إن الانتشار السريع والمتتالي للمبادرات في المنطقة نتج عنه جملة من الانعكاسات السلبية يمكن اختزالها فيما يلي:
أولا؛ تأثير اجتماعي وسياسي، يتمثل في جملة من الذرائع والحجج لتجنب التعامل مع المصادر الرئيسية لللاأمن واللاإستقرار في المنطقة، ما يسمح لأصحاب المبادرات بتجنب التعامل مع النزاعات العالقة الرئيسية: سبتة ومليلية، قبرص، الصحراء الغربية، والصراع العربي-الإسرائيلي، الذي يمثل أكبر بؤرة توتر وعدم استقرار في المنطقة. وحجتهم في ذلك، هي أن المبادرات المطروحة مكملة ومدعمة لبعضها البعض وهدفها الأساسي مساندة عملية السلام، أما في الحقيقة، فإن هذه المبادرات الإقليمية ما هي إلا شهود حتى نهاية عملية السلام، واتضح أنها لا تؤثر إطلاقا على بؤر التوتر وكأنها تحمي نفسها، كما أنها لم تنجح حتى ولو في فرملة هذه النزاعات لأنها ببساطة لم تصمم أصلا لحلها، إنما تتطفل على الجهود الأخرى وعلى مسارات السلام. لذا فهي لم تأتي بشيء جديد فيما يخص قضية الأمن في المتوسط، وهدفها دفع العرب للتطبيع وقبول إسرائيل في المنطقة، وبذلك فهي تعمل على إدارة الوضع الراهن لا غير.
وبما أن كل المبادرات الإقليمية أطلقت بفضل عملية السلام العربية –الإسرائيلية، وجاءت في إطار دينامية أوسلو بتقديم نفسها كمنبر لالتقاء العرب والإسرائيليين، فإنها تتأثر بمجريات هذه العملية وما آلت إليه، ورغم أن الأوروبيين يقرون بأن مسار برشلونة يعمل كآلية للتطبيع العربي-الإسرائيلي، إلا أنهم في نفس الوقت يرفضون أن يكون منبرا يسعى من خلاله العرب لإدانة سياسة إسرائيل، في حين أن الموقف العربي يؤكد ويصر على أن الصراع العربي-الإسرائيلي يبقى العقبة الأساسية أمام إحلال الاستقرار والأمن في المنطقة، وبالتالي عدم إمكانية الفصل بينه وبين المبادرات الإقليمية سواء الاقتصادية منها أو الأمنية، بدليل أن كل هذه المبادرات تعثرت بالمسائل الأمنية الرئيسية بسبب هذا الصراع العالق، ما يثبت أن أي محاولة لفك الترابط الأمني في المتوسط سيكون مصيرها الفشل لا محالة.
ويمكن الاستدلال بتجربة مجموعة (5+5) التي تبرز كيف أن هذا الصراع يمكن أن يكون عامل فك ترابط، وترابط في نفس الوقت، حيث كان الهدف من التحديد الجغرافي للمجموعة منذ البداية واقتصارها على غرب المتوسط هو عزل نفسها عن بيئة النزاع الشرق أوسطية، ومع انطلاق عملية السلام فقد هذا الإطار مبرر وجوده السياسي، لكن أزمة عملية السلام فيما بعد كانت عاملا حاسما في إعادة إحيائه. كما أن الموازنة الجيوبوليتيكية بين إطار(5+5) وعملية برشلونة يعكس مشكلة تقييد المفاهيم الموسعة للتعاون الإقليمي، كنوع من الجدل للأبعاد الإقليمية والإقليمية الفرعية، وفي الحقيقة فإن انطلاق مبادرات جديدة يجعل الفواعل الرئيسية والمحلية أقل جدية وأقل التزاما بالتعاون الإقليمي، لأنه عندما تظهر مشكلة ما يقومون ببساطة بترك مبادرة لصالح أخرى، فبعد الإحباط الذي صاحب المبادرات الإقليمية المختلفة وخيبة الأمل بنتائج عملية برشلونة بالخصوص، كانت المحاولة للبحث عن بديل تمثل في إعادة إحياء المجموعة (5+5) في قمة تونس، وإن كانت هذه المجموعة المحدودة في الحقيقة تفتقر للتمويل ولا تمثل بديلا لمسار برشلونة. وهذا يعني التعامل مع هذه المشاريع بأنها قطع غيار تستبدل بأخرى، لكن المشكلة هنا تصبح التعامل مع ما يصوره الفرنسيون "بمعضلة الصمام وقماش الأرضية"، فعندما تكون هناك حنفية تسرب المياه، استعمال قماش الأرضية سيكون مفيدا، لكنه لا يصلح المشكلة التي هي في الأساس الصمام.
ثانيا؛ أسبقية الثنائية، فكل هذه المبادرات والحوارات هي مسارات ثنائية لمجموعة (25+1)، هذا الاتجاه التركيبي في علاقات شمال-جنوب جدد ودعم بعدة مبادرات (اتفاقية عملية برشلونة، خطة عمل سياسة الجوار الأوروبية، وبرنامج التعاون الفردي للحوار المتوسطي لحلف الأطلسي) وأدوات تطبيقها كلها ثنائية، الأمر الذي يدعم المسارات الثنائية على حساب المسارات المتعددة الأطراف التي تخلق جوا من الثقة بين الأطراف، وهو ما لا يساهم في وضع أسس لإقامة بنية إقليمية أمنية موحدة في المتوسط، رغم أن مبادرة الحلف الأطلسي لا تزال تمشي بخطى ثابتة خاصة في مجال المسارات الثنائية، والمجموعة (5+5) التي تسير هي الأخرى بشكل صحيح في هذا المجال، وفشل مسار برشلونة الذي كان بسبب طموحه الأكبر من المبادرات الأخرى. كما أن الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي طبقا نفس المقاربة الثنائية للمرشحين للعضوية في مؤسستيهما، لكن العضوية صممت كأداة متعددة الأطراف في خاتمة العملية، أما في حالة المتوسط فالنتيجة النهائية مازالت علاقة ثنائية متقدمة ويبقى التفكك الأمني في المنطقة العائق الأول والأخير، ما يفسر بأن هناك خللا في تركيبة هذه المبادرات، إذ هناك كتل في الشمال متجانسة ومتفاهمة فيما بينها، وهناك دول من الجنوب تتقدم إلى هذه المبادرات فرادى ومتخاصمة فيما بينها وتحاول تحقيق مكاسب استراتيجية على حساب الأطراف الأخرى، مثلا المغرب وتونس ظنتا انه بمسارعتهما للانضمام إلى هذه المبادرات والتنافس فيما بينها في ذلك سيحقق لهما امتيازات على حساب الدول الجنوبية الأخرى، ولكن لم يحصل هذا في الحقيقة وذلك ما استدعى تقديم المزيد من التنازلات، والمشكلة هنا هي أن عدم التجانس من جهة والتنافس العكسي من جهة أخرى يقوم بإجهاض أي عملية متعددة الأطراف، ما ولد قناعة لدى الحكام أن المسارات الثنائية أحسن من المتعددة كالمغرب مثلا (في قضية الشريك المتميز للاتحاد الأوروبي، والوضع المتقدم خارج حلف الأطلسي) تبحث عن التميز أمام الأشقاء، رغم أن الواقع يثبت عكس هذه الصفات الممنوحة، والخطاب هو عكس الممارسة تماما، على سبيل المثال مقولة: "تقاسم كل شيء ماعدا المؤسسات في سياسة الجوار" غير صحيحة فالحريات الأربع مبتورة، وإذا لم يكن هناك تقاسم فعلي للفضاء الأورو-متوسطي فلا يمكن تكوين مجموعة. إذن كلما كانت درجة الإجماع عالية جدا كلما كان التعاون في درجة عالية، وبالتالي يكون هناك اتفاق وتشابه بين الطرفين، بمعنى أن درجة التوافق بين الطرفين هي التي تحدد درجة التعاون.
ثالثا؛ الازدواجية في العمل وغياب التعاضد بين المبادرات، بمعنى أن المبادرات عديدة ولكنها تعمل في نفس المجالات، مثلا مبادرة حلف شمال الأطلسي تقوم على العمل سويا مع قوات دول الجنوب، وخلق انسجام وتجانس في تعويد القوات على العمل مع بعضها بدون أي إشكال، ومجموعة (5+5) تتحدث عن نفس المجال، وكلها عضوة في المجموعة الأولى ماعدا ليبيا التي تم إعادتها فيما بعد، بالإضافة إلى الاشتراك في التعاون في مجال الحماية المدنية، ومنه تعاون البلدان المنخرطة في الحوار في العمل مع بعضها لمواجهة مشاكل طبيعية أو انفجار في مصنع للمواد الكيميائية مثلا، فهناك مبادرات تتحدث في نفس المجالات بدون فائدة، لأنها جميعها تركز على الجانب الأمني بالأساس، مما يفرغها من محتواها، ثم أن كل إطار سواء الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي لا يريد أن يكون أحدهما منطويا تحت الآخر، إنما يسعى كل إطار إلى التميز والانفراد بمبادرته، وهو السبب الذي دفع بالحلف الأطلسي إلى تسويغ مبررات بقائه بعد انتهاء فترة الحرب الباردة. وبخصوص قضية الازدواجية في العمل فقد طلبت الجزائر توضيحات من الأوروبيين بخصوص إضافة حوار أمني مع الدول المتوسطية المنخرطة في الشراكة الأورو-متوسطية وذلك في إطار السياسة الأوروبية للأمن والدفاع، والقيمة المضافة التي سيوفرها هذا الإطار مقارنة بالحوار المتوسطي للحلف الأطلسي، وكذلك عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ودعت من خلال الندوة الوزارية الأوروبية-المغاربية المنعقدة في لندن في جوان 2004، إلى ضرورة أن يكون هذا الإطار المتعلق بقضايا الدفاع والأمن كإطار جديد بقيمة إضافية للمبادرات الجارية في مجال الحوار السياسي، لكن دون إحداث ازدواجية في العمل مع الحوار المتوسطي للحلف الأطلسي، والمغرب من جهته ادعى في ماي 2005 أن أهداف وأعمال السياسة الأوروبية للأمن والدفاع أهم من تلك المتعلقة بالشراكة الأورو-متوسطية. وهو ما سيؤدي إلى خلق أطر جديدة التي ستؤدي بدورها إلى إضعاف الحوارات الشاملة وإعاقة إمكانية تشكيل بنية أمنية إقليمية في المتوسط. وأحيانا هذه الازدواجية هي نتيجة داخل مؤسسة واحدة في حالة الاتحاد الأوروبي الذي يعمل من خلال مرحلتين: حوار في إطار الشراكة الأورو-متوسطية من خلال مجموعة كبار المسؤولين، وحوار على مستوى خبير بين اللجنة الأمنية والسياسية للاتحاد الأوروبي والدول المتوسطية في إطار السياسة الأوروبية للأمن والدفاع، وحتى الدول المغاربية تساهم في هذه الازدواجية، كالجزائر في تفضيلها للحوار الأمني الأورو-مغاربي كعملية أمنية لبرشلونة مصغرة، والذي يوجد من خلال الإطار المحصور لمجموعة (5+5)، وكل هذا يشمل الانطلاق المستمر للهياكل الجديدة بعيدا عن أي تصور لبنية أمنية إقليمية، وهذا التجزؤ في الأمن يمكن أن يبرر بتحديد البحر المتوسط على أنه مجموعة من المناطق الفرعية، ما يجعل الدينامية الأمنية المتوسطية مفككة المفاصل ومختلفة من منطقة إلى أخرى.
الإشكال الآخر يخص مجالات التعاون، فأصحاب المبادرات هم الذين يحددون أجندة التعاون وفق مصالحهم، بالتالي: فما هو جدواها؟ وما هي القيمة المضافة بالنسبة إلى الهندسة الأمنية في المتوسط؟ إن هذه المجالات هي تجسيد وفرض لمصالحهم مثلا: في مسألة "حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل" وذلك بتشديد اللهجة حول الخطر المحتمل وراء المشروع النووي الإيراني، وفي المقابل غض الطرف عن إسرائيل. وذلك لأن هوية الفاعل هي المحدد الأساسي في هذه العملية، فإذا كان انتشار الأسلحة النووية يتعلق بحليف أو صديق للغرب كإسرائيل مثلا فهو لا يمثل إشكالا أو تهديدا والعكس إذا كان الأمر يتعلق بعدو، وهو ما يعكس الاختلاف في مدركات التهديد بين الدول الشمالية والجنوبية، فما تعتبر هذه الأخيرة تهديدا جامع ومانعا يعتبره الغرب تهديدا جامعا غير مانع. الأمر نفسه ينطبق على منع تطوير الصواريخ طويلة المدى وربطها بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، الهدف منه حظر امتلاك تكنولوجيا الصواريخ باعتبار أنها تؤدي إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وهي قضية تسويق أو تذويت للتهديد عن طريق جعل إيران كتهديد للمنطقة، في حين يمكن اعتبار امتلاك إيران لأسلحة دمار شامل من منظور واقعي كمقدمة لتوازن نووي في المنطقة. ما يعكس واقع أمني مشتت تميزه الريبة والشك المتبادل.
رابعا؛ التنافس بين الفاعلين الأساسيين في هذه المبادرات، أي بين أوروبا وأمريكا، بالرغم من أن كل فاعل يروج إلى أن مبادرته لا تستهدف المشاريع المطروحة في المنطقة أو تحاول استبدالها وإنما تكملها، وفي هذا الشأن تؤكد أوروبا من خلال الندوات الأورو-متوسطية عل أن وجهة مسار برشلونة ليست الحلول مقام المبادرات الأخرى (عملية السلام، مؤتمرات الشرق الأوسط، شمال إفريقيا...)، ولكن أن تكملها، والأمريكيون بدورهم يقولون بأن مشروع الشراكة مع الشرق الأوسط لا يستهدف عملية برشلونة، في حين أن الواقع يثبت غير ذلك حيث أن التنافس هي السمة المميزة للعلاقات بين الفاعلين في المتوسط.