تمهيد:

     يِِؤكد دي سوسور في حديثه عن الدليل اللساني قائلا: "يتم التواصل بأدلة لغوية وأخرى غير لغوية وتهتم اللسانيات بدراسة الأدلة اللغوية تاركة دراسة الأدلة غير اللغوية إلى الدلائلية أو السميائيات التي تهتم بمعرفة العناصر التي تتشكل منها الأدلة، والقوانين التي تتحكم فيها[i]"، وللإشارة فإن أي خطاب بمفهومه العلمي واللساني يحوي النظامين معا، النظام التواصلي اللغوي وغير اللغوي ، ولا تكتمل قيمة الخطاب ووظيفته الدلالية إلا باكتمال قيمة ووظيفة النظامين معا.

1- الخطاب اللغوي:

    الخطاب اللغوي حسب(بنفنيست) "هو كل مقول يفترض متكلماً ومستمعاً، وتكون لدى الأول نية التأثير في الثاني بصورة ما"[ii] ، والخطاب اللغوي هو الوحدة اللسانية التي تتعدى الجملة، لتصبح مرسلة كلية، أو ملفوظاً.

    وقد عرّف هاريس الخطاب بقوله: "هو ملفوظ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة، يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر، بوساطة المنهجية التوزيعية، وبشكل يجعلنا نظل في مجال لساني محض"[iii].

2- الخطاب غير اللغوي:

     يعرف نعمان بوقره الخطابات غير اللغوية: "بأنها تدل علي أي شيء يتعين من جهة بموضوع ويشير من جهة أخري لفكرة معينة في الذهن، ويوجد فيها القصد في التواصل و هي حدث أو شيء يشير إلي حدث أو شيء آخر"[iv]،

    والخطابات غير اللغوية " تتسم بكونها عاجزة عن الدلالة إلا إذا كانت علي صلة بموضوع تُمثله سواء كان هذا الموضوع واقعيا أو خياليا"[v]. ويتفق أغلب الباحثين في مجال التداوليات على أن الخطابات غير اللغوية خمسة أنواع: شخصية، وزمنية، ومكانية، وخطابية، واجتماعية"[vi]

    ومادة الخطاب غير اللغوي هي الرمز والإشارة، ويري (ارنست كاسيرر) أن هناك فرق بين الرمز و الإشارة، إذ يعتبر الإشارة جزءا من عالم الوجود المادي، في حين أنه يعتبر الرمز جزءا من عالم المعني الإنساني، والإشارة مرتبطة بالشيء الذي تشير إليه علي نحو ثابت، كل إشارة واحدة ملموسة تسير إلي شيء واحد معين، والإشارة تنحصر في إطار محدود لا يتغير، إذ يعبر بها الفهم دون أن يلحظها باعتبارها خالية من المعني.... وهو يعتبر الرمز أوسع من الإشارة في التعبير والإيحاء"[vii]

3- الاختلاف بين الخطابين اللغوي وغير اللغوي:

      التواصل اللغوي لا يتحقق إلا بوجود نسق لغوي، تشكله مجموعة من العلامات اللسانية والفونيمات الدالة التي تتآلف فيما بينها وفق تتابع وخطية كما ينعتها دي سوسور، ووفق نظام نحوي كلي يشترك فيه الجميع مشكلا اللغة كأداة للتواصل، وقيمتها لا تتأتى إلا من قيمة كل عنصر ساهم في تركيبتها أو بنيتها، وفي هذا الصدد نجده يقول: "فقيمة الكل هي في أجزائه، كما أن قيمة الأجزاء تتأتى من مكانتها في هذا الكل أو ذاك، وهذا فإن أهمية العلاقة التركيبية بين الجزء والكل كأهميتها بين الأجزاء فيما بينها" .[viii]

     أما الخطاب غير اللغوي فيتمثل في " العناصر البصرية التي تدخل في تكوين الخطاب غير اللغوي وتتكون من الصورة والشكل واللون،  وتشتغل هذه العناصر وفق سنن خاصة بها تختلف عن السنن اللفظية. فهي تقوم بتحويل منظم لمجموعة من العناصر كالإطار واللون والشكل، مما يجعل الأدلة في الخطاب اللغوي تشتغل كلها داخل الخطاب"[ix]

    ودراسة الخطابين تفرض على المتلقي أن يعي هذين النسقين المختلفين، وأن يحيط علما بخصوصية كلّ منهما، وبكيفية أداء المعنى فيهما.

4- نقاط الالتقاء بين الخطابين اللغوي وغير اللغوي:

     يؤكد دي سوسور في إشارة له إلى ضرورة ارتباط النظام اللغوي بغيره من الأنظمة الاشارية، باعتبارها أنظمة تواصلية يقول :"إنني أرى مسألة اللغة في جوهرها مسألة علم الإشارات، وجميع تطورات المسألة تستقي أهميتها من هذه الحقيقة الأساسية، فإذا أردنا أن ندرك الطبيعة الحقيقة للغة فعلينا أن نفهم ارتباطها بالأنظمة الأخرى للإشارات"[x]

1- أهمية المعنى في الخطابين اللغوي وغير اللغوي:

     لا يمكننا أن نتصور نظاما من الأنظمة لغوية كانت أو غير لغوية، كاللغوية الصريحة أو الإشارية والرمزية والإيحائية مثلا، خالية من المعنى، وإلا لما أطلق عليها نظاما، فهذا المصطلح يوحي بالضرورة إلى وجود نسق مـن العلاقات التي تربط بين جملة من العناصر اللغوية أو غ ير اللغوية لأداء شيء واحد مشترك وهو المعنى.

2- تفاعل اللفظ والاشارة:

     لا يمكن تأدية المعنى في الخطاب غير اللغوي دون الحاجة إلى اللفظ وإلى الإشارة في الوقت نفسه، وهو ما عبّر عنه

 الجاحظ في قوله :"والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم الترجمان"[xi]،فهذه العبارة تحيلنا على وجوب الاستعانة بالحركة الجسمية كأحد الأنظمة الاشارية التي يتم بها التواصل، وتوظيفها مقترنة بالتعبيرات اللسانية لإتمام العملية التبليغية بنجاح، فالمكون اللساني يمثل اللغة، التي "تمنح المنتوج هويته البصرية واللفظية، وهي أساس وجود وضمان تداوله وتذكره واستهلاكه" [xii]

      لذلك نجد المتكلمين يعتمدون على عناصر لغوية وعناصر غير لغوية أو ما يسمى فـي اللسانيات بـ " مميزات فوق اللغوية paralinguistique المرافقة للكلام المنطوق... مثل الإشارة والإماءة وتعبير الوجه[xiii]

3- الاشتراك بين الخطابين في عناصر عملية التواصل ووظائفها:

     يعتقد رومان جاكبسون: "أن عملية الاتصال تتطلب ستة عناصر أساسية :المرسل والمتلقي وقناة الاتصال والرسالة وشفرة الاتصال والمرجع"[xiv]،بالإضافة إلى إشارته للوظائف التي تؤديها هذه اللغة كالوظيفة التعبيرية والندائية والميتالسانية والشعرية والمرجعية والمهيمنة، وغيرها من الوظائف، وأنّ هذه العناصر ووظائفها مشتركة بين الخطابين اللغوي وغير اللغوي.

4- التفسير المتبادل وأهمية السياق:

     الخطابات غير اللغوية تعمل على تفسير الملفوظات وتحديد مجالها التبليغي في الخطاب عن طريق عناصر إشارية تحتويها تلك الملفوظات داخل سياقها المادي الذي قيلت فيه، و الجدير بالذكر في هذا المقام أن السياق يلعب دورا مهما في تحليل العناصر الاشارية الخاصة بكل ملفوظ، باعتبار أن هناك كلمات و تعبيرات تعتمد اعتمادا تاما على السياق الذي تستخدم فيه ولا يستطيع إنتاجها أو تفسيرها بمعزل عنه[xv].

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:36 PM