أولا ـ الأسلوب من حيث المخاطِب:
وتقوم وجهة النظر هذه من التفكير الأسلوبي على التوحيد بين الأسلوب ومصدره، فالأسلوب هو الصورة العاكسة حقيقة لشخصية المنشيء، وقوام الكشف لنمط التفكير عند صاحبه، وتتطابق في هذا المنظور ماهية الأسلوب مع نوعية الرسالة اللسانية المبلغة مادة وشكلا.. والسبب في ذلك أن العلاقة العضوية بين اللافظ والملفوظ من العمق والحدة أحيانا بحيث يتعذر على الفاحص فصل الباعث والمبعوث وجودا، فالرسالة لا تصدر إلا وهي حبلى بما نفخ فيها المرسل من نفسه وفكره ومراداته وقيمه الاجتماعية والثقافية، ما يجعل منها أصدق معبر عنه، "فلا يقتصر التناظر على تقريب صورة الأسلوب من صورة فكر باثه وإنما يغدو الأسلوب هو ذاته شخصية صاحبه، وهو حد من التمازج تختلط فيه تلقائية الأسلوبية والذات المفرزة له" ()، ولعل هذا الالتحام القائم بين الذات وبين الخطاب قد بلغ حدا تتماهى فيه الشخصية مع أسلوبها الذي يجمع مزيجا منسجما من الأفكار والعواطف كما أشير في "فن الكتابة" حيث يقول "إذا فكرنا بأنفسنا، فإننا سنلاحظ أن أفكارنا تتمثل ضمن نظام يتغير بتغير المشاعر التي تؤثر فينا، ومن هنا يكون مولد عدد من الطرق لإدراك الشيء نفسه بما نعانيه من مشاعر متتابعة، وأنتم تفهمون إذن أننا إذا حافظنا على هذا النظام نفسه في الخطاب فإننا سنقوم بإيصال مشاعرنا حين نقوم بإيصال أفكارنا" )، وإن كان الأمر يظهر بشكل جلي عند بيفون 1707-1788) الذي اعتبر الأسلوب هو الرجل، وليس ما يظهر على اللغة من خصوصيات تسمى أسلوبا سوى خواص ذواتنا وأفكارنا ومشاعرنا، "إن المعارف والوقائع والمكتشفات تنتزع بسهولة وتتحول وتفوز إذا وضعتها يد ماهرة التنفيذ، هذا الأشياء إنما تكون خارج الإنسان. أما الأسلوب فهو الإنسان نفسه، لذا لا يمكنه أن ينتزع أو يحمل أو يتهدم" ، لذلك ربط لافونتين بين مستوى الكتابة وعبقرية الكاتب وأسلوبه في التفكير حين قال "إن الكتابة الجيدة هي التفكير الجيد" ()، وهي فكرة سيطرت في فترة عصر النهضة وما بعد النهضة، حيث ارتبط "مفهوم العبقرية العتيق.. وهو نوع ن الميل الطبيعي للفرد بالإلهام الشعري، وفي هذا السياق ـ أي ارتباك العبقرية بالتأثيرات الفلكية ـ كان العبقري الأدبي متعاليا على النسق الترابي لأنواع الخطاب، حتى عندما يتحرك بشكل طبيعي في إطار الأسلوب الأعلى، ويظل هذا التصور مرتبطا ارتباطا بالدين ـ فقد أعطى Rosard ـ لنفسه تلقائيا دور الوسيط بين الإله والأمير.. ـ وظلت المشاريع الأدبية الكبرى لعصر ما بعد النهضة ـ متعلقة بصورة العبقري الذي تكون في عصر النهضة وجعلت من الأسلوب مطلقا شخصيا، ما عدا المذهب السريالي الذي احتفظ بمبدإ الكتابة الآلية التي تتولد من اللاوعي . فالأسلوب إذن طبيعة منتزعة بكل تفاصيلها من صاحبه، فهو "للكاتب طبيعته الثانية، وبذلك يكون سهل الإنشاء، يصدر عن صاحبه حديثا أو محاضرة أو تأليفا، كأنه يتنفس أو يبصر، وهذه آخر درجات القدرة البيانية" . ولعل في حصر الأسلوب ومحاولة تحديده من زاوية صاحبه تجنيا، لأنه قد يخلو مما يشير إلى أفكاره وميولاته ونفسيته إما قصدا منه لإخفائها أو لأن طبيعة الموضوع لا تسمح بذلك كما في النصوص ذات الطابع العلمي، كما قد يتعمد أبراز خلاف ما يبطن من باب التضليل والتغليط للمتلقي. ناهيك أننا بهذا نتجاهل ثنائية مهمة في أي عمل أدبي وهي ثنائية الشخصي والموضوعي التي أشار إليها راستيي في قالب إشكالي بقوله: "نحن هنا في مفترق طرق اللسانيات التي تعنى بالنظرية الأدبية، والسؤال المطروح هنا: ما هي الشروط التي تجعل من نص ما مؤلَفا؟ يتعلق هذا الأمر بخاصيته التي تجعله فريدا وغير قابل للاستبدال، وتسمح له بفتح التقليد التأويلي الذي يمكن أن يرفعه إلى منزلة الفن الكلاسيكي. إذا ألحقنا هذه الخاصية بالأسلوب فإن الإطار الذي يحول الظاهرة إلى واقع شخصي يمكن أن يلحقها بالمؤلِف ويفسرها بحياته النفسية. في حين أن الإطار الذي يحولها إلى واقع موضوعي يلحقها بالأشكال النصية المتميزة، أي إن تمايز الأساليب قد يرجع أساسا إلى سببين، أما الأول فاختلاف الأدباء وما يضفونه على خطاباتهم من خصوصية، وأما الثاني فعائد إلى الموضوع والجنس الذي ينتمي إليه الخطاب، "فالموضوع هو السبب الأول الذي يقوم عليه اختلاف الأساليب، ويراد بالمضوع الفن الذي يختاره الكاتب ليعبر به عما في نفسه، علما أو أدبا، نظما أو نثرا، مقالة أو قصة أو رسالة أو خطابة.. فلكل منها أسلوبه الخاص الذي يلائم طبيعته