التركيب النحوي هو نتاج الكلمات المتجاورة و المترابطة والمتضافرة لتشكيل ما يصطلح عليه بالجملة وهذا مابيّنه دوسوسير عندما قال:"إنّ الكلمات تعقد فيما بينها في صلب الخطاب، والكلمة إذا وقعت في سياق ما لا تكتسب قيمتها إلا بفضل مقابلتها لما هو سابق، ولما هو لاحق لها أو لكليهما معا"[i].وهذا ما يشكل تركيبا تجاوريا تحيا فيه الكلمة بفضل الدور الذي يعطى لها فيه ، ويحيا التركيب بفضل الكلمات المترابطة فيه .

1- مفهوم التركيب :

     والمقصود بالتركيب ، كما يعرفه سيبويه ، هو اجتماع كلمتين أو أكثر لعلاقة معنوية [ii] . والاجتماع هنا هو التجاور لأداء وظيفة معنوية. ولكن الأصل في التركيب ليس تجاور الكلمات، بل الأصل فيه" أن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها وانضمامها لحروف أخرى، وانضمام الحروف في كلمات والكلمات في أنساق تؤدي موقعا من الدلالة المعنوية فيكون إذن نسيجا من العلاقات التي يقوم بين الحروف والكلمات"[iii]. وعمل الشاعر هو تأليف هذه الأجزاء للوصول إلى التركيب المتكامل .

    والنحو هو المعيار الداخلي الذي يجمع الكلمات في سياق تركيبي معين، وبالتالي فهو وسيلة المتكلم لصياغة تراكيبه المختلفة الحاملة للمعاني المختلفة. وهو، أي علم النحو، وسيلة القارئ لفهم هذه التراكيب وما وصفه لها بالجودة والرداءة إلا وصف لمعاني نحوية معينة، فعلم النحو هو رابط هام بين الشاعر والمتلقي، عبر الرسالة اللغوية التي تنتقل من هذا إلى ذاك ،"فلا ترى كلاما قد وصف بصحة النظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه وجدته يدخل في أصل من أصوله و يحتل بابا من أبوابه"[iv] . فعلم النحو هو أساس النظم وقانونه الذي يتحكم في جزئياته وهو وسيلة الشاعر لصياغة التراكيب المختلفة ، وهو كذلك وسيلة القارئ لفهم النص .

2- أنواع التركيب الشعري :

    تهتم الدراسة الأسلوبية بثلاثة أنواع من التركيب ، ورغم أنّها عادة ما تجتمع في النص الواحد إلاّ أنّ لكل منها أهميته الأسلوبية في تشكيل المعنى ، لأنها ترتبط بجوانب محددة تفصل بينها حدود واضحة، ولكنّها في الآن ذاته تأتي متضافرة ، تتداخل فيما بينها لتشكّل المستوى التركيبي المعقد للنص، والتحليل الأسلوبي يعي هذه الحدود ، كما يعلم الروابط التي تجمع بينها، لذلك ينطلق منها منفصلة ليصل إلى الدلالة الجامعة التي تربط بعضها ببعض ، وهذه الأنواع هي :

- التركيب النمطي :

     وهو أقل أشكال التعبيرات الأدبية تأثيرا رغم أنّه أكثرها حضورا في النص ، ودوره الأهم هو تحقيق الترابط بين أجزاء النص المختلفة ، وهو الأقرب إلى المستويات التواصلية للكلام، ولكنّ تواتر بعض أشكاله بشكل لافت قد يجعل منها ظاهر أسلوبية ذات دلالات خاصة، وتدرس الأسلوبية هذا التراكيب ضمن التراكيب الإسنادية والتراكيب الطلبية .

- التركيب المنزاح :

    وهو نوع من التركيب الذي يظهر في مواضع معينة من النص الشعري لغرض إثارة الدهشة والتأثير في المتلقي ، وسمي بالمنزاح لخروجه عن السنن والقواعد المعروفة ، وإذا كان هذا الخروج يعد عيبا في سنن النحو، فإنّه في الدراسات الأسلوبية يعدّ " استثمارا وتوظيفا للطاقات الكامنة في اللغة ، إذ يمكن تحديد هذه الطاقات والكشف عن أبعادها عن طريق قواعد التحويل"[v]، فهذه الطاقات هي التي تسمح للمبدع بالتعبير عن المواقف المختلفة بلغة غير عادية من خلال التعبير التصرّف في مواقع الوحدات اللغوية عن طريق قواعد التحويل كالتقديم والتأخير مثلا، والتغيير في البنية اللغوية يؤدي بالضرورة إلى تغيير في الدلالة، مما يأخذ بيد المعنى إلى اتجاهات جديدة غير تلك التي يقدمها التركيب في شكله النمطي

- التركيب المجازي :

    وهو نوع من التركيب المنزاح ، يقوم على اختيارات إفرادية توضع في تراكيب لا تلائمها من الوجهة الدلالية ، وهذا الخروج عن المألوف يكون عادة بغرض إنشاء الصور الشعرية ، حيث تصاغ تلك الكلمات " وفق نظام خاص ينشيء الصور الشعرية ويثير الخيال"[vi] .

3- أهمية علم النحو في دراسة التراكيب الشعرية :

    النحو هو المعيار الداخلي الذي يجمع الكلمات في سياق تركيبي معيّن ، وبالتالي فهو وسيلة المتكلّم لصياغة تراكيبه المختلفة ، سواء بالتقيّد بقواعده أو بالخروج عنها، وهو في الوقت نفسه، وسيلة القاريء لفهم هذه التراكيب من خلال مقارنتها مع تلك السن، يقول عبد القاهر الجرجاني " فلا ترى كلاما قد وُصف بصحة النظم أو فساده، أو وصف بمزية وفضل فيه، إلاّ وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد ، وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه "[vii]       

التطبيقات :

النص 1 :

موت أمام الحلم

حلم أمام الوطن

وطن خلف الموت

هذي حياتك تبنى على

حلم ووطن وموت

    معادلة صعبة تلك التي يعيشها الفلسطيني في هذا الواقع المرّ ، فهو يحاول تحقيق وجوده، ولكنّ هذا الوجود لا يمكن أن يتحقق دون وطن، والطريق إلى الوطن يمر بمسلكين هما الحلم أو الموت، فأي طريق يختار وكلاهما لا يمكن أن يحقق له الكينونة التي يصبو إليها حتى لا يضيع وجوده ويصبح نسيا منسيا.

    ورغم أنّ التراكيب التي اختارها الشاعر نمطية بسيطة إلاّ أنّها حملت الكثير من الروح الإبداعية ، فقد لفت انتباه القاريء من خلال تغيير مواضع الكلمات ، ولكن تتبّع هذا التغيير يصل به إلى المفاجأة الأسلوبية ، حيث يكتشف المتلقي أنّ هذه الحياة وهذا الوجود يدور في حلقة مفرغة تبدأ بالموت وتنتهي به ليبقى الوطن بين الموتين حلما عزيز المنال .

موت                 حلم                   وطن                   موت

    فالموت أمام الحلم ، وهذا الأخير أمام الوطن ، والوطن خلف الموت ، لتستمر دائرة الحياة دون توقف أو تغيير ، خالية من كل جديد ، يتغيّر فيها المبتدأ وهو عنصر أساس في الجملة إلى مجرّد مضاف إليه ، ليصبح الشيء المهم ثانويا لا قيمة له .

النص 2 :

لا أمل خلف الضباب ولا شباب

لا الموت يرحمهم إذا جاء

ولا حياة لهم إذا ما الموت غاب

ليس خلف الغيوم سوى المهانة واليباب [viii]

    رغم أنّ التراكيب الشعرية التي اختارها الشاعر جاءت في شكل جمل نمطية بسيطة ، إلاّ أنّ أكثر ما يلفت الانتباه فيها هو تواتر أدوات النفي التي تقدّمت كلّ الأسطر الشعرية والتي جاءت متنوّعة ، وإذا كان النفي عند النحويين يقوم على الأداة وتأثيرها على عناصر الجملة، فإنّه عند الأسلوبيين يحمل دلالات خاصة .

     فهذه الأدوات حقّقت في البداية نوعا من الانسجام النصي بين هذه الأسطر الشعرية، حيث ربطت من خلال شبكة من العلاقات بين أجزاء النص ، لتظهر الدلالة المهيمنة التي تمحورت حول التفريق بين الأشياء الحسنة والأشياء السيئة :

- نفي الأشياء الحسنة ( الأمل والشباب )

- نفي الأشياء الحسنة في الأشياء الشيئة ( نفي الرحمة في الموت/ نفي الحياة رغم غياب الموت)

- نفي الأشياء السيئة ثم تأكيد وجودها ( القصر بالنفي والاستثناء : تأكيد صفتي المهانة واليباب)     

     وهذا النفي يُظهر نوعا من التشاؤم الذي طغى على هذا النص، فقد برزت الكثير من الكلمات الإيجابية ( الأمل – الشباب – رحمة الموت – الحياة)، ولكنّ نفيها بمختلف الأدوات (لا المكررة – ليس) حوّل صفاتها الحسنة إلى صفات سلبية سيئة ، وهو ما أوقع القاريء في حيرة فنية بين الإيجاب والسلب ، وبين الحسن والسوء، مما خلق علاقة إبداعية بين النص وبين القاريء .

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:37 PM