من أهم صور الانزياح الشعري التي انتبه إليها البلاغيون القدامى لحضورها اللافت في الشعر العربي القديم، وانتبه إليها الدارسون الأسلوبيون لأهميتها في الكشف عن الوظيفة الشعرية للنصوص الإبداعية ( الحذف ) و" الحذف من القضايا الهامة التي عالجتها البحوث النحوية والبلاغية والأسلوبية بوصفها انحرافا عن المستوى التعبيري العادي، ويستمد الحذف أهميته من كونه لا يورد المنتظر من الألفاظ وإنما يذهب بالمتلقي مذاهب بعيدة ، ومن ثم يفجر في ذهن المتلقي شحنة توقظ ذهنه وتجعله يفكر في ما هو مقصود"[i]

     ولأهمية هذا المبحث فقد خصّ له الدارسون القدامى أبوابا في مصنفاته ، وقد أحسن  عبد القاهر الجرجاني التعبير عن هذه الأهمية في قوله "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر ، فإنّك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم تُبِن "[ii] ، فالتخلي عن التصريح المباشر ، والاستغناء عن بعض عناصر التركيب يمكن أن يؤدي الدلالة بشكل أوضح وأعمق، لينقل اللغة السطحية المباشرة إلى لغة فنية جميلة .  

    ولا يمكن اللجوء إلى هذا الشكل من الانزياح اللغوي وفق شروطه التي سنّها النحاة والبلاغيون والتي استمر النقاد الأسلوبيين في التقيّد بها " فمن شروط الحذف أنْ تكون في المذكور دلالة على المحذوف إمّا من لفظه أو من سياقه، وإلا لم يُتمكن من معرفته فيصير اللفظ مُخِلاًّ بالفهم."[iii] .

     وتكمن أهمية هذا الانزياح في أنه يثير انتباه المتلقي، ويدفعه إلى إعمال الفكر لمعرفة المحذوف وسبب الحذف، مما يجعل من العلاقة الإبداعية بين طرفي التواصل الفنّي ( الكاتب والقاريء ) تشاركية وتفاعلية أكثر منها خطية من الأول إلى الثاني.

النص :

                                 قصيدة ( كفر قاسم لمحمود درويش )

كفر قاسم

قرية تحلم بالقمح

وأزهار البنفسج

وبأعراس الحمائم

أحصدوهم دفعة واحدة

أحصدوهم

.............................

... حصدوه ......[iv]

    استفاد الشاعر من تقنية بلاغية قديمة هي الحذف، ولكن ليس من خلال العدول عن سنن اللغة المعروفة حيث ينتبه القاريء إلى غيابه بوساطة السماع، بل من خلال حذف بصري ينقل فعل التلقي من الإنشاد إلى القراءة الورقية لأنها وحدها الكفيلة بلفت انتباه القاريء إلى وجود معان محذوفة هذا الفراغ الطباعي هو في الحقيقة حذف شكلي "والحذف بلاغة الغياب الأولى، وهو يضع قفزة مفاجئة فوق فجوة غير منظورة ، الحذف نوع من المحو الذي يمثل نزوعا طاغيا إلى استبعاد جزء أساسي من الوجود الملموس"[v]

     وقد أبرز الشاعر في الأسطر الثلاث الأولى الصورة الجميلة لقرية كفر قاسم قبل المجزرة، والتي ربطها بالحلم دلالة على الأمل في المستقبل ، غير أنّ أحلام أهلها لم تكن كبيرة يصعب تحقيقها بل هي أحلام من يرغب في حياة بسيطة وهادئة ، لذلك اجتمعت في أسباب العيش الكريم الثلاثة وهي القمح والبنفسج والأعراس ، أما الأول فيدل على بساطة العيش، وأما الثاني فيدل على حب الجمال ، وأما الثالث فيدل على البحث عن الفرح .

     ولكن تدخّل صوت غريب في شكل جملة مقول القول الذي يُجهل قائله كسرت التناغم الجميل بين هذه الأسباب، كما كسرت الثبات الذي فرضته الجمل الإسمية المتواترة من خلال فعل الأمر الذي تكرر في الأسطر الشعرية الموالية، أمر بالقتل يصدر عن شخص غامض غموض هذا العدو الذي لا يعرف له أصل، أمر بحصد تلك الأرواح البريئة، وقوله ( دفعة واحدة ) هو دلالة على هذه المجزرة التي التي قام بها العدو بدم بارد. وقد كرر الشاعر هذه الجملة الشعرية تأكيدا على استمرار هذه المجزرة واستمرار رغبة الآخر في إبادة أهل هذه القرية جميعا .

    غير أنّه اختار أن يحذف سطرا شعريا كاملا ليترك للقاريء أن يملأ هذا الفراغ ، وأن يتخيّل أشكال العنف الممارس من قبل العدو على أهل كفر قاسم العزّل، ولكن الحذف الذي حمل دلالة اسلوبية أعمق هو الذي أصاب الجزء الأول والأخير من جملة ( احصدوهم )، فقد حوّل حذف الهمزة في أول الجملة الفعل من الأمر إلى الماضي دلالة على انتهاء هذه المجزرة، أما الحذف في آخرها فقد أصاب الضمير (هم) الدال على الفلسطينيين حيث بتره إلى نصفين كما بترت الذات نفسها .       

Last modified: Wednesday, 27 April 2022, 12:37 PM