ترجمة بشر بن المعتمر:

- هو أبو سهل الهلالي، مؤسس فرع الاعتزال في بغداد، تنسب إليه فرقة البشرية. اتصل بالفضل بن يحيى البرمكي، وكان مقرباً منه، وأزهر في أيام هارون الرشيد، توفي سنة 210ه / 825م.

- يمكن اعتباره أول مؤسس لعلم البلاغة العربية، وذلك بالصحيفة القيمة التي نقلها الجاحظ عنه في( البيان والتبيين، ص 170). كما كانت له قدرة فائقة في نوعي المُخمَّس والمزدوج من الشعر. قال الجاحظ:"لم أرَ أحداً أقوى على المُخمّس والمزدوج مما قوي عليه بِشر، وقد كان في ذلك أقدر من أبان اللاحقي". وشعره مليء بذكر حكمة الله في خلقه وبالأخص في الحيوان، وله في هذا الباب قصيدتان طويلتان ذكرهما الجاحظ في كتاب الحيوان، ولعلّ هاتان القصيدتان هما اللتان أوحتا للجاحظ تأليف كتابه الحيوان، وقد ذكر المرتضى في (رسائله) أن له قصيدة مكونة من أربعين ألف بيت رد فيها على جميع المخالفين.

- أما مذهبه في الاعتزال، فلم يبق من أقواله إلا القليل، ويظهر أن أهم ما بحثه هو مسألة المسؤولية أو التّبعة، فقد ذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أنه "هو الذي أحدث القول بالتولّد وأفرط فيه". وقد تتلمذ له كثيرون في الاعتزال ،كان من أظهرهم شخصية، وأبعدهم أثراً في نشر الاعتزال في بغداد ثلاثة: أبو موسى المردار، وثمامة بن الأشرس، وأحمد بن أبي دؤاد.

- من كتبه: كتاب الرد على من عاب الكلام / كتاب الرد على الخوارج / كتاب الكفر والإيمان / كتاب الوعيد في الرد على المجبرة / كتاب الرد على كلثوم وأصحابه / كتاب تأويل متشابه القرآن / كتاب الرد على النظّام / كتاب الرد على ضرار في المخلوق من الأفعال / كتاب الرد على الملحدين / كتاب الرد على الجُّهال / كتاب الرد على أبى الهذيل / كتاب الإمامة / كتاب الاستطاعة في الرد على هشام بن الحكم / كتاب العدل / كتاب الرد على الأصم في المخلوق من الأفعال / كتاب التولّد / كتاب الرد على أصحاب القدر / كتاب في المنزلة بين المنزلتين / كتاب في الأطفال على المجبرة.

صحيفة البلاغة:

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن خير ما أثر عن المعتزلة في البلاغة حتى أوائل القرن الثالث صحيفة بشر بن المعتمر المتوفَّى سنة 210ه. وقد رواها الجاحظ في (البيان والتبيين) تامة غير منقوصة، نسوقها لأهميتها الشديدة في تاريخ البلاغة، وهي تجري على هذا النمط:

"خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرف حسَباً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغُرَّةٍ من لفظ شريف ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.

وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أن تكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما ، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما.

فكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلا، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاصي. فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن مع الأكفاء، فأنت البليغ التام .

فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تتصير إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفى نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنشور، لم يتعبك بترك ذلك أحد. فإن أنت تكلفتهما، ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً لسانك، بصيراً بما عليك وما لك، عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع فى أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك وسواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق [وهي المنزلة الثانية].

 فإن تمنَّعَ عليك بعد ذلك من غير حادثِ شُغْلٍ عرَضَ ومن غير طول إهمالٍ، فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك، فإنك لم تشتهها ولم تنازع إليها إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة. وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات ، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلماً تجنّب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له فى لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا: العرض، والجوهر، وأيس، وليس. وفرقوا بين البطلان والتلاشي، وذكروا الهذية والهوية والماهية  وأشباه ذلك" (البيان والتبيين، ج01، ص135).

وبِشْرٌ في أول كلامه ينصح كل أديب سواء أكان خطيباً أم كاتباً أم شاعراً أن لا يقبل على عمله إلا إذا كان مستعداً له استعداداً كاملا، بحيث يكون فارغ البال من كل شيء سواه، وبحيث يكون موفور التهيؤ له، تام النشاط، شأنه أن يحسن عمله وقوله، وأن تنثال عليه المعاني والألفاظ دون تكلف، بل مع الطواعية والسهولة إذ تصدر عنه كما يصدر الماء عن ينبوعه، والشذى عن زهره. وينصح كل أديب أن يعنى بتخير لفظه، وأن يخليه من كل غريب متوعر، وكل تركيب معقد، ومن كل ما يفسده ويهجنه. ويلاحظ أن من يصطنع الأدب والكلام البليغ لا يخلو من إحدى منازل ثلاث، أولاها منزلة البليغ التام .

ويحدثنا بِشْرٌ عن صفات هذا البليغ، فيقول إنه يكسو عباراته بجمال فني مرده إلى رشاقة الألفاظ وعذوبتها، وجزالتها وسهولتها، ووضوح المعاني وانكشافها. ويلاحظ أن هذا الانكشاف والوضوح نسبي، حسب من يوجه إليهم الكلام من العامة أو الخاصة. والمهم حسن الإفهام، والاقتدار على إيصال المعاني واضحة نيرة للسامعين. ويلاحظ ملاحظة دقيقة، هي أن الألفاظ ينبغي أن تتلاءم تلاؤماً دقيقاً مع المعاني، بحيث إذا كانت المعاني دقيقة تمثلتها، وإذا كانت عادية أشبهتها. وينفذ إلى فكرة طريفة، تدل على قوة بصيرته ودقة مشاعره، إذ يقول إن شرف المعنى لا يرجع إلى أنه من معاني الخاصة أو من معاني العامة، فكل في مجاله شريف، ومدار الشرف الحقيقي أن يلائم الأديب خطيباً وغير خطيب بين كلامه ومقامه. وينتهي من وصف البليغ التام إلى أنه هو الذي يستطيع ببيانه وبلاغته ودقة مسالكه إلى توضيح معاني الخاصة أن يفهمها العامة دون عسر أو مشقة، بل مع تيسيرها وتبسيطها وتقريبها من أذهانهم وعقولهم، ومع عرضها فى لغة واسطة، لا ترتفع عن طبقاتهم، ولا تسفل عن طبقات الخاصة، لغة ليس فيها غرابة ولا تعقيد ولا ابتذال، لغة تنزل من قلوب السامعين منزلة الغيث من التربة الكريمة.

 وينتقل بِشْرٌ إلى المنزلة الثانية، وهى منزلة من لا تسعفهم طبائعهم بالألفاظ الملائمة، والقوافي الجيدة، والكلمات المتشاكلة، بل يجدون فى ذلك عسراً أي عسر، إذ يصعب عليهم رَصفُ الكلم، وأن يضعوا الألفاظ في مواضعها، ويجلبوا القوافي التي تتمكن في مواطنها، وتحسن في مواقعها. ومثل هؤلاء يحسن أن يتأنوا، لأن طبائعهم لا تسمح لهم بالكلام الجيد مع أول خاطر، ولأول وهلة، وإذن فليؤجلوا المضي في العمل، وليتركوه بياض نهارهم وسواد ليلهم، ويعاودوه عند نشاطهم واستعدادهم، واكتمال تهيؤهم، فإن كانت لهم في الأدب طبيعة حقا، أو كانوا ينزعون فيه عن عرق، فسيواتيهم الكلام منبثقاً من عروقهم وطبائعهم، وإن لم تكن ينابيعها غزيرة .

ووراء هاتين المنزلتين منزلة ثالثة، هي منزلة من شحَّتْ طبائعهم، ونضبت ينابيع القول في نفوسهم، فهم مهما تأذوا ومهما جهدوا في تتبع الكلام وطلبه، ومهما أمضوا من بياض الأيام وسواد الليالي، ومهما تهيأوا للقول ونشطوا له، وخلصوا أنفسهم من كل شغل، لا يقعون منه إلا على المستكره المرذول، أو لعلهم لا يقعون على شيء أبداً. وحري بأصحاب هذه المنزلة أن يهجروا صناعة الأدب، ويتحولوا إلى صناعة أخرى تناسبهم وتشاكلهم؛ لأن لكل إنسان طبيعته الخاصة التي تجعله ينزع نحو عمل معين يصلح له ولا يصلح لسواه. ومن أجل ذلك تعددت صنائع الناس وحرفهم، حسب نزعاتهم ورغباتهم وميولهم المستكنة في أعماقهم.

ويمضى بِشْرٌ فيصور كيف أن المتكلم ينبغى أن يوازن موازنة تامة بين معانيه وأقدار الأحوال وأقدار المستمعين، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يلائم في دقة بين كلامه وبين معانيه وموضوعاته، كما يلائم بينه وبين المستمعين ومن يوجه إليهم الحديث وبِشْرٌ بذاك يرسم في دقة الفكرة اليونانية التي تدعو إلى الملاءمة بين الكلام وأحوال السامعين ونفسياتهم. ونراه يحاول تجسيمها، فيقول إن الخطيب من أصحاب علم الكلام إذا خاطب أوساط الناس كان عليه أن يتحاشى في خطابه ألفاظ المتكلمين الاصطلاحية، لأن الجمهور لا يفهمها، فإذا خاطبه بها، فكأنما يتكلم إليه بألغاز. أما إذا خاطب أمثاله من المتكلمين، فإن من حقه أن يسلك هذه الألفاظ في كلامه، لأن أسماعهم تهش لها، وقلوبهم إليها أحن وبها أشغف، إذ  هي ملتحمة بعقولهم، ومتصلة بأذهانهم، ومحببة إلى نفوسهم.

وبِشْرٌ في هذا كله يرينا مدى استغلال المعتزلة لملاحظات العرب والأجانب في البلاغة، وكيف أنهم كانوا يحاولون النفوذ من ملاحظات الطرفين إلى تبين قواعدها السديدة، محتكمين في ذلك إلى عقولهم الناضجة، وبصائرهم النافذة .

 

Modifié le: Wednesday 14 December 2022, 07:30