كل هذه تعد بمثابة مقدمات مهمة لدراسة الأسلوب والعناية به، وإن كان إسهام اللسانيات المضيقة جد محدود، لعنايتها بآفاق لا تتعدى الجملة من ناحية، ولتركيزها على المعيار والعموم الكامن في النظم الدنيا للغة من ناحية ثانية، وأما هذا العوز الذي استمت به اللسانيات في تعاملها مع ظاهرة النص المبني على السلاسل اللغوية المتجاوزة للجملة، كان لابد من التفكير جديا في ضرورة انفتاح اللسانيات على الخصوصي إلى جانب العمومي المتأصل في معالجاتها على حد تعبير يلمسليف. إن "العودة إلى مفهوم الأسلوب ربما سمحت بتعميق ابستمولوجي في اللسانيات: أولا تكون مثل العلوم الاجتماعية الأخرى، مبحثا وصفيا قادرا على التفكير في الخصوصي؟ ألا يمكن طرح مشكل خصوصية النصوص ووصف.. ما يميز مؤلفات بلزاك عن مؤلفات سليست دوشابريان مثلا؟ [وقد طرح مفهوم الأسلوب مشكلين] ومن الواجب على اللسانيات أن تتصدى لهما، وهذان المشكلان هما مشكل المعايير اللهجية ومشكل خاصيات النص الجمالية". ولعل تعدد النظر إلى تلك الخصوصية وضرورة التصدي لها في تشكلاتها فتح المجال على معالجات مختلفة لقضية الأسلوب، كما فتحت المجال واسعا أيضا لظهور نظريات تسلحت بأدواتها الخاصة في مقاربة الأسلوب، وكان تحديد مفهوم الأسلوب أو ل نقطة خلاف بين تلك النظريات.
يرى راستيي أن أول ظهور لمفهوم "الأسلوبية" وكذلك "الأسلوب" كان بألمانيا في نهاية القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي ظهر فيها مصطلح لسانيات تقريبا. وإن كان يرجح أن استعماله كان سنة 1800 عند الفيلسوف والشاعر الألماني فريدريش فرايهير الملقب ب "نوفاليس"، أما المقابل الفرنسي للمصطلح فلم يظهر إلا سنة 1872. ومع مطلع القرن العشرين شاع اعتقاد أن علم الأسلوب قد توطدت أركانه بوصفه علما يهتم بدراسة الأساليب وخصوصيات التعبير على يد تلميذ دوسوسير وأحد جامعي دروسه "شارل بالي" الذي حاول جاهدا أن يصبغ الفرع الوليد بطابع العلمية والوثوقية، تأسيا بصنيع أستاذه في اللسانيات؛ لذلك حاول إقامة حدود مائزة بين الأسلوبية بوصفها مجالا أكاديمي يهتم بدراسة اللغة المستعملة فعلا، وبين الأسلوب الذي لا يعبر إلا عما هو فردي وخصوصي، ولم يكتف بهذه القطيعة مع الفردية التي تطبع الأسلوب، بل تجاوزها إلى قطيعة من نوع ثان، هي القطيعة مع الجمالية؛ بهدف الفصل النهائي بين الأسلوب والأسلوبية، ومثلما أعادت لسانيات دو سوسير الاعتبار للغة الشفهية وأعلت من شأن الكلام، في ثورته على الفيلولوجية والتاريخية التي لم تبرح عاكفة على النصوص والآثار المكتوبة، فقد حاول شارل بالي في أسلوبيته الجديدة الاكتفاء بالاستعمالات الشفهية التي تمثل الصورة الحية والعفوية في مقابل النوايا المبيتة، للغة الأدبية المصطبغة بالصبغة الجمالية الواعية والهادفة ، ومع كل هذه المحاولات لبالي في التفريق بين نسقي اللغة العام والفردي "لم تستطع نظريته أن تتنبأ بشيء، ولا يمكن تحديد الربط بين هذين النسقين"، ولا شك في أن هذا التخبط الذي بدا على توجه بالي ومحدودية ما ذهب إليه من النزعة العلمية ولدا نفورا من المسار الذي بصدد تأسيسه، وقد سارع أتباعه فيما بعد قبل معارضيه إلى " نبذ العلمانية الإنسانية، فوظفوا العمل الأسلوبي بشحنات التيار الوضعي فقتلوا وليد بالي في مهده"، كما نجد عند جيل ماروزو وكريسو، بل لقد ولدت المغالاة العقلانية تيارا أسلوبيا مغرقا في الانطباعية على يد أحد أقطاب المدرسة المثالية الألماني ليو سبتزر، الذي عمل على العودة إلى ذاتية ظاهرة تحليل الأساليب، واستصحب نسبية تعليل الظواهر وعدم خضوعها المطلق والصارم للتقنين العلمي، كما هو الحال في العلوم الطبيعية.
ومع مطلع أربعينيات القرن العشرين نجد نزوعا من ماروزو إلى المطالبة بأحقية وجود الأسلوبية، ولكن ضمن عائلة فروع الدراسة اللسانية، بحكم اتحاد الموضوع (اللغة)، ولم يكن هذا إلا تعرية لواقع مشوه كان من آثار الانهيار الأكاديمي للبلاغة الذي حدث في أواخر القرن التاسع عشر، وترك مفهوم "الأسلوب" فارغا، منذ ذلك الحين عمل النحو الذي تحول فيما بعد إلى "لسانيات"، وقد كان مجالا بحثيا مجاورا للأسلوبية، على إدخالها ضمن حقول علم اللغة، مع التنصيص على استقلاليتها النسبية، بحكم أنها ـ الأسلوبية ـ ليست إلا إشكالية من إشكالياتها، لها حضورها فيها، لتترسخ هذه المحاولة في التوأمة بين اللسانيات وبين الأدب في ستينيات القرن الماضي، من خلال العمل الذي قدمه رومان جاكبسون إلى ندوة جامعة "إنديانا" تحت عنوان "اللسانيات والإنشائية"، وهو ما أعلنه اللساني الألماني ستيفن أولمان في نهاية العقد نفسه حينما قال: "إن الأسلوبية اليوم هي من أكثر أفنان اللسانيات صرامة على ما يعتري غائيات هذا العلم الوليد ومناهجه ومصطلحاته من تردد، ولنا أن نتنبأ بما سيكون للبحوث الأسلوبية من فضل على النقد الأدبي واللسانيات معا". غير أن جان ستاروبنسكي حاول قلب المعادلة، وعلى الرغم من إثبات صلات القربى بين اللسانيات وبين الأسلوبية، فإنه يجعل للأسلوبية سلطانا على اللسانيات، وكأنها تمارس عليها نوعا من القهر المثمر؛ لكونها تجر اللسانيات إلى آفاق جديدة لم تكن تحتها بالأصل، ونعني المدى الأوسع من الجملة والأبعد عن الصرامة والعقلانية، وهو مجال الأسلوبية في ارتباطه بخاصية الجمالية التي لا تتولد إلا عبر النصوص، ليعيدها ميشال أريفاي مرة أخرى إلى حظيرة اللسانيات، حينما لم ير فيها إلا ممارسة واصفة للنصوص بأدوات ووسائل توفرها لها اللسانيات، ولذا فهي مجرد منهج من المناهج اللسانية لدراسة النصوص والخطابات الأدبية، بهدف الوقوف على نقاط "الإبراز" التي تتشكل بداخلها وتعطي الخصوصية الشخصية للأسلوب كما يرى ميشال ريفاتير، الذي وسع مجال الممارسة الأسلوبية ليشمل شكلي اللغة المكتوب والمنطوق معا، فإذا كان الأسلوب هو "ذلك الإبراز mise en relief الذي يفرض على انتباه القارئ بعض السلسلة التعبيرية"، فإن الأسلوبية هي العلم الذي يدرس الأساليب، فيتتبع تلك الإبرازات وانتظاماتها، كما يحتضن التزامنات بين مظاهر الاستمرار والتغير، الوجه الآخر للتزامني والزمني الذي يعكس سيرورة اشتغال المسنن encodeur والمفكك للسنن décodeur، أي إنها علم يدرس "داخل الملفوظ اللساني تلك العناصر المستخدمة لفرض طريقة تفكير المسنن على مفكك السنن.. بمعنى أنها تدرس التواصل .. باعتباره حاملا لبصمات شخصية المتكلم وملزما لانتباه المرسل إليه.. إنها تدرس المردودية اللسانية عندما يتعلق الأمر بتبليغ شحنة قوية من الخبر" (ريفاتير60)، وقد أنحى ريفاتير باللائمة على الانطباعية والمثالية والبلاغة المعيارية في تأخر تشكل الأسلوبية على هيئتها العلمية وتطورها بصورة كان يمكن أن تكون بوتيرة أسرع.