل عليه، خاصة عندما يذكر (مصر، الثورة الكبرى عشرون عاما، ...إلخ )، إنه رثاء للزعيم "عبد الناصر"  رئيس مصر،  خاصة عندما ختم القصيدة بقوله:

"مصر الولود نمتك، ثم رعتك، ثم استخلفتك على ذراها/  ثم اصطفتك لحضنها/  ..... لتصير أغنية ترفرف في سماها. "

     وبذلك يجعل الشاعر المتلقي شريكا في إنتاج المعنى. فـ"الصورة الشعرية أخذت تحتل موقعا مميزا في بنية القصيدة الحديثة...... بوصفها المعادل الحّسي لملكة الخيال المبدع الذي هو شرط أساس لكل موهبة في الوجود." فالمتلقي يجني لذة قرائية خاصة وهو يفك شفرات النص، ويتعرف إلى الشخصية المحذوفة/ لغزية اللغة الشعرية.

·        التلاعب بالألفاظ:

ü     تحويل المعنوي إلى ملموس:

قال الشابي:  "ومن لم يعانقه شوق الحياة/ تبخر في جوّها واندثر."

 فالشاعر يحول المعنوي/ غير المرئي ]شوق الحياة [= ]+شعور[، ]+ معنوي[، ]+إحساس[ .... إلى شيء ملموس/ مرئي  وهو ]إنسان[ = ]+كائن حي[، ]+ إحساس[، ]+مشاعر [، ]+ فاعل/ يقوم بفعل المعانقة[... التي تعبر عن شدّة الحب والتمسك والرغبة ... وفي المقابل يحول الملموس ]الإنسان[ إلى ملموس آخر/ مختلف تماما، ]الماء[ من خلال خاصية ]التبخر[، فاللّغة الشعرية، تقلب كل الموازين، وتخرج عن السائد والمألوف، عن طريق انزياحها عن المعيار [deviation from  the norm] لتجعل القارئ ينفعل معها ويعيد إنتاج المعنى، ويفك طلاسمه وإيحاءاته وإيماءاته...

- وقال أيضا: " إذا ما طمحت إلى غاية/ لبست المنى وخلعت الحذر." /  تحويل المعنوي المنى + الحذر  إلى ملموس لباس/ عباءة تلبس وتخلع. وذلك مثل قول صلاح عبد الصبور: ".... وثوى في جبهة الأرض الضياء/ ومشى الحزن إلى الأكواخ، تنين له ألف ذراع/ كل دهليز ذراع"

     فهو يحوّل المعنوي/ غير المرئي إلى ملموس/ مرئي، بتحويله ]الحزن[= ]+شعور[، ]+إحساس، ]+ إنساني[،... إلى ]تنين[ =]+حيوان[، ]+ناري[، ]+متحرك[، ]+ مدمر[ ... ]+ عاد بعد الانقراض[، ]+ مخيف[ .... على سبيل اللغة الشعرية / الانزياحية، للتعبير عن سطوة الحزن و الخوف واستحواذهما على قلوب الفقراء والمظلومين والمضطهدين، وهو يصور حالة اجتماعية للشعب آنذاك.

ü     تحويل الملموس إلى معنوي: 

ونمثل لذلك بقصيدة"الألحان الصامتة"/ أحمد زكي أبو شادي: "لغة الحواجب والعيون/ لغة من الشعر الحنون/ أغنت عن اللحن الشجي/وفسرت معنى الفنون وكأنما الألحان إن/ حرمت صداقتها تهون/ وقفت تغني والغناء/ يذوب من فمها فتون/ ورشاقة الصوت الحبيب/كأنها عذب الجنون/ قد رنحت منها القوام/ وأسبلت منها الجفون."

    حيث تحوّلت ]الحواجب والعيون[ إلى ]لغة شعرية ملحنة عذبة[، فتخلت عن صفاتها المادية الملموسة/ ]عضو للرؤية[، واستحوذت على خصائص أخرى/ خاصة، منحتها إياها اللغة الشعرية، بإخراجها عن المألوف/] الرؤية، الإبصار... [إلى شيء معنوي  ]لغة[= ]/ رمز هوية/ وسيلة تواصل.. [ وليست أي لغة بل ]لغة الشعر[ -التي نحن بصدد اكتشاف روعتها الآن- مقترنة بالصفة ]الحنون[، بكل ما تحمله الكلمة من معاني راقية وحساسة... ليكمل الشاعر  بناء قصيدته الشعرية من هذا المنطلق.

ü     تحويل الملموس إلى ملموس من نوع آخر:

قال أدونيس: "أقسمت بأن أكتب فوق الماء/ أقسمت أن أحمل مع سيزيف/ صخرته الصماء"

هنا تحول ]الماء[ = ]+ملموس، + عنصر حيوي، + شفاف، + سائل+... [ إلى شيء آخر:  ملموس كذلك لكن مختلف، ]صفحة/ ورقة  في دفتر للكتابة[ = ]+ ملموس[، ]+ورق[، ]+ لون[، ]+ صلب[،+...[ وهو ما يوحي بتحقيق المعجزات.

        وأخيرا يجدر التأكيد على أنّ اللغة الأدبية عموما تنقسم إلى قسمين؛ لغة تعتمد على الغموض، الذي كثيرا ما يخدم النص، لاتسامه بالإيحاء/ متعة اكتشاف المغالطة الدلالية، وأخرى ترتكز على السهولة والمعنى المباشر، وكلما زاد الغموض عن حدّه انقلب إلى ضده (الإبهام)، كذلك السهولة كلما زادت عن حدّها انقلبت (سذاجة) تخل بالقيمة الفنية الجمالية للنص.

إنّ ما نتوصل إليه بعد هذه التحليلات، هو أنّ الذين يعرفون اللغة العربية بقواعدها ونحوها وصرفها، ولا يضعون اعتبارا للغة الشعرية، مثلهم كمثل أولئك الذين لا يعرفون الأم إلاّ باسمها، فهم لا يرون قيمتها المعنوية في لهفة رضيع يبحث عن رائحة أمه، أو في حنين كهل يتحسس لمسة يديها. وكثيرا ما وصفت اللغة الشعرية بأنّها لغة مشاكسة، ذلك أنّها لا تثبت على حال أو شكل قار، بل هي كعجينة الأطفال؛ تتشكل حسب الانفعالات والعواطف، والأفكار وأشكال التعبير،.. لتوحي في النهاية بمعاني منبثقة كالأشعة؛ تؤول في الغالب إلى تعدد في القراءات؛ واختلافات في الرؤى/ انفتاح النص على التأويل.  


Modifié le: Friday 3 May 2024, 17:48