الصوت ظاهرة فيزيائية عامة الوجود في الطبيعة، أما الصوت اللغوي فيمثل الأصوات التي تخرج عن الجهاز الصوتي البشري والتي يُحمّلها دلالات محددة يريد من خلالها التعبير عن أفكاره التي يدركها السامع ويفهم تلك المعاني ، ومن مميزات الصوت البشري :

- قيمته الفيزيائية النابعة من خصائصه الصوتية الخاصة والتي يكشف عنها علم الأصوات (الفونيتيك)

- قيمته الفيزيولوجية النابعة من تأثيرات الجهاز الصوتي ، ويدرسها علم الأصوات الوظيفي (الفونولوجيا)

- قيمته النفسية النابعة من تأثّره بالحالات الخاصة للمتكلم أو السامع .

    وقد اهتم النقاد الأسلوبيون بدراسة الصوت الشعري لإيمانهم بقدراته الكبيرة على التعبير الإبداعي الذي يعضد التعبير التواصلي ويؤكده ، ولقدرته على تحقيق الانسجام النصي الذي هو " نتاج الإيقاع الداخلي للنص الشعري الذي ينبثق عن شبكة من العلاقات التي تنشأ بين الأصوات في صلب البيت الواحد، ثم تتفرع لتعم القصيدة بأسرها ، وتجعله ينصهر في شكل نسيج خصوصي من الكلام يوقّعه مبدأ مركزي هام هو مبدأ التناغم الصوتي، ومبدأ التناغم الصوتي الدلالي "[i] .

    وهذا المبدآن ينشآن في النصوص الإبداعية عبر استغلال المبدعين لصفات الصوت من جهر وهمس وانفجار واحتكاك وغيرها ، وربط تلك الصفات بالمعنى ، فهذه الخصائص " لا تسهم في التشكيل الإيقاعي للنص فحسب ، ولكنها تسهم في تشكيل المعنى الدلالي الذي يطرحه النص الشعري "[ii]

    ومن خلال علاقة الصوت بالمعنى، ينشأ التناغم الصوتي الدلالي على مستوى أكبر هو مستوى الكلمة، حيث أن لجرس الكلمة و وقع تأليف أصوات حروفها وحركاتها دورا هاما في إثارة الانفعال المناسب . والإيقاع الداخلي للألفاظ ينشأ من التماثل الصوتي الذي تحدثه الكلمات المتجانسة ،كما يحدث من التماثل الصرفي على مستوى الصيغة ، وفي تشكيل أكبر يمكن أن تتضام الكلمات المتجانسة صوتيا و المتجانسة صرفيا ، مكونة ما يسمى بالتوازي الصوتي الذي يحدث توازيا إيقاعيا يكون له إضافة إلى الدور الإيقاعي دور في تشكيل دلالة النص .

     أما علاقة الصوت و بالمعنى أو القيمة التعبيرية للحرف ، فابن جني واحد من القدماء الذين توسعوا فيها إذ انتهى إلى تحديد في علاقة الصوت بالمعنى ضمن "اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبرة عنها بها ترتيبها و تقديم ما يضاهي أول حدث و تأخير ما يضاهي أوسطه سوقا للحروف على سمة المعنى المقصود  والغرض المطلوب ومن ذلك قولهم: بحث، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض ،  والحاء لصلحها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب و نحوهما ، إذا غارت في الأرض ،و الثاء للنفث  والبث  وهذا أمر تراه محسوسا محصلا"[iii]

    وتأكيدا لهذا الرأي يرى إبراهيم أنيس أن "الدلالة الصوتية مستمدة من طبيعة بعض الأصوات فكلمة ينضخ كما يحدثنا كثير من اللغويين القدماء تعبر عن فوران السائل على قوة وعنف، وهي إذا قورنت بنظيرتها (ينضح) التي تدل على تسرب السائل في تؤده و بطء، يتبين لنا أن صوت الخاء في الأولى له دخل في دلالتها، وعلى هذا فالسامع يتصور بعد سماعه كلمة (تنضخ) عينا يفور منها النفط فورانا قويا عنيفا"[iv]

    والأسلوبية الصوتية هي فرع من علم الأسلوب "يهتم بالجانب الصوتي والفونولوجي في النصوص الجميلة ، ويساعد على كشف دور التوظيف الصوتي في تجسيد الخيال وتحقيق الصورة عبر أبعاد التكرار والتقابل والتوازي على مستوى الأصوات المفردة ، وعلى مستوى السياق الصوتي "[v].

      وأهمية الدرس الصوتي في التحليل الأدبي كبيرة ، "ذلك أن أية دراسة على أي مستوى من مستويات البحث تعتمد كل خطواتها على نتائج الدراسات الصوتية ، وذلك بالطبع أمر يمكن إدراكه ، إذا فهمنا أن الأصوات هي المظاهر الأولى للأحداث اللغوية ، وهي كذلك بمثابة اللبنات الأساسية التي يتكون منها البناء الكبير "[vi]

    وسندرس الأصوات أسلوبيا من خلال مصطلحي التكرار والتواتر، أما الأول فهو " الإتيان بعناصر صوتية متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفني ، والتكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره"[vii]، والمقصود بذلك أن تأتي العناصر المتماثلة متتالية في سياق النص، أو بمعنى آخر تظهر قريبة من بعضها مكانيا وزمانيا ، أي أنّ القاريء يعيد قراءتها في فترات زمانية قريبة من بعضها، كما يلاحظ تكرارها لقرب هذه الظهورات بعضها من بعض .

    وأما الثاني فهو " نسبة تكرارها إلى وحدة زمن في بث شفوي، أو إلى مدّ كمي ، كتواترها في نص أو كتاب ، أو نسبتها إلى مجانساتها في سياق ما "[viii] ، والمقصود بذلك أنّ الصوت المتواتر يلاحظ من قبل المتلقي من خلال بروزه على مجانساته من الأصوات ، ويعتمد الأسلوبيون لتأكيد ذلك على قياس نسبة هذا البروز إحصائيا .

    وخلاصة لما سبق يعتمد النقاد الأسلوبيون على مختلف النقاط سالفة الذكر مداخلا إجرائية لتحليل المستوى الصوتي، فكل خصيصة  يمكن أن تتحول إلى مفتاح يلج منه الباحث إلى عالم النص المغلق سواء كانت صوتية ثابتة في نظام اللغة، أو كانت فونولوجية متغيرة بحسب تأثيرات الاستعمال التي يفرضها على الكلام عموما وعلى النص الإبداعي بشكل خاص، مع ربط المعاني المستمدة من هذه الخصائص مع مختلف مستويات النص الأخرى في شكل شبكة علائقية أفقية وعمودية للوصول إلى الدلالات العميقة للنص.

التطبيق :

    لتأكيد هذه الأفكار ولاستغلال القيم الصوتية في تأويل معاني النص ودلالاته نحلل النص الشعري الموالي : قال الشاعر :

نزفت قصائد الشعر

صبابة الشوق على الطريق ...

جاءتك أجنحة الموج

وجاءك جمر التراب

وجفا عنك الصحب

*     *      *

فاحتم بقوس الجيم

من جنون الآتي

واكتب ليكون الشعر

لا لتكون الحداثة[ix] .

التحليل :

    مفتاح القصيدة الدلالي يظهر في السطرين الأخيرين من هذا النص الشعري ، فهما يحملان دعوة في شكل أمر غير حقيقي إلى كتابة الشعر حرا صافيا من كلّ الشوائب التي يمكن للحداثة المتأثرة بالغرب أن تشوبه بها .

    أما مفتاح القصيدة اللغوي فقد ارتبط بحرف ( الجيم ) الذي تكرّر في أغلب أسطر هذا النص الشعرية والذي مثّل ظاهرة أسلوبية تلفت انتباه القاريء وتدفعه إلى التساؤل عن سبب هذا التكرار ، وهل له علاقة مع الإطار الدلالي الذي يربط النص بموضوعه العام.

    وانطلاقا من هذه الفكرة يستطيع القاريء أن يفهم سبب النزيف الذي أصاب قصائد الشعر في السطر الأوّل ، فهو نزيف مرتبط بالفعل الماضي وصولا إلى الحاضر ( نزفت ) مما يدل على أنّه وصف للحال التي وصل إليها الشعر ، ودليل على استمرار هذه الحال أمدا طويلا، غير أنّ الذي يثير الدهشة الأسلوبية هو أنّ شكل هذا النزيف قد ظهر في شكل حنين وشوق، وصبابة وحب إلى شيء فقدته هذه القصائد على طريق تطورها الطويل والحافل بالأحداث والتغييرات .

    وبين القصيدة القديمة المفقودة التي يحنّ إليها الشاعر ، والقصيدة الجديدة النازفة ، بين هذه البداية وهذه النهاية يتكرر صوت الجيم ليربط بين مرحلتين يراهما الشاعر متناقضتين ، فما دلالة ذلك ؟

    إنّ تكرار صوت الجيم في هذا النص لم يحمل تأثيرا إيقاعيا بارزا ، فهو من الأصوات التي لا تحمل نغما موسيقيا مؤثرا والدليل على ذلك هو قلة القصائد العربية التي اتخذته رويا ، ولكنّ الذي يكتشفه الباحث أنّ هذا الصوت هو من الأصوات العربية المتميّزة جدا فهو " صوت مركّب ، وهو الصوت العربي الوحيد الذي له هذه الصفة ، فهو لثوي حنكي انفجاري احتكاكي ، شديد ورخو معا "[x] ، وهذا التركيب جمع بين صفتين متناقضتين هما الجهر والهمس في الآن نفسه مما أعطى لتكرار الجيم قيمة دلالية مهمة في هذا النص، فهي ربما تشير إلى القصيدة القديمة والقصيدة الحداثية معا ، خاصة إذا علمنا أنّ الصفات الأولى ترتبط بجيم اصطلح عليها علماء الأصوات ( الجيم القرشية )، وأنّ الصفات الثانية ارتبطت بجيم حداثية اصطلحوا عليها ( بالجيم التونسية) " والجيم التونسية مخرجها عند الطيب بكوش أدنى حنك، ودرجة انفتاحه هي الرخاوة وصفته هي الهمس "[xi]، أما الجيم القرشية القديمة فهي "صوت لثوي حنكي مجهور ينطق به القرشيون وقرّاء القرآن الكريم"[xii]  .

    وبما أنّ الجيم نوعان قديمة ومعاصر ، فلا بد أنّ الشاعر اختارها للدلالة على القصيدة القديمة والقصيدة المعاصرة في هذا النص ، واختار أن يسقط صفات كلّ صوت على النوع الذي يرتبط به ، فالذي يبرر الفعل (جاء) الذي تكرر مرتين ورد بعد الفعل ( نزفت ) هو دلالته على الصفات الجديدة التي حملتها الحداثة للقصيدة العربية ، والتي ارتبطت بدلالات سلبية ( أجنحة الموج وجمر التراب ) مما يشير إلى السلبيات التي أصابت القصيدة العربية المعاصرة .

    وهو ما تسبّب في جفاء القرّاء عن هذا النوع من الشعر الذي لم يجد قبولا وسط جمهور المتلقين الذين صورهم النص كأصحاب اختاروا أن يبتعدوا عن رفيق تربطهم به علاقات وثيقة ، لأنّ قوة أكبر منهم تسبّبت في بتر الصلة بينهم وبين صاحبهم ، أو بين النص الشعري العربي وبين قرّائه .

     فصوت الجيم في المقطع الأول من هذا النص هو جيم تونسية معاصر رخوة فقدت قوتها وبريقها ، ومهموسة فقدت صوتها الجهور ، لتصبح أقرب في النطق إلى صوت الشين[xiii] وهو ما يؤكد دلالة التفشي التي في هذا الصوت ، والتي تبرر تفسي تلك السلبيات في الشعر العربي المعاصر بسبب الحداثة المستمدة من ثقافة فنيّة تختلف عن الثقافة العربية العريقة .

    وما يؤكد هذه السلبيات هو محاولة القاريء قراءة الجيم في المقطع الأول من القصيدة معاصرة بصفاتها الجديدة ، فالركاكة في النطق ستفقد النص شعريته الجميلة لتحوّله إلى كلام قريب من العادي رغم ما يحمله من إيقاع .

    وللتأكيد على أنّ الاختيار الأسلوبي لتكرار صوت الجيم كان لغرض دلالي أكثر منه إيقاعي، ما نجده في المقطع الثاني من هذا النص ، فقد اختار الشاعر الصوت نفسه ليكون مدافعا عن لشعر العربي المعاصر حينما دعاه إلى الاحتماء بقوس الجيم القرشية القرآنية العربية القديمة، التي تتصف بالقوة والجهر والانفجار من جنون ما ستأتي به هذه الحداثة من سلبيات، والدليل على هذا المعنى ما ذكره صراحة في السطرين الأخيرين ( اكتب ليكون الشعر لا لتكون الحداثة )

    وخلاصة القول أنّ التكرار الأسلوبي لصوت الجيم في هذه القصيدة حمل إضافة إلى التناغم الإيقاعي تناغما دلاليا مهما ، واختيار الشاعر له يرجع إلى تميّز هذا الصوت المركّب، فهو الصوت العربي الوحيد الذي يتميّز بالجمع بين صفتين متناقضتين هما الجهر والهمس .

    والذي توصّل إليه التحليل أنّ الجيم في الأسطر الثالث والرابع والخامس تنطق معاصرة رخوة مهموسة وبالتالي فهي تشير إلى القصيدة المعاصرة ، أما الجيم في السطرين السادس والسابع فتنطق فصيحة قوية انفجارية وبالتالي فهي تشير إلى الشعر العربي القديم ، وهو ما يبرر دعوة الشاعر إلى الاحتماء بها ، وهي دعوة ضمنية للعودة إلى الأصالة الفنيّة .

    كما أنّ صفات التفشّي التي طرأت على هذا الصوت المعاصر بررت تفشي الكثير من السلبيات في القصيدة العربية المعاصرة ، ولعل أهمّ تلك السلبيات هو تخليه عن طابعه الإيقاعي الذي يعدّ أحد مصادر قوته.

    وهنا نعود إلى البداية إلى المفتاح الدلالي الذي انطلقنا منه في بداية هذا التحليل ، لنفهم أنّ فعل الأمر ( أكتب ) ما هو إلاّ دعوة إلى كتابة شعر العربي السليم المتحرّر من قيود الحداثة الغربية التي لا تمتّ بصلة إلى الأصول العربية العريقة .

Modifié le: Wednesday 27 April 2022, 12:36