1- مفهوم الكلمة:

      إنّ القيم الصوتية لا يمكنها إن تؤدي دورها ما لم توضع في موقع سياقي داخل البنية اللغوية يساندها ويعمل على استثمار خصائصها الصوتية ،فيزداد إيحاؤها وتعظم دلالتها [i]وهذا الموقع السياقي الذي يضم الأصوات يصطلح عليه« باللفظ» أو« الكلمة» .

      وتكاد تجمع المجامع العربية على أن " الألفاظ ترادف الكلمات في الاستعمال الشائع المألوف ،فلا فرق بين أن يقال أحصينا ألفاظ اللغة أو كلمات اللغة" [ii]،ومع هذا فإنّ النحاة في التراث النحوي العربي القديم، يفرقون بينها " في حديث نخرج منه أنهم يستشعرون مع اللفظ عملية النطق وكيفية صدور الصوت، وما يستتبع هذا من حركات اللسان و الشفتين ،فإذا ربط هذه الأصوات المنطوق بها وما يمكن أن تدل عليه من معنى تكونت في رأيهم الكلمة "[iii].

    والكلمة في النصوص الإبداعية شيء ضروري، لأن المستوى المعجمي هو الأساس الذي يبني عليه النص ولأنها عنصر جامع بين الوحدات الصوتية من جهة والتراكيب بأنواعها من جهة أخرى، فهي المساحة التي يجد فيها الصوت دورا له، وهي الوحدة الأساسية للنظام الإبلاغي.

     وبتعريف أدق يبين صلاح فضل مفهوم الكلمة فيقول: " الكلمة هي مجموعة من المقاطع المكونة من حروف وحركات والمؤلفة بنظام مناسب يسمح بتكرارها، أو هي باعتبار آخر مجموعة من الوحدات الخطية المنتظمة في الكتابة بنسق خاص يسمح أيضا بتكرارها فالكلمة تتكون من عناصر توصف باعتبارها أصواتا أو خطوطا و وحدتها الصغرى هي الفونيم أو الخطيم "[iv] .فالكلمة هي الصوت المسموع واللفظ ، هو الخط المكتوب و هي الكلمة وكلاهما يملكان تركيبا متشابها سواء كان صوتا  أو خطا .

     أما عند الغرب فيعرفها ستيفن أولمان بأنها " أصغر وحدة ذات معنى في الكلام و اللغة "[v] أي أنها مرتبطة بحمل المعنى ،وأهميتها تكمن في الكلام واللغة على حد سواء ،لذلك سميت الكلمات بالوحدات الدالة .

2-الكلمة و المعنى :

      شغلت قضية اللفظ والمعنى والعلاقة بينهما القدماء والمحدثين على حد سواء ،فاختلفوا فيها منذ بدايات الخوض في هذه القضية، فأفلاطون يرى أنّ" العلاقة بين اللفظ والمعنى معنى لازم يتصل بطبيعة الكلمة الذاتية ، فالكلمة عنده تتطابق ومسمياتها، أي الأشياء التي تدل عليها، وهذا الرأي خالفه أرسطو الذي جعل العلاقة بين اللفظ و المعنى اصطلاحا ناجما عن اتفاق بين بني البشر "[vi]. وقد انتقلت هذه القضية إلى اللغويين والنقاد العرب، فانتصر بعضهم للرأي الأول وعضد البعض الآخر الرأي الثاني.

    وقد أخذ برأي أفلاطون كل من ابن طباطيا وابن رشيق، فهذا الأخير يأخذ بتعريف ابن طباطبا "اللفظ جسم و روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم يعصف بعصفه، ويقوى بقوته"[vii].

     وقد تبع المحدثون هذا الخلاف فالعلاقة بين الدال والمدلول عند دوسوسير تتصف "بالاعتباطية، إذ ليست هناك علاقة منطقية ،رغم أنه عرفها بأنهما، كيان واحد لا يتجزأ ذو وجهين متصلين وملتحمين التحام وجه الورقة و قفاها "[viii]، فلا يمكن الفصل بين الدال والمدلول، ولا يمكن اعتبار العلاقة تلازمية بل هي اعتباطية ، إذ لا رابط بين أصوات الكلمة أو حروفها وبين معانيها.

3-الكلمة و الاختيار الأسلوبي :

     عند دراسة الكلمة في النص الشعري يواجه الباحث الأسلوبي مستويين اثنين :

المستوى الأول: هو ما يعبر عن أصل المعنى المجرد وهو المعنى الذي يشترك فيه الناس جميعا

المستوى الثاني: هو الذي يتميز به المتكلم بقدر ما في أسلوبه من حسن التخير ومراعاة الغرض والمقصد من الكلام .

    وبذلك فالمعنى الفني " هو الذي لا يمكن التعبير عنه بغير صيغته ، لان المفترض أن مبدعه قد اختار من الصيغ والألفاظ ما هو انسب للتعبير عن تجربته ومعانيه الدقيقة "[ix] فتعامل الناقد الأسلوبي يكون مع الصيغة التي طرحها ، المتكلم دون الخروج عليها، لأنها نتيجة اختيار المبدع طبقا لظروف كثيرة سبقتها. توصل عبد القاهر إلى أنه يجب: " أن تأتي المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديبه ، وتختار له اللفظ الذي هو أخص به "[x]. وكذلك لأن الأسلوب هو "اختيار واع بسلطة المؤلف على ما توفره اللغة من سعة وطاقات"[xi]، أو هو "طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للعبير بما عن المعاني بقصد الإيضاح و التأثير "[xii] ويمكن تفسير عملية اختيار الألفاظ والكلمات بطريقتين .

أ-الاختيار الواعي

    وهو الذي يكون عن مقصد وتدبر مع تفحص الكلمات واستحضار الأصلح تعبيرا عن المعنى السابق لها في الذهن، والسلسلة التي يستحضرها الكاتب تصلح في أغلبها أن تعبّر عن ذلك المعنى، لذلك فهي بدائل أسلوبية لبعضها البعض، غير أنّ وعيه يوجهه نحو واحدة من تلك الاختيارات التي تكون هي الأقدر على تحويل المعنى المتخيل إلى لغة .  

ب- الاختيار اللاشعوري :

     الذهن وهو الذي "غالبا ما ينساق في زحمة الكلمات أو المشاعر أو الشحنة الانفعالية الغالية على المبدع أو بتأثير الإيقاع المتسلط عليه "[xiii]، دون ربط واضح بين الكلمة و معناها وهو ما يدفع القارئ ، ويعلق الدكتور صلاح فضل على النوعين بقوله: " إنّ هذا التمييز بين الاختيار الواعي و اللاشعوري أمر ضروري فكلنا يعرف بتجربته  الخاصة أن هناك اختيارات لا شعورية تأتيها بطريقة عفوية غريزية للوهلة الأولى ، وبشكل آلي تقريبا بينما هناك اختيارات أخرى متدبرة ومقصودة  نتردد في القيام بها و نصحح ما انتهينا إليه منها و نتأمل الكلمة أو العبارة الملائمة حتى نعثر على الشكل المناسب "[xiv].

     واختيار الكلمات المناسبة سواء شعوريا أو لا شعوريا تتحكم فيه بعض الأسباب الهامة منها:

- مطابقة اللغة للفكرة و الغرض : وهو اختيار محكوم بالموقف و المقام و يسمى الاختيار النفعي ،وفي هذا النوع المبدع كلمة ما لأنها أكثر مطابقة للغرض المطلوب

- الاختيار الإيقاعي :وذلك كوقوع الشاعر أو المبدع تحت تأثير ايقاع بعينه ينحرف بالشاعر نحو كلمات بعينها تتناسب مع هذا الإيقاع و تنميه

الاختيار النحوي : وهو الذي تتحكم فيه مقتضيات التعبير اللغوي [xv]

    والأسلوبية تتجه إلى "الألفاظ باعتبارها ممثلة لجوهر المعنى ،فاختيار المبدع لألفاظه يتم في ضوء إدراكه لطبيعة اللفظة و تأثير ذلك على الفكرة ،كما يتم في ضوء تجاور الألفاظ بعينها تستدعيها هذه المجاورة أو تستدعيها طبيعة الفكرة "[xvi]، وعمل الأسلوبي هو " تفسير الاختيار الذي قام به صاحبه من بين انماط أو صور من الاداء اللغوي" [xvii]

4-القيمة الأسلوبية لاختيار الكلمة :

      الاختيار يتم بين" سلسلة من الخيارات الممكنة في السياق المعطى ، وينبغي التأكيد على أن سلسلة الخيارات المتاحة لا نهائية، أي انه ليس ثمة نقطة يمتنع عندها اختيار جريد"[xviii]

 التطبيق :

    وفيما يلي اختيار أسلوبي بديع للشاعر بهاد الدين زهير وهو يصف ثغر محبوبته التي ساهم العواذل في قطع صلته بها ، فعبّر عن هذا الفصل وعن رغبته في إنهائه في قوله :  

وَ يَبْسَمُ عَنْ ثَغْرٍ يَقُولُــونَ إِنَّـهُ            حُبَابٌ عَلَى صَهْبَاءَ بِالْمِسْــكِ تَنْفَحُ

وَ قَدْ شَهِدَ الْمِسْوَاكُ عِنْدِي بِطِيـبِهِ         وَ لَمْ أَرَى عَدْلاً وَ هْوَ سَكْرَانُ يَطْفَـحُ[xix]

    أهم ما يلفت الانتباه في هذ المقطع الشعري هو الاختيار الأسلوبي للكلمات الشعرية في الشطر الثاني من البيت الأوّل ، فلفظتي ( حُباب وصهباء ) تحملان العديد من الدلالات المعجمية التي نعتقد أنّ الشاعر علمها ووعى قيمتها الدلالية ، فهل كان الاختيار الأسلوبي لهذه الوحدات اللغوية بسبب أحد هذه المعاني ، أم أنّ الشاعر اختارها لمعانيها جميعا.

    والتحليل الأسلوبي لمحور الاختيار الشعري كشف أنّ الشاعر اختار هذه الألفاظ لدلالاتها المعجمية كلّها، لأنها تخلق مستويات مختلفة من المعنى تتضافر كلّها لصياغة معنى عام ، فكلّما استدعينا أحد معاني كلمة (حُباب) جرّت مها معنى خاصا متعلقا بها من معاني كلمة (صهباء) وقد حدّدنا هذه المستويات الدلالية في ثلاثة هي :   

1- دلالة المحبوبة :

        فالابتسام دلالة الفرح والسعادة، والثغر، وإن دل على الفم فإنه يدل كذلك على "الحد بين المتعادين"[xx] ويواصل التركيب البلاغي تصوير شكل هذا الثغر يقول : (حباب على صهباء ) ليعمل اللون عمله في إثارة الخيال "فالحباب هو فقاقيع الماء أو الخمر التي تعلو الكأس، والمعروف أن لونها أبيض، وهو كذلك موج الماء الذي يتبع بعضه بعضا، وهو الطرائق التي يجمع فيها الماء كأنها الوشي"[xxi]، والقصد هو الأسنان البيضاء المستوية، المعتدلة في شكل جميل كأنه الوشي، أما الصهباء فهي" اللون الأحمر أو الأبيض المائل إلى الحمرة»[xxii]، وهو لون اللسان والشفتين  والمسك « نوع من الطيب تسمية العرب المشموم، يؤخذ من الظباء »[xxiii]. وعطر المسك هنا نابع من فم المحبوبة الجميل.     

2- دلالة الخمر :

      إذا كانت الصهباء هي الخمرة ، فإن الحباب هو ما يعلو الخمرة من فقاقيع بيضاء ، وهذا المعنى لا ينفي الدلالة الأولى بل يؤكّدها وينطلق منها ليبرز حال الشاعر النفسية بسبب الفصل الذي تسبّب فيه العواذل بينه وبين محبوبته التي لم يعد يرى ثغرها بل يسمع من الآخرين عن جمالة مما يزيد في حزنه ، وللتصدي لهذه الحال لجأ الشاعر إلى تغييب العقل عبر معاقرة الخمر.

3- دلالة الراحلة والشاعر المرتحل :

     لا يمكن للرحلة في القصيدة العربية القديمة أن تتم دون وجود للراحلة ،فهي أهم وسيلة للانتقال إلى الممدوح ، وهي وسيلة تغيير واقع مرفوض إلى واقع آخر يرجى بلوغه ، ومن حسن الاختيار أن الكلمة التي تعبر عن وسيلة الانتقال هذه هي «الصهباء » ،وهي في معناها المعجمي تطلق" على الناقة أو الفرس البيضاء التي تقترب إلى حمرة " [xxiv] والنفح «دفعة الريح الطيبة  و نفح الطيب ، بمعنى أرج و فاح"[xxv]

     فالعدل "هو من كان عادلا منصفا ، وعدل فلان بفلان سوّى بينهما"[xxvi] ، فهذا المسواك شهد شهادة العادل المنصف محاولة منه التسوية بين الطرفين المتخاصمين، رغم أنه كان طفحا أي ملأه الشراب وكان في غياب تام للعقل لا يستطيع التمييز بين الأشياء ورغم ذلك فقد شهد بطيب هذا العطر.

     والمرتحل هو « حباب على صهباء » وهو تركيب لغوي بسيط لكنه يمثل المحرك الأساسي لخيوط هذه الأبيات كلها ، فكلمة "حباب "مثلها مثل كلمة "صهباء "هي كلمة أساسية لتحقيق الغرض الأسلوبي من هذا المقطع الشعري كله، لذلك جاءت في القصيدة «حباب على صهباء» ، و الحباب لغة له مجال لغوي واسع فهو " حبا البعير إذا برك وزحف من العياء، وحبا الشيء دنا، وحبا حبوا مشى على يديه وبطنه"[xxvii].

     وفيما يلي تلخيص للاختيار الأسلوبي للفظتي (الحباب والصهباء ) :

حُباب : اللون الأبيض     /   فقاقيع بيضاء تعلو كأس الخمر    / الرجل المحب

صهباء : اللون الأحمر      /  الخــمر        / الناقــة

 

     الثــغر            الحالة النفسية للشاعر            الرحلة إلى المحبوبة

     فإذا أخذنا بالمعاني الأولى الدالة على الألوان ، جاءت الدلالة سطحية معبّرة عن ثغر المحبوبة الجميل الذي امتزجت فيه حمرة الشفتين ببياض الأسنان ، ليزينه عطر جميل يفوح منه أثناء ابتسامها لمحبوبها، وهي صورة جميلة ، وتعبّر عن نوع من الاستقرار في العلاقة بين الطرفين.

     ولكنّ هذ الحال السعيدة التي يبدو عليها الشاعر سرعان ما تتغيّر ، حينما نأخذ بالمعنى المعجمي الثاني لهاتين الكلمتين ، فإذا كانت الصهباء هي الخمر ، والحباب هي الفقاقيع البيض التي تعلو كأسها ، فإنّ الشاعر الذي يعاقر الخمر لا يبدو سعيدا كحاله في المفهوم الأول ، لأن الحال الثانية تعبّر عن انفصال في العلاقة يؤكّدها قوله ( يقولون ) دلالة على بعده عن هذه المحبوبة ، مما دفعه إلى الخمر سبيلا لتناسي هذه الحال الثانية .

     لتوفّق الدلالة الثالثة بين الدلالتين السابقتين فتحقق الوصل بين الشاعر ومحبوبته، وتزيل عنه مظاهر الحزن والأسى، وذلك من خلال تحوّل الحباب إلى الشاعر المحب، والصهباء إلى الراحلة التي ستوصله إلى محبوبته وإلى حال أفضل من الحالتين السابقتين .

     ليحقق هذا الاختيار الأسلوبي في النهاية ثلاثة مستويات دلالية استمدّت قوتها من المعاني المعجمية لكل لفظ ، والتي نجح الشاعر في الجمع والمزج بينها، لا ليدل على دلالة واحدة، بل ليوصل إلى القاريء تلك الدلالات جميعا .

آخر تعديل: Wednesday، 27 April 2022، 12:36 PM