تصويب تاريخي: كتاب (نقد النثر) أو كتاب (البرهان في وجوه البيان)؟؟

نشر طه حسين وعبد الحميد العبادي سنة 1932م رسالة محفوظة بمكتبة الإسكوريال بعنوان (نقد النثر) منسوبة لقدامة، وقد كتب ناسخها في خاتمتها كمل (البيان) بحمد الله -تعالى وحسن عونه-. وكان الاسم الحقيقي للرسالة هو (البيان)  لا (نقد النثر) كما جاء في العنوان المرفق بها. وقد شكك طه حسين في نسبتها إلى قدامة بن جعفر، بل كاد يقطع في جزم بأنها لا يمكن أن تكون له. وقال إنها في الغالب لكاتب شيعي ظاهر التشيع، قد صنف كتباً عدة في الفقه وعلوم الدين، بينما ذهب عبد الحميد العبادي إلى أن الرسالة صحيحة النسبة لقدامة، على الرغم من أنه لم يجد فى (فهرست) ابن النديم ولا في (كشف الظنون) ولا في (معجم الأدباء)، ولا في أي مرجع آخر إشارة من قريب أو من بعيد تدل على أن قدامة صنف كتاباً في نقد النثر أو في البيان. وبينما الشك يلف الكتاب وصاحبه إذا علي حسن عبد القادر بنشر مقالا له في سنة 1368 هـ / 1948م بـ(مجلة المجمع العلمي العربي) بدمشق، يقول فيه إن هذا الكتاب الذي طبع باسم "نقد النثر" ونُسب خطأ إلى قدامة إنما هو جزء من كتاب (البرهان في وجوه البيان) لإسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب، عثر عليه في بعض المكتبات الأوربية.

 

ترجمة صاحب الكتاب:

هو إسحق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب، وأسرته كانت تخدم في الدواوين العباسية منذ عصر المأمون، وكان جده سليمان من جلة الكتاب، ووزر للخليفتين: المهتدي بالله والمعتمد على الله، وتوفي سنة 272هـ. وفي ذلك ما يؤكد أن إسحق كان يعيش في أوائل القرن الرابع الهجري، فهو معاصر لقدامة، وتراه في أثناء حديثه ممن كانوا يغربون في ألفاظهم، ويلتزمون السجع في عباراته. 

كتاب (البرهان) المعروف بـ(نقد النثر):

- ألفه معارضة لكتاب الجاحظ المسمى (البيان والتبيين)، وقد وصفه بأن مسائل البيان فيه تختلط بالنماذج الأدبية اختلاطاً يجعلها غير واضحة، بل قال إن الكتاب يخلو من وصف البيان ومن تمييز أقسامه، وكأنه يريد أن يقول إن البحث في البيان ليس من شأن المتكلمين من أمثال الجاحظ، إنما هو من شأن المتفلسفة الذين استوعبوا استيعابا دقيقاً كتابات أرسطو في المنطق والجدل والخطابة والشعر. وهو يستهل الكتاب ببيان أن الله فضل الإنسان على سائر المخلوقات بعقله الذي يفرق به بين الخير والشر، والنافع والضار.

- ويقول إن الله امتدح في كتابه البيانَ، ويعقد فصلا لوجوهه الأربعة، وهي:

- بيان الأشياء بذواتها.

- وبيان بالقلب عند إعمال الفكر واللب.

- وبيان باللسان وهو القول.

- وبيان بالكتابة.

● ويقول إن بيان الأشياء بذواتها -وهو الاعتبار- بعضه ظاهر يدرك بالحس، ولا يفتقر إلى برهان ولا استدلال، وبعضه باطن لا يدرك إلا بالعقل، والعقل إنما يدركه بالقياس أو بالخبر. ونراه يعقد فصلا للقياس يحلله فيه على طريقة المناطقة، ويقول إنه إما أن يكون في الحد أو في الوصف أو في الاسم. ويفصل صوره تفصيلا دقيقا يودعه نحو ثماني صفحات من كتابه، پختمها بقوله : "هذه جمل في وجوه الاستدلال والقياس تدل ذا اللب على ما يحتاج إليه، ومن أراد استيعاب ذلك نظر في الكتب الموضوعة في المنطق، فإنما جعلت عماداً وعيارا على العقل، ومقومة لما يخشى زلـله، كما جعل البركار لتقويم الدائرة والمسطرة التقويم الخط". وكأنه يرى تعلم المنطق ومعرفة صور القياس شيئا أساسيا في البيان، وهو يوغل في ذلك إيغالا شديداً، حتى كأننا بإزاء مختصر دقيق للقياس الأرسططاليسي. ويتحدث عن الخبر، وهنا يتحول من الفلسفة إلى علم الكلام والفقه وأصوله، فيقسم الخبر إلى يقين وتصديق، ويجعل اليقين ثلاثة أقسام: أولها خبر التواتر المستفيض بين الناس، وثانيها خبر الرسل، ويضيف إليه -بحكم تشیعه- خبر أئمة الشيعة المعصومين، وثالثها ما تواترت به أخبار الخاصة. أما التصديق فهو الخبر الذي يأتي به الواحد أو الآحاد. ويقول إنه قد يستنبط علم باطن الأشياء بالظن الذي يحتاط فيه حتى يقع موقع اليقين .

● وينتقل ابن وهب إلى البيان الثاني، وهو الاعتقاد المبني على البيان الأول، ويقول إنه على ثلاثة أضرب: حق لا مراء فيه، ومشتبه يفتقر إلى الإثبات، وباطل لا مرية فيه ولا شبهة. وينبغي أن نصدق الأول ونكذب الثالث، أما الثاني فنحتاط إزاءه حتى يتبيين لنا صدقه أو كذبه. ويتعرض هنا للتضاد في أخبار الثقات، ويقول إنه لا يقع من أئمة الشيعة لما اتصفوا به من الحكمة، إلا حين يضطرون إلى التقية، وهى أصل من أصول العقيدة الشيعية، إذ يقولون إن للشيعي أن يظهر خلاف ما يضمر حين يخشى على نفسه من عقوبة حاكم باغ! وأجازوا ذلك حتى للأئمة.

● ويمضي إلى البيان الثالث، وهو العبارة أو القول باللسان، ويقسمه قسمين: ظاهراً لا يحتاج إلى تفسير وباطنا يحتاج إلى تفسير ويتوصل إليه بالقياس والخبر الذين أطال في شرحهما آنفاً. ثم يتحدث عن خواص العبارة، ويقول إن من هذه الخواص ما هو عام للعرب وغيرهم، ومنها ما هو خاص لهم دون غيرهم. ويذكر من العام قسمة العبارة إلى خير وطلب، أو كما قال البلاغيون من بعده إلى خبر وإنشاء. ويلاحظ أن من الخبر ما هو مقيد وهو الواقع بعد الشرط، ويقول إنه لا يفيد حكماً؛ إذ هو معلق بقبول فعل الشرط في مثل: إذا قام زيد صرت إليك. ويتحدث عن الصدق والكذب في الأخبار، وهو مبحث اتسع به البلاغيون المتأخرون فى مؤلفاتهم منذ السكاكي، وإنما جاء بهذا البحث وبما سبقه من الخبر حين يكون جوابا بشرط وقرن بهما النسخ ليبرر ما يعتقده بعض الشيعة من (نظرية البَدَاء) على الله تعالى عن ذلك علوا كبيراً، إذ مضى يقول إن البداء أو نسخ الأحكام إنما هو في الأخبار المشروطة. وأداه ذلك إلى الحديث عن الكلام الذي يقال في (التقية)، وهل يوصف بالكذب أو بالصدق، كما أداه إلى الكلام في إخلاف الوعد والوعيد، وهل يعد ذلك صدقاً أو كذباً، أو أن الإخلاف قسم مستقل برأسه. وأشار إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من أن إخلاف الله لوعيده عفو وتفضل. وأشار أيضاً إلى ما يجري في أسماء الناس من النعوت والألقاب التي لا يراد بها حكاية واقع، وإنما يراد بها التعظيم أو التفاؤل.

وعلى هذا النحو يظل ابن وهب حتى صفحة 52 من كتابه مشغولا بمقدمات للبيان القول جلبها من المنطق ومن عقيدته في التشيع ومن علم الكلام وأصول الفقه ومسائله. ويتقدم فيتحدث عن الخصائص الخاصة بالعبارة العربية، ونراه يقتدي بأرسطو في كتابيه الخطابة والشعر.

وخرج من المنظوم إلى المنثور فقسمه إلى أربعة أنواع: خطابة وترسل واحتجاج وحديث. وذكر نعوت الخطابة وخصائص أساليبها متأثراً أشد التأثر بما كتبه الجاحظ في (بيانه)، حتى ليمكن أن يرد الكلام من ص 95 إلى ص 113 إلى مواضعه من كلام الجاحظ، عبارة عبارة، سواء في لغة الخطيب وما تحتاجه من الوضوح والبعد عن اللفظ الغريب، وأضاف إلى ذلك التخفف من السجع، أو في هيئة الخطيب وصوته، أو في افتتاحه لخطبته واقتباساته من القرآن ومن الشعر، أو في الملاءمة بين كلامه والسامعين؛ بحيث يوجز في مواضع الإيجاز، ويطنب في مواضع الإطناب، وأشار إلى شدة إيجاز أرسطو وإقليدس في كتاباتهما، وشدة الإطناب في كتابات جالينوس ويوحنا النحوي. وانتقل إلى الترسل فتحدث عن حسن الخط، وصفات الرسول الجيدة. ثم أفرد فصلا امتد إلى نحو عشرين صحيفة، أجمل فيه كتاب الجدل الأسطو، وما زاده المتكلمون في مباحثه، صوراً طريقة استخدامه في العربية. وذكر أن المجادل ينبغي أن لا يورد على خصمه ما لا يفهمه من بعض اصطلاحات فنه إذا لم يكن من أهل هذا الفن، ومثل بطائفة من كلام المتكلمين ومصطلحاتهم لا يفهمها إلا أبناء جلدتهم، وهو في ذلك متأثر أشد التأثر بما سبق أن تحدثنا عنه عند بشر بن المعتمر، من وجوب مطابقة الكلام لمستمعيه. ويمضي إلى باب الحديث أو الكلام الشفوي، فيقسمه إلى جدٍّ وهزل، وصدق وكذب، وسخيف وجزل وما إلى ذلك، ويقول إن لكل نوع موضعه، وفى كل نوع المقبول والمرذول، ويقدم للمحدِّث بعض نصائح خلقية، وبذلك ينتهي الكتاب أو ما نشر منه.

Modifié le: Wednesday 14 December 2022, 07:34