إذا كان علم الأسلوب النظري يعد أطارا تفسيريا لأدبية الأدب، وإمكانات توقعية لما يمكن أن يكون عليه الأسلوب الأدبي عامة في لغة ما من اللغات، بالاستعانة بالوقائع اللغوية وحدها، فإن علم الأسلوب التطبيقي هو توظيف لمجموع الإجراءات التي تشكل استراتيجية شاملة في إطار النظرية الأسلوبية، من خلال الإسقاط على أسلوب كاتب معين، أو جيل محدد أو فن بعينه في لغة من اللغات، من طريق تتبع جزئيات الظاهرة الأسلوبية التي تتوزع على امتداد الخطاب الإبداعي، ولكن بصورة مغايرة لما ألفته البلاغة، بل ومغايرة حتى لما درج عليه النقد الأدبي من بعد، وقد كان للبنيوية الدور البارز، كما أسلفنا، في توفير الإطار المنهجي للمقاربة الأسلوبية للخطابات عموما وللأدبية منها على وجه الخصوص، وقد استفادت منها أيما استفادة، فلقد ساعدت البنيوية "في التأسيس لنقد جديد لأسلوبية النصوص قام في الوقت نفسه على تحليل موضوعي لوظائف اللغة وعلى معايير جديدة للوصف.. وذلك في سعي [البنيوية] لأن تكون اللغة نظاما " ()، بالنظر إلى اللغة على أنها نظام من القيم الخلافية التي تتولد من التشكيل اللغوي للإرساليات اللغوية المعدودة خطابا، فلولا ذلك الانتظام ما ظهرت تلك القيم الداخلية التي يعد الكشف عنها جوهر عمل المحلل الأسلوبي، والممهد للكشف عن القيم الخارجية بالمقارنة بين تلك القيم الفارقة المعتبرة أدبا وبين نظيرتها التي هي المعيار الذي كان بالنسبة إليه العدول والحيد.
إن اشتغال العمل الأسلوبي التطبيقي وإن كان يستعين بما تقدمه النظرية اللسانية من معطى معرفي وحتى منهجي، وما تبذله النظرية الأسلوبية أيضا فيما يتعلق بالأساليب الأدبية في عموم اللغات، فإنه يستهدف الوقوف على وجوه الخصوصية في أسلوب ما، داخل اللغة المعينة، من غير الارتهان للنزعة التعميمية في الاستنتاجات التي تظل متغيرة وباستمرار بتغير النص موضوع التحليل، وهنا يتجلى طابع المفارقة المتأتية من تولد النسبي والمتغير ـ نتائج التحليل ـ من الثابت والمطرد ـ وهو مجال النظرية سواء كانت لسانية أو أسلوبية ـ والمفارقة الأخرى، وهي تولد التسنين الفردي من ثنايا العرف اللغوي الجمعي الثابت، المعدود معيارا وشرطا لسلامة التواصل، وهذه الخصوصية الثانية هي التي تشكل عامل إثارة بالنسبة للمتلقي التي يعمل المحلل الأسلوبي على تعليلها، "فالقراءة الأسلوبية ليست إلا تدريبا للقدرة الطبيعية على قراءة، وما نسميه اختيارات وانحرافات ليس إلا توضيحا لأسباب القلق التي يشعر بها القارئ" ()، وهو قلق مبعثه تلك الخصوصية الناتجة عن مخالفة عموم المعيار اللغوي القار، والدارج في إطار الجنس، أي إن التفسير الذي القيم الفردية التي يفصح عنها التطبيق يمكن ملاحظه "من خلال الابتعاد عن التعميمات المطلقة إلى تحديد المجال بلغة معينة للخروج منها بالتنويعات الأسلوبية التي لا تعتمد على الناحية الفردية، بل تستمد وجودها من القيم التعبيرية في اللغة ونظامها" ().
لكن المجازفة الكبرى التي قد تعتري التحليل الأسلوبي، الذي يعد في جوهر وجوده وعلة جدواه منهجا آنيا، بعيدا كل البعد عن الأحكام المعيارية التي لطالما رسفت فيها البلاغات القديمة، تكمن في ما يمكن أين يقع فيه المحلل الذي يستعين بالأدوات الإجرائية للتحليل من استصحاب لجملة المعايير التي يوفرها علم الأسلوب النظري، ثم إسقاطها بحذافيرها على النص موضوع التحليل دون مراعاة لخصوصياته، أو أن يتصيد لها ما يناسبها فيه فيبدو أثرا من آثارها، وهذا عمل لا يعدو أن يكون استنساخا لأعمال سابقة مشابهة أو مطابقة، ومن ثم فهو لا يولد إلا صورة مشوهة من تحليلات متقدمة أو محايثة لنصوص داخل اللغة مجال الإنتاج، أو ليا لأعناق النصوص وتطويعا لبعض ما فيها ليتناسب وما تقتضيه تلك المعايير وتلك القوالب النظرية، وهذا يشيع كثيرا خاصة في الأسلوبيات التطبيقية العربية المعاصرة. كما شاع في غيرها من التحليلات الأسلوبية نظير ما وقع فيه أتباع شارل بالي الذين راحوا " يطبقون معاييره في شرح النصوص، كما أن المقصود بها سمات متأصلة وليس مجرد أدوات. وهكذا ذهب رواد رمزية الأصوات إلى الإلحاح على حرف الراء آليا وإلى التشديد على إمالة كل حروف الياء، وإلى الضغط على حرف الباء دون أن يشغلوا أنفسهم بمعرفة ما إذا كان السياق يحقق فعلا إمكانيات اللغة هذه.. لهذا اتبعوا الطريقة نفسها في خلط اللغة بالخطاب، واكتفوا بتوزيع النص على جدول فارغ من الاستعارات والحذف والتقديم، والبناء الوجداني الذي إذا وقعوا خارج سياقه فقدوا المعنى الذي يعزى إليه (غيرو68، 69. يلاحظ أن الترجمة في الفقرة المقتسبة قلقة لما فيها من أخطاء تركيبية وتصريفية).
كما أن هناك تحديا آخر يقف أما علم الأسلوب التطبيقي يتعلق بأمرين:
أ ـ أما الأول فتحديد مقاطع الخصوصيات الأسلوبية التي تشكل المظاهر الأبرز في الخطاب، أو ما دعاه ريفاتير المقاصد الأكثر وعيا عند المؤلف ()، وهي مدار عمل الأسلوبي القائم على الانتقاء، خلاف عمل اللساني الذي يجمع كل ما يصادفه من الوسائل التعبيرية داخل الخطاب، غير أن عملية الانتقاء تلك تصاب بعطب الدور على حد تعبير المناطقة، لأنها تقتضي التحليل الشامل للنص. هنا يستعان بإجراء القارئ النموذجي، وهو قارئ مفترض، قد يكون زيدا أو عمرا من الناس، كما قد يكون المحلل الأسلوبي نفسه، ولا يعد هذا الإجراء "إلا مرحلة استكشافية أولى من التحليل: وهو بالطبع لا يلغي التأويل وحكم القيمة عل المستوى الهرمينوطيقي، إنه يضمن ببساطة أن هذا التأويل سيجري على مجموع الوقائع المميزة، وليس على نص مصفى بواسطة ذاتية القارئ، أو مختزل إلى ما ينسجم في النص مع ذوقه أو فلسفته، أو ما يُعتَقد بمعرفته من ذوق المؤلف وفلسفته ومقاصده" ()، وليس هذا فحسب، فالإجراء التحليلي لا يقف إلا عند المفاصل التي تمثل وجوه النص المتفردة، وبحكم "أن وقائع الأسلوب المميزة مجمعة من بداية النص إلى نهايته فلن يحتفظ منها في تحليل المجموع إلا بالنقاط التي يلتقي عندها انتباه (ن) من القراء والنقاد والمحللين" ()، أي ما تقع المواطأة عليها بشكل شائع وفاش ومتكرر بين مجموع لا متناه من القراء.
ب ـ وأما الثاني فرهان التأكد من أن ما يبدو ظواهر أسلوبية هو فعلا كذلك، أي إن التحقق من الفرادة الأسلوبية لتلك الظواهر التي تعبر به ضفة كونه وسيلة تعبيرية إلى ضفة كونه عملا فنيا وتشكيلا إبداعيا، وهو ما يعطي للأسلوب قيمته وماهيته، يقتضي تحديد النمط الذي كان بالنسبة إليه العدول أو الانزياح، وهنا يتكشف الإشكال الثاني، الذي فحواه: ما هي طبيعة الدرجة الصفر وما هو المستوى الأدني اللذان عدل عنهما المبدع وتجنب النسج على منوالهما ليخرج لنا نصه على ما هو عليه؟ هل الأمر يتعلق بخصوصيات تعبيرية تطبعهما في مستوى الألفاظ، وهي حينئذ تتعلق بالجدول، وحينئذ يلجأ في لكشف عنهما إلى ما سماه رولان بارت بالفحص الاستبدالي، الذي يقوم على إحداث تغييرات على مستوى الاختيارات التي تمس المفردات، وما تحدثه من معطى القيمة، وهو نمط شبيه بما اتبعه رومان جاكبسون في تحليله للاستعارة وما تتقاطع فيه مع مرض الأفازيا، أم هي حاصل خضوع لتنميط نحوي ونهاية تفاعل لعناصر النظام في مستواه الأدنى (المستوى التعبيري)؟ والحقيقة أن التقابل المتخلق بين مستويي اللغة الذي منه تنتج المفارقة لا يقوم أبدا على التناقض، ولا ينهض على التنافي، وإنما هو اختلاف في الدرجة على مستوى سلم النوعية، باعتبار أن حدة المفارقة ليست لا يرتد إلا إلى طبيعة الاختيارات الجارية عموديا وأفقيا ضمن ما تسمح به الأنماط القارة، على الرغم من خاصية التحكمية والصرامة، أي إننا بصدد درجات من الحيد تقف في مواجهة اللغة المحايدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه يصعب علينا تحديد "اللغة المحايدة التي تعد صناعة خالصة للمتخيل النحوي" ()، فما يمكن أن ندعيه لغة محايدة قد يكون واحدا من البدائل التعبيرية، ناهيك أن نخوض في البدائل الفنية التي لا يمكن بحال اختصارها في التصوير والمجاز، نظير ما قوبلت به فكرة البنية العميقة في نسبة البنية السطحية إليها، في نظرية النحو التوليدي ().
ويظل السياق الأسلوبي يؤدي دورا مهما في تحديد القيمة الأسلوبية لما نقرأه، وهو سياق يتشكل عبر مسار ثنائي يؤطر القارئ، ويكاد يكون متزامنا، فمن ناحية هناك تصور تام لما تمت قراءته، ومن ناحية أخرى هناك محاولة لفهم وإدراك ما هو بصدد قراءته، ()، وهي ثنائية يرتهن فيها تحصيل الجديد في قود ما أحيط به، وتظل الآلية جارية حتى يستوفي القارئ كل وحدات الخطاب.