اللسانيات والتواصل اللغوي.
تمهيد
تهدف هذه المحاضرة إلى أن تجيب على السؤال الآتي: إذا كان هدف اللغة الأساس هو التواصل، فما حقيقة هذا التواصل وما شروطه؟ حتى تتحقق هذه العملية كاملة دون ابهام.
- التواصل اللغوي ينطوي على استخدام لغة مفصلية، نظام من العلامات المباشرة، صوتية، شفهية، علامات منطوقة، أو علامات اللغة المكتوبة، شفرة من العلامات البديلة للغة المنطوقة.
- مصطلح التواصل يغشاه شيء من عدم الوضوح لثرائه على المستوى المعجمي، بسبب تمدده عبر روابط عديدة من أليات اللغة كالترادف واختلاطه مع العديد من المصطلحات التي تقاسمه الدلالة إن من حيث الجذر اللغوي أو من حيث المجال الدلالي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر المفردات الآتية: التواصل، الاتصال الإيصال، الوصل، والإبلاغ، الإخبار، التخاطب، التحاور إلخ ورغم ما قيل في هذا الإطار يبقى الأهم هو الإشارة إلى ذلك الفرق الدقيق بين " التواصل" و" الإتصال" حيث أن الاول يحدث مطلقا بين عنصري هذه العملية، بينما الثاني قد يحدث بواسطة أو دونها، باعتبار أن أغلب المراجع التي استعملت كلمة" اتصال" استخدمتها في إطار الوسائل البيداغوجية اثناء العملية الاتصالية، وهذا لوجود فئة مِن الدارسين مَن يحبذ في مجال الاتصال " استخدام مصطلح "التواصل" بدل الاتصال.
والسبب في ذلك - حسب رأينا طبعا - راجع إلى كون مصطلح الاتصال مترجَما عن لغة أخرى هي الإنجليزية أو الفرنسية بحسب المترجِم إن كان متقنا لاحديهما أكثر من الأخرى، ممّا يدفعنا بالتالي إلى تقصي أصل نشأة هذا المصطلح واستعماله في السياق التداولي اللساني.
1- التعريف:
تذهب أغلب أراء المختصين في هذا المجال إلى أن التواصل عملية تبادل المعلومات والمشاركة في الرسائل والأفكار بين الأفراد أو الأنظمة المختلفة
2- أصل النشأة والتطور
إن بؤرة التقاطع البارزة بين مختلف الاتجاهات سواء التي نحت منحى سوسيولوجيا أو منحى أنثروبولوجيا تجد أسسها وبداياتها الاولى في دراستها للسان البشري داخل مسارات الاستعمال اليومي، واعتبارها معطى سوسيوثقافي لهدف معرفة الروابط الموجودة بين المتغيرات المتعلقة باللغة، والثقافة والاجتماع.
ولذلك من الصعب إقامة حدود فاصلة بينها في مقاربتها للغة حيث يصنف من خلالها كل تيار منعزل عن غيره بشكل تصبح تلك الحدود واضحة بين اشتغالاتها تلك، الامر راجع إلى التجاور وصلة القربى التي تبلغ أحيانا إلى حد التداخل، ولو أنه لا يصل إلى درجة التماهي بالصورة التي ينتج عنها تطابق تام.
لهذا نجد من الباحثين من ينسب البوادر الأولى لظهور هذا المصطلح إلى تلك المجهودات التي سبقت الابحاث النظرية حول الانظمة التواصلية من خلال دراسات بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر في الفيزياء وفي الرياضيات، حول مفهوم " احتماليات الحدث"*، وإمكانية قياس هذه الاحتمالية. وبعد المحاولات التمهيدية تمكنت نظرية التواصل من تحديد موضوعها وتأسيس منظوراتها الجديدة.
أما على المستوى اللساني فهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يرجع الارهاصات الأولى لظهور هذا المصطلح في ارتباطه بتعليم اللغات، حينما دعا" أفريل هووات (" إلى تعليم اللغات من منظور اتصالي، في القرن السابع عشر حين كتب "جون لوك" عن تعلم اللغة قائلا: يتعلم الناس اللغة من أجل التعامل مع المجتمع، وتحقيق الاتصال، (وهنا ذكر جون لوك كلمة الاتصال نفسها) بين الافكار في الحياة العادية بدون تخطيط، أو تنظيم مقصود مسبق في استخدامهم للغة. ومن أجل هذا السبب فإن السلوب الحقيقي أو الأصلي (ويستخدم هنا كلمة أصلي original) لتعلم اللغة، فإنما يتم بالمحادثة Conversation. وهذا وحده أدعى لتحقيق تعلم سريع معجل Expedite مناسب propre، وطبيعي Naturel."
فاستعمال مصطلح الاتصال ليس جديدا، بل منذ الوهلة التي تم إدراك أنّ من بين وظائف اللغة الأساس الاتصال، حيث جُعلت وسيلة تعامل بين الناس في المجتمع. إلى أن يأتيوسط القرن التاسع عشر تقريبا، فينتبه معلمو المهاجرين إلى أمريكا آنذاك، إلى طرق تعليم اللغات بأسلوب اتصالي فنجد مصطلحات كالطرق الطبيعية وطرق المحادثة والطريقة المباشرة، والمدخل الاتصالي، ورغم تعدد أسماء هذه الطرق واختلاف اساليبها بيداغوجيا، وكيفية أجرأتها، إلاّ أن خلفيتها النظرية تكاد تكون واحدة، وهي تعليم اللغة بشكل اتصالي.
أما إذا تم الرجوع إلى أزمنة بدايات صدور المراجع والبحوث التي ارتبطت بهذا الحقل المعرفي، كدليل على بداية ظهور مصطلحه، فيمكن لنا أن نعتبر سنة 1964 تحديدا، بروز ما اعتبر فيما بعد من طرف الباحثين والدارسين من أهم الانتاجات العلمية لديل هايمز((D.Hymes، الموسوم ب: اللغة في الثقافة والمجتمع ( (langage dans culture et société، والذي ألقى من خلاله رأيه المتعلق بالعلاقة الموجودة بين الانثروبولوجيا واللسانيات وعلم الاجتماع اللغوي، كما تم الصدور وفي السنة ذاتها العدد الخاص من المجلة المسماة " الانثروبولوجي الامريكي" ( l'anthropologiste américain برعاية (ج. كمبرز G.Gumberz) و(ديل هايمز( D.Hymes ، حيث تضمن العديد من النصوص والمواضيع الاصلية التي تناولت ما يربط الأنثروبولوجيا بالتواصل، علما أن أغلب هذه النصوص قد تم تناوله عبر دراسات قدمت في لقاءات نظمتها جمعية الانثروبولوجي الامريكي( L'association de l'anthropologiste américain)، واعتبر ذلك أول مرة يلتقي فيها معا - قامات علمية - ذوو اهتمامات مشتركة وإن نحا كل واحد فيما بعد نحوا خاصا به من أمثال) لبوف W.Labov) و( جوفمان (Jofman و ( برنشتاين Bernstein) وطبعا( ديل هايمز D.Hymes
وبعد سنتين تقريبا، يصدر (و. برايت ( W.Bright، كتابه الموسوم (sociolinguistiques اللسانيات الاجتماعية)، والذي اعتبر نتاج أعمال قدمت بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس بالولايات الامريكية المتحدة سنة 1964، حيث طرحت فيه مصطلحات تتعلق بالتواصل في علاقته باللغة من خلال البحوث التي تم الاتفاق على الاقبال عليها مستقبلا كالهوية الاجتماعية للمشاركين بانخراطهم في السيرورة التواصلية، وضبط الفضاء الاجتماعي الذي تحدث خلاله الاحداث اللسانية، وما هي امكانيات اللسانيات الاجتماعية التي يمكن أن تفيد بها في الواقع العملي إلخ، وكل هذه المسائل كما يبدو من قضايا التي تهتم بها مصطلح اللسانيات الاجتماعية( la sociolinguistique)، والملاحظ أن هذه التواريخ المذكورة تتوافق كلها حول البوادر الاولى التي انطلقت فيها البحوث والدراسات التي ارتبطت بهذا الاختصاص.
3- خصائص التواصل اللغوي( Les caractéristiques de la communication linguistique)
أ- الشفرة:
ويفترض في الشفرة (الرمز) أن تكون الوحدات موجودة مسبقا. هناك الرمز المرسوم، والذي يقدم، للشكل الصوتي للوحدات اللغوية الضرورية، مقابلات بصرية تتكيف بشكل أفضل مع احتياجات المحادثة من الرسائل. أمام هذا الرمز، ليس هناك رمز آخر، ولكن اللغة، باعتبارها كتلة منظمة من تراكم التجارب، فريدة من نوعها لدى الفئة اللغوية التي تستعملها، من الوحداتها الصوتية والصرفية التي لا توجد مسبقا للغة "لأن لا تتكون اللغة من أخلاقيات مرتبطة بالحقائق التي تعطى مرة واحدة للجميع، من الأبدية، ومطابقة من مجتمع إنساني لآخر. رمز يبدأ دائما من رسالة شكلت بالفعل كي تؤدي إلى رسالة أخرى، لإعلام مباشرة على الواقع خارج لغوي. إذن يبدأ الرمز دائما من رسالة شكلت بالفعل كي يؤدي إلى رسالة أخرى معبر عنها برموز مختلفة، حيث يمكن للغة الإعلام مباشرة على الواقع خارج لغوي.
ب- الرسالة:
يتم إنشاء رسالة اللغة الطبيعية من وحدات صرفية وصوتية أدنى من نوعين: التقطيع المزدوج الأول والتقطيع المزدوج الثانيأي يمكن للغة الإنسانية ان تحدد بتقطيع مزدوج، تقطيع أولا وفق مستويين: للمحتوى والتعبير، ثم تقطيع على مستوى التعبير فقط
ج- تبديل الرموز:
هذا المصطلح ينطبق على مسلسل من التغيرات مجتمعة ( منتظمة) وقعت عندما يغير شخص ما محاوره و/أو وضعيتة التواصلية، فسنجد أنفسنا مثلا محرجين عندما نستعمل شفرة خاصة مع صنف من المتحاورين (مثلا مع الوالدين في حالة توضيح وضعية تواصلية معينة ويدخل شخص أخر في الموضوع، يفسد ما كنت تريد توصيله من رسالة( الأخ/ الأخت/ العم/ صديق)
فعندما يتمكن الانسان من معرفة الوقت (quand?) الملائم الذي يتحدث فيه بشكل واضح بحيث لا ينتج من كلامه هذا وضعية ابهامية يوقع فيها المستمع، وعندما يعرف هذا الإنسانُ نفسُه الحال التي عليه أن يسكت فيها، وما المحل (où?)، وماذا يقول مراعاة لمن حوله وبأي أسلوب كانت طريقة الكلام، حينئذ فقط يمكن لنا الحكم على هذا الشخص بانه يملك الكفاية التواصلية بحسب منظور هايمز (Hymes).