مفهوم الخطاب عند ميشيل فوكو:

    يتحدد مفهوم الخطاب عند فوكو بشكل واضح ، حيث حاول بكل ما أوتى من علم أن يحفر لهذا المفهوم سياقاً دلالياً واصطلاحياً مميزاً عبر التنظير والتطبيق ، لذا فإنه يُقدم عدة تعريفات لهذا المصطلح، فهو يعني عنده:

       "مجموعة من الأدلة من حيث هي عبارات.. والتي تنتسب إلى نفس نظام التكون"

       أو هو "مجموعة من العبارات بوصفها تنتمي إلى ذات التشكيلة الخطابية ، فهو ليس وحده بلاغية أو صورية قابلة لأن تتكرر إلى ما لانهاية يمكن الوقوف على ظهورها واستعمالها خلال التاريخ مع تفسيره إذا اقتضى الحال ، بل هو عبارة عن عدد محصور من العبارات التي نستطيع تحديد شروط وجودها".

      يرى فوكو إذاً أن الخطاب يعني الميدان العام لمجموع المنطوقات أو مجموعة متميزة من العبارات بوصفها تنتمي إلى تشكيلة خطابية محددة ، كما أنه يُشكل "شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فيها الكلام كخطاب ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه".

   من هنا نلاحظ أن مفهوم الخطاب لدى فوكو عبارة عن مجموعة من المنطوقات التي يستند إليها هذا المفهوم، بحيث إنها تشير إلى مجموعة من العناصر والمشكلات التي تتطلب التحليل ، فهي "مساحات لغوية تحكمها قواعد" والتي تخضع إلى "الاحتمالات الاستراتيجية" على حد قول فوكو نفسه، ولكن الإشكالية لاتزال قائمة، وهي كيف نضع حدوداً لخطاب معين؟

     إذا كان «المنطق» والتشكيلة الخطابية» في رأي فوكو يخضعان لمنهج واحد في التحليل هو «المنهج الاركيولوجي» فإن القواعد والقوانين الناظمة للتشكيلة الخطابية تنطبق أيضاً على المنطوق، حتى نصل إلى مفهوم «الممارسة الخطابية» الذي يرتبط بوظيفة المنطوق داخل التشكيلة الخطابية، ويحدد علاقاته التاريخية والاجتماعية أو قواعده الموضوعية ، إذ أن "التشكيلة الخطابية هي المنظومة العبارية العامة التي تحكم مجموع الإنجازات اللفظية وهي منظومة لاتحكمه مع ذلك وحدها ، مادام يخضع كذلك حسب أبعاده الأخرى لمنظومات منطقية ولسانية وسيكولوجية كما أن تحليل تشكيلة خطابية ما يعني دراسة مجموع الإنجازات اللفظية في مستوى العبارات ودراسة شكل الوضعية الذي يميزها يعني بانجاز تحديد نمط وضعية خطاب ما".

    بالإضافة إلى ذلك فإن فوكو في كتابه «الكلمات والأشياء » يقوم بتطبيق منهجه في تحليل الخطابات ، وخاصة خطاب البيولوجيا والاقتصاد والسياسة واللغة ، كما يطرح الاشكالية النظرية لمنهجيته القائمة في التساؤل عن كيفية تحليل الخطاب.

    من ناحية أخرى فإذا كانت الممارسة الخطابية عبارة عن مجموعة من القواعد والاجراءات التي تحكم الكتابة والفكر في مجال بعينه ، فإن فوكو "لا يتناول الاستراتيجيات التي يستخدمها المؤلفون لإضفاء معنى على التاريخ بوصفها مجرد لعبة نصية ، بل يتناولها بوصفها خطابات تنتج داخل عالم فعلي من صراع القوة ، فالقوة يتم الوصول إليها بواسطة الخطاب سواء في السياسة أو الفن أو العلم ، والخطاب هو عنف نمارسه على الأشياء ، أما دعاوي الموضوعية التي تُقال لحساب خطابات معينة ، فهي دعاوٍ زائفة دائماً ، إذ ليس هناك خطابات صادقة بالمعنى المطلق ، بل أن كل ما هنالك خطابات قوية بدرجة أو بأخرى".

      أما تحليل أحداث الحقل الخطابي لدى فوكو فيسعى إلى إدراك المنطوقات الخطابية في أضيق حدود لها بوصفها أحداثاً فردية ، كما يُعني بتحديد الظروف أو السياق الذي تتواجد فيه ، وابراز العلاقات التي يمكن أن تربط بينها ومنطوقات اخرى وتوضيح نوعية هذه العلاقات ودرجات الارتباط القائم أو المتصور بينها.

      ولاشك أن الغرض من هذا التحليل هو «ابراز خصوصية كل منطوق من المنطوقات لحظة ابنثاقه في حقله الخطابي ، وتبيان مدى القطع الذي يُحدثه في النسيج العام لهذا الحقل، وذلك إلى الدرجة التي لايستطيع فيها أي منطوق آخر أو أي أثر ايديولوجي معاكس أن يطمس دوره الفعال والمؤثر أو معناه ودلالته في طيات اللغة الكثيفة».

     من هنا وبناءً على هذه الأسس السابقة تتضح لنا التحليلات الاركيولوجية لفوكو ، التي لاتتساءل عن التسلسل التاريخي ولا عن معاني النصوص ، بل تتساءل عن شروط ظهور الخطابات في التاريخ ، مما يؤدي إلى تحليل الخطاب في بُعده الخارجي بـ:

 1 -   وصف الخطاب في هيئته الخاصة.

2  -  البحث في الخطاب عن شروط وجوده وليس عن قواعد بنائه كما يفعل البنيويون.

 3 - ارجاع الخطاب إلى الممارسات الخطابية وغير الخطابية ، أو إلى الميدان العلمي الخاص به ، وليس إلى الفكر أو الروح أو الذات المبدعة.

    وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن منهج تحليل الخطاب عند فوكو، لا يحلل نظام اللغة أو المضامين أو الدلالات، كما لايهتم بصدق الخطابات أو معقوليتها، وإنما ينصب التحليل على المنطوقات كأحداث وعلى قوانين وجودها  وعلى ما يجعلها ممكنة أو غير ممكنة.

     وبذلك فإن الخطاب المعرفي عند فوكو هو مجموعة من النصوص والتفسيرات والبحوث، أي الأرشيف الذي يشكل حقلاً معرفياً ما، ومن ثم فإن تحليل الخطاب أي خطاب في رأيه ليس لعبة أو نسقاً مغلقاً من الدلالات المسبقة، وإنما هو نظام واقعي يتحكم في إنتاج الخطاب واستهلاكه ، لذا فهو يحتاج إلى حفريات متعددة للوصول إلى دلالته العميقة والمتعددة ، وذلك لأنه متعرج ومتقاطع ويصبح التداخل الخطابي المتعدد ممثلاً لإعادة تشكل مستمرة تدفع فيها المعرفة الخاصة بتشكيلة خطابية وفق مواقف ايديولوجية تمثلها هذه التشكيلة الخطابية في ظرف معين إلى إدماج عناصر جاهزة مسبقاً انتجت خارج المعرفة المذكورة ذاتها ، وإلى إعادة تعريفها أو قلبها ولكنها تُدفع فيها أيضاً إلى احتمال السبب في محوها ونسيانها أو ربما حتى نفيها .

Modifié le: Saturday 4 December 2021, 05:37