كان فن الخطابة في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد هو السبيل الوحيد للوصول إلى مراتب ومراكز عليا في أثينا، سواء في مجالس الحكم والجمعيات أو مراكز النفوذ والسلطة، هذا بالإضافة إلى أنه كان وسيلة للثراء والكسب السريع نظراً لرواج مدارسه كنوع جديد وجذاب من التعليم العالي يحظى باحترام الجميع وتقديرهم.

● فن البيان أو البلاغة وقيمتها الأخلاقية والسياسية: هذا هو الموضوع الذي تتحدث عنه محاورة جورجياس التي كتبها أفلاطون في الفترة التي تقع بين ( 395 -390ق.م) ما هو البيان؟ وما الفائدة منه؟ وهل هو حقاً فن الكذب الضار بالدول والأفراد؟

تلك هي الأفكار الني يناقشها أفلاطون في المحاورة حيث يتقابل المذهب الفكري السقراطي القائم على أهمية حضور الخير والحق والعدل في حياة الإنسان ومدى أثرها على سلوكه، مع فكر السفسطائيين وأتباعهم، وطريقة توظيفهم الفوضوية للبيان لغايات تحقيق مآرب أو منافع شخصية، وإقناع الشعب، واستغلال جهله بخطابات بعيدة كل البعد عن الحق والفضيلة والعدل والمصلحة العامة.

● اختار أفلاطون أطراف الحوار بحيث تمثل تنوع الطباع في مجتمع أثينا، فكانت الشخصية الرئيسية سقراط في مواجهة ثلاثة من السفسطائيين، وهم:

 - جورجياس: أستاذ البيان بقلبه المفتوح لأسئلة الجمهور، والذي يعرف بخبرته كيف يجنب نفسه الوقوع في فخ التأكيدات، لكنه واثق كل الثقة من أنه منذ أصبح خطيبا لم يوجه له أحد سؤالاً قد يكون مفاجأة له.

- بولوس: المتحمس لفكرته، وحاله كحال جورجياس، يعرف متى يتراجع عنها في حال استشعر ضعفها وتناقضها مع المبادئ والقيم .

- كالكليس: الذي يختلف عن سابقيه باندفاعه وتسرعه لإثبات فكرته على حساب الأخلاق والقيم، وهو بطبعه هذا نراه ينهي النقاش مع سقراط غاضباً أكثر من مرة، لكنه وبإلحاح من جورجياس يكمله على مضض مستمعاً فقط، ومجيباً بمجاملات عقيمة تكشف إصراره على البقاء على طباعه وأفكاره، متجاهلا كل ما يقوله سقراط.

● كان لسقراط أسلوبه المميز في إيصال رسالته أو ما يسمى بـ"الديالكتيك"، وبواسطته يستعرض أفلاطون تلميذ سقراط الأكثر شهرة في مؤلفاته أفكاره ونظرياته، فهو يبدأ بطرح الأسئلة على خصومه، بحيث يختارها بطريقة تجعل خصمه يقع في التناقض، حتى إذا ما وصل إلى هذه المرحلة التي يؤكد فيها لخصمه بأنه لا يمتلك الحقيقة، يعود سقراط لطرح الأسئلة من جديد، لكن هذه المرة حول ماهية الموضوع بهدف البحث عن الحقيقة، وللوصول إلى نتيجة أو إقرار.

ولأن البيان هو أفضل وأجمل الفنون جميعاً على حد قول بولوس فقد رأى سقراط في هذا القول مدحاً لا إجابة على سؤاله ما هو البيان.

فإذا كان البيان هو ذلك الفن الذي يحقق مهمته بالكلام وحده، وقد اكتسب بهذه الصفة الأفضلية على غيره من الفنون، فماذا سيقول كل من الطبيب والتاجر والفلكي والموسيقيّ وغيرهم عن فنه وهي متصلة أيضا بالبيان لكن لها جانب عملي يشترط فيه سقراط دائما أن تكون غاياته من أجل الخير والفضيلة ؟

هذا التساؤل يدفع جورجياس للقول بأن البيان هو عامل إقناع، ومهمته هي الإقناع وتحقيق السيادة في المجتمع، أي القدرة على إقناع القضاة في المحاكم، والمواطنين في مجالسهم وتجمعاتهم، لأن البيان يضمن جميع القوى ويسيطر عليها، فالخطيب قادر على إقناع الناس بفكرته، وله سلطة بأن يملي عليهم من يراه هو مناسبا من أصحاب المهن المختلفة وفي الانتخابات. لكن هذا لا يعني أن يتم استخدام البيان في أمر ينافي العدالة والاستقامة÷ فهو كغيره من فنون القتال لا تستعمل بذات الطريقة مع الأصدقاء والأعداء.

هنا يتساءل سقراط أي نوع من الإقناع فكل أنواع العلوم عوامل إقناع ليس البيان وحده !

 لذا لا بد من التفريق بين العلم أو المعرفة والاعتقاد، فنقول مثلا: هناك اعتقاد حق، وآخر باطل. لكن لا يمكن إطلاقاً أن نقول: هناك علم باطل، وعلم حق. وعلى هذا الأساس فإن البيان الذي يدعيه جورجياس هو عامل إقناع عقيدة، وليس إقناع علم؛ حيث إنه يُكسِب المتلقي رأياً لا علماً، فهو لا يحتاج إلى معرفة الحقائق حول الأشياء التي يتحدث عنها حسبه أن يجد طريقة يقنع بها الآخرين.

أما التناقض الصارخ الذي وقع فيه جورجياس، ولم يكن صعباً على رجل مثل سقراط برع في مزج العلم بالعمل، وكانت حياته تجسيداً عمليا لأفكاره الإمساك به؛ هو أن جورجياس يفترض أن البيان لا يمكن أن يكون ظالماً، وهو فن ينشد العدالة دائما ويُعلِّمها، فكيف يقول فيما بعد بأن لا مسؤولية على أستاذ البيان في حال لم يتصرف أحد تلامذته وفق العدالة، وهذا التناقض إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن البيان قد يستخدم استخداما ظالما. أليس من عرف العدالة وتعلَّمها سيتصرف وفقها؟

● يكمل سقراط تعريفه للبيان في محاورته الثانية مع بولوس. ثم يأتي الجزء الثالث من المحاورة بين سقراط والشاب المندفع كالكليس، لتنتهي المحاورة وتبدأ قصة سقراط وحيداً مع نفسه التوّاقة إلى عالم يسوده العدل والنظام، إلى عالم الآخرة.

Modifié le: Wednesday 14 December 2022, 07:23